الفصل السابع "الجزء الثالث"

177 12 1
                                    

تسابق الزمن في سان بطرسبيرغ، وأعلنت عقارب الساعة تخطيها منتصف الليل منذ أمد بعيد طلع فيه القمر ناقصًا من وراء حجب السحب الرمادية الباهتة، وبان بين النجوم كوجه شاحب يرقد فوق وسادة مخملية داكنة تحفها شموع ضعيفة الوهج، ما فتئت تنسحب بين الفينة والأخرى، وتتسلل خفية، لتلقي على سطح النهر المعتم بصيص من الضوء يواسي الموج الهادىء، قبل أن تعود إلى مستقرها بكل وقار وخجل.

بدا كل شيء هادئًا ومسالمًا، وقد انطفأت الأنوار، وأغلقت مصاريع النوافذ، وتبددت أصوت البشر وتلاشت، واضمحلت أماني النهار، وأخفت الظلمة كل ما يُقال، وذرى الهواء كل ما يُفعل خلف ستار الأبواب الموصدة، بينما سكنت في الخارج حركة كل ذيّ نسمة حية ولم يبقَ غير تيارات باردة وليل أسود دامس غريب العمق. ومع أن الصمت كان يخيم على أروقة القصر، الهاجع في سكينة ظاهرية هشَّة، لكنه لم يكن صمت تأمُل وانبهار بتلك الدقائق الفاصلة بين لذة النوم ونشوة الحياة، بل صمت كئيب، صمت خطر، صمت موحش تثقله مشاعر أسى وسخط وغضب وحقد مرعبة ما فتئت تتأجج بصدر اميرالد كلما ظنتها هدأت وخمدت، مثل نار شعلة أولمب أسطورية ترفض أن تنطفىء، حتى هجر النعاس عينيها المسهدتين، وما عادت تحصي الوقت كي تعرف بالتحديد كم كأس احتست، وكم سيجارة دخنت، وكم ظلت جالسة، تترقب طلوع الفجر من شرفة جناحها، كملكة عنيدة تأبى التنازل عن عرشها ريثما يعترف ويقر العالم، والكون أجمع، بشرعيتها.

كان وجهها خالِ الزينة معلق في الفضاء، عيناها الزمرديتان شاخصتان نحو الحدائق الغارقة في الظلمة، وبين الفينة والأخرى تعبر منهما رياح جليدية عاصفة تكاد تصرع أوراق الشجر وتقلب الأرض رأسًا على عقب. ظهرها المتصلب يستريح جزئيًّا على مقعد معلق مثل الأرجوحة، على كتفيها ينطرح شال كشمير أسود فاحم، امتزج مع حدود شعرها المنسدل كالعباءة، وأذيال مبذلها الحريري الطويل، قاتم الزرقة، مرتخية، نصفها ثابت، يكشف عن ساق منثنية ملساء مثل أسطح المرمر، والنصف الآخر متهدل ويطفو حول قدمها، تارًة يلامس بطرفه كاحلها العاري ويداعب الخلخال الذهبي الرقيق الملتف حوله كما لو أنه يعي نبضها ويحس به، وتارًة يبتعد، وينسحب بعيدًا، عندما ينتابه اليأس ويقنط من فعالية مغازلة تمثال رخامي جامد.

فكيف بها ألا تقسى، تتصلب، وتتجمد، بينما كل الأشياء التي اختبرتها هذه الأمسية كانوا يتساقطون تباعًا ويتعرون أمام أصداء ذاكرتها؟ صوت داخل صوت، ومشهد داخل مشهد، وكلهم يتقدمون في موكب صاخب يجعل عقلها يتناثر إلى أجزاء، إلى مقطوعات رباعية لا يُمكن لأي موسيقيّ أن يعيدها إلى أوركسترا موحدة. كيف بها ألا تشرد بين مطرقة الليل وسندان النهار وهما يختلطان وتسقط بينهما دون أن تعرف بأي طبقة كانت؛ أهو أول الفجر الرمادي الباهت أم غطاء الليل الأسود؟ وكيف بها ألا تنفرد بنفسها وتنأى بجنونها المطبق عن الجميع، وعن موكب الزمن المتسارع نحو المجهول، تمامًا كما فعلت منذ عدة ساعات آثرت فيها الابتعاد والانسحاب من النقاشات العقيمة مثلما يبتعد الغزال الجريح عن قطيعه ويتوارى داخل كهفه حتى يبرأ أو يموت ـ وربما يَقتل إذا كان ملبوسًا بشيطان دمويّ ناقم يتعطش دائمًا لرد الصاع والانتقام مثلها!

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن