الفصل التاسع عشر - ج2

382 13 8
                                    

كان مدخل الجزء الشمالي القديم من قصر فاسيلييف ضخم جدًا؛ إلى درجة أنه ينافس مداخل أعظم الكاتدرائيات الأوروبية، مع أنها ضخامة ظاهرية ترجع جزئيًا إلى مؤثرات الوهم البصرية، بتأثير جانبي ناتج عن الباب الضخم المكسو بقشرة الذهب والبرونز، والأعمدة الزمردية الملساء، والقبة الهائلة التي تتوّج القاعة على ارتفاع يتجاوز المائة قدم، وعقد النوافذ المقنطرة الممتدة محيطها، وبحر الثريات اللامعة المثبتّة مركز تحدب القبة بأسلاك نحاسية متينة وطويلة، ومخطط الأرضية البيزنطية الدائرية المبلطة بقطع من الفسيفساء؛ أَلفّت لوحة فنية معقدة، تداخلت فيها الزخارف الحلزونية وعساليج اللبلاب وأزهار التوليب الجرسية لتشكيل دائرة كبيرة وسط البهو، حيث انعكس ضوء النهار المتسلل من خلال زجاج النوافذ على قطع المرايا المثمنة الصغيرة التي تؤطرها، مُولِدًا نورًا ذهبيًا أثيريًا، غمر المكان المهيب، وأغرقه، مبرزًا أدق تفاصيل ورق الحائط المخملي بارز النقوش واللوحات الزيتية النفيسة المعلقة فوقه.

أما في المنتصف، فقد تصدّر المشهد تمثال هائل الحجم يُجسد الرسم المنقوش على الدرع الموجود في شعار العائلة حاليًا، وروسيا القيصرية سابقًا، بدقة تفصيلية وتصويرية مذهلة، منحت الأيقونة الأرثوذكسية الشهيرة للقديس(مارجاورجيوس)، والعائدة إلى القرن الرابع عشر، أبعاد مختلفة، تمنح أي ضيف رسمي يدلف المكان ويستقبله التمثال المرصّع بالأحجار الكريمة الايحاء بأنه يقف بمواجهة المحارب الشجاع وهو يعتلي صهوة فرسه الأسود الضخم، مرفوع القوائم، وهالة القداسة الذهبية تحاوط رأسه، بينما يغرس مقدمة رمحه المدبب الطويل في حنجرة التنين المهزوم أسفله.

بدا البهو ـ المهجور نسبيًا ـ الذي لم تتغير تفاصيله منذ قرون، وظلَّ وفيًا إلى تاريخه: أصيل، وخالٍ من أي مظاهر للحداثة، كأنما تجمّد الزمن في محيطه من دهور خلت. كل شيء ما يزال يحتفظ بهيئته الأصلية القديمة، حتى يكاد المرء يعتقد للوهلة الأولى أنه انتقل إلى بُعد زمني آخر وتختلط عليه العصور، فيخيل إليه أنه سيرى امبراطور ما يجلس على عرشه أو تصادفه مجموعة من الفرسان والنبلاء وفاتنات البلاط، لولا اصطدامه على الفور بحداثة معدات التصوير المحمولة، جحافل الاعلاميين المدعوين إلى المؤتمر الصحفي، الموظفين المسؤولين عن تفقد الأسماء وإرشاد كل شخص إلى مقعده في القاعة الداخلية، والحرس السيبيريين الذين كانوا يتحركون رواحًا ومجيئًا في الشرفات المطلة والساحة المرصوفة خارجًا، كما لو أنهم رجال آليين مدفوعين بنوابض زنبركية.

كان الجميع منبهر، متحمس، وعلى أهبة الاستعداد لبث ونقل التصريح الرسمي نادر الحدوث من قلب القصر الحصين، الجميع يسعى لمباشرة مهامه بنشاط وتنظيم خلية نحل، والجميع يترقب الإعلان غامض التفاصيل كصحراء عطشى تنتظر عبور سماءها غيمة سخية مُحملَّة بالمطر. ووسط تلك الفوضى النظامية، وفي زاوية تكشف البوابة الرئيسية وكافة جوانب القاعة الرئيسية، وقف فلاديمير وقفة امبراطور لا يعرف الهزيمة، شامخ كجبل يتسلح بثباته أمام العاصفة، يحارب ماضيه بحاضره، ويصرع قديمه بجديده. شعره الكثيف الحالك مثل جناح الغراب مُصفف بعناية، قامته المديدة منتصبة وشامخة، كتفيه المستقيمان مشدودان تحت البدلة الرمادية الداكنة متقنة التفصيل، ملامح وجهه عبارة عن قناع فولاذي لا يمكن اختراقه لقراءة ما يدور بين جنبات أفكاره، شفتيه مزمومتان، طُرفه ثابت، وعيناه الزبرجديتان شاخصتان نحو جموع الاعلاميين الذين كانوا يتدفقون إلى منزله برعونة مُحتل يعتزم انشاء مستعمرته والاستيطان.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن