الفصل الخامس"الجزء الأول"

240 12 0
                                    

أعتمت سماء اسطنبول شيئًا فشيئًا، وتوشح لونها الأزرق الصافي بدرجاتٍ مختلفة من الرمادي، وقد هبت منتصف الظهيرة ريح باردة وعنيفة، أخمدت زعقَّات النوارس المحلقة، ودفعت الغيوم البيضاء، التي كانت تحلق كندف قطن خجول، تجاه الشمس الساطعة مباشرة، حيث تكثفت، قبل أن تفرغ حمولتها من أمطار الصيف المعتادة فجأة ودون سابق إنذار، ممَّا جعل المدينة تبدو كأنها استحالت إلى موقع انشاءات عملاق يكاد يغرق تحت زخَّات أواخر حزيران: هدير وضوضاء وأصوات احتكاك الحديد بالحديد كأنها صيحات وأهازيج حرب حماسية يطلقها ألف محارب، برك طينية موحلة حلَّت بدل الحفر الضخمة التي سرعان ما سينتصب مكانها خلال أشهر معدودة بنايات وأبراج حديثة متلألئة، ومواطنين وسياحٌ يتدافعون بين الباعة المتجولين ـ الذين يعرضون مظلات ومعاطف واقية للمطر، وهم يسيرون فوق الأرصفة الحجرية المتكسرة، بثيابٍ عملية مريحة وأخرى مفرطة الأناقة، وبين الحين والأخر، تتوقف إحداهن لانتزاع كعب حذائها العال، العالق بين الشقوق العتيقة، قبل أن تعتدل ثانية، رامقة حركة المرور بغضب مكبوت، لتمضي بدربها بعدها.

كانت الشوارع تختنق حتى ضاعت ملامح التقاطعات الرئيسية تحت غزو جيوش مركبات الأجرة الصفراء، والأخرى الزرقاء الصديقة للبيئة، وحافلات النقل التي تنفث أبخرتها السامة، مُشكِلة مجاميع سحب ضبابية داكنة سبحت وسطها سيارات مختلفة بأعداد لا حصر لها؛ سيارات مهترئة وقديمة لدرجة أنها تبدو خارجة توًّا من معرض لمقتنيات قرنٍ مضى؛ سيارات رياضية باهظة الثمن تزمجر محبطة لعدم توفر الطرق الملائمة لاستعراض مقدرة محركاتها؛ سيارات"سيدان"عائلية مخصصة للسير في الطرق الواسعة ـ التي لا يجدها المرء عادًة إلا في المناطق النائية واعلانات التلفاز الترويجية والمسلسلات التركية؛ وثمة سيارات أخرى صغيرة جدًّا، تكاد تكون بحجم عربة التسوق، مع ذلك لا يمكن لأبرع المناورات أن تحشرها في أماكن الوقوف المكتظة. بالنتيجة، أدى كل هذا، لحدوث أزمة سير خانقة، قلبت الدقائق إلى ساعات، وصيرَّت السائقين وحوشًا مضوا يصرخون بالشتائم عبر النوافذ بينما يطلقون أبواق سياراتهم الحادة بنفاذ صبر مسعور، رغم الحقيقة الثابتة والراسخة لدى الجميع هنا بأن هذه الفوضى السمعية النشاز لن تؤدي إلى إنفراج حركة السير، أو تساهم في تهدئة إنفعالات الجنون المطبق الذي بات يجري في شوارع العاصمة التاريخية ليلًا نهارًا، جريان عقار هلوسة يصب مباشرة في الدورة الدموية، وقد توسعت اسطنبول ـ كما يرى قاطنيها الممتعضين من حركة المرور المزدحمة دائمًا ـ على نحوٍ لا سبيل للسيطرة عليه، بعدما ظلَّت تتمدد وتتوسع مثل سمكة هلامية منتفخة، غير مدركة إلى أنها التهمت أكثر من طاقتها، ولا تزال تبحث عن المزيد حولها لتأكله، أثناء محاولتها المحمومة الاندفاع والتقدم لتقف على عتبة أوروبا الحديثة، دون أن تتمكن من حشر نفسها في الحيز الضيق لتلك العتبة، تمامًا مثلما لم تستطع أوروبا في المقابل من دفع الباب واغلاقه بوجهها في ذات الوقت.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن