الفصل العشرون - الجزء الثاني

82 5 0
                                    


تفجّر المزيد من الصخب في الحفل وارتفع صوت الموسيقى كضربات مطارق مسعورة وعلت صادحة وسط الليل الساكن مثل ألعاب نارية بلا لهب، الأضواء تخفت تارًة وتسطع تارًة أخرى ثم تومض ومضات سريعة، متمايلة مع النغم، والضجيج يتعالى أكثر وأكثر، وأقدام الراقصين تضرب السجاد بنوبة هذيانية، وقد ازدادت

الوجوه احمرارًا كلمَّا ازدادت درجة السَكر، وتوحشت الكلمات والحركات توحشًا مفزعًا، وسقطت كافة الأقنعة وتغيرت المظاهر المتمدنة بعدما هيمن المخدر والكحول على عقول الضيوف الفاجرين الذين غرقوا في بحور المجون كأنهم يقيمون طقوس تزواج قبيلة وثنية بدائية التكوين.

فيض من دقَّات الطبول الموسيقية والألحان الثنائية المتكرّرة فائقة السرعة، سلالم أنغام تصاعدية وتنازلية في منتهى الالتواء، متمردة وهوجاء بطريقة لا يمكن تصوّرها، حتى أنّ العفاريت نفسها ما كانت لتتمكن من مواكبة مثل هذا الإيقاع ولو لدقيقتين. الدخان الفاسد يتصاعد ويتكثف بشدة وصولًا إلى الطابق العلوي، وما زال الجميع يرقص ويعربد بجنون حفرة جحيم ملعونة، الجميع ثمل ويترنح ويطلق العنان لشهواته الحيوانية بلا رقيب أو حسيب، والجميع يطلق صرخات وهتافات وتعليقات فجَّة أثناء الغناء بنبرة نشاز ما فتئت تشق طريقها عبر صدر مكسيموس كالمخالب، تحاول إرغامه على استعادة تركيزه المشتت، والتعامل مع واقع تواجد اميرالد بهذا الوكر المسوَّر بالغدر، المحفوف بالخطر، العابق برائحة كل الخطايا التي أفسدت الأرض منذ زمن آدم، وتفتح في صدره المشتعل غضبًا ثقوب جديدة، حاول سدها عبثًا لإيقاف نزفه الفكري، بينما يلتقط أنفاسه ثم يعاود تحريرها كزفرات تنين ساخط حتى ملأ هسيسه الهواء كأنه لهب بركان حارق، وهو يقف أمام باب جناح النوم الرئيسي المغلق كما لو أنه بوابة سحرية تفصل ما بين عالمين متناقضين؛ أحدهما يجسد للعشاق الجنة، والآخر تجسيد حي...للجحيم.

«ماذا يفعل بها الآن حقًّا؟! ستقتله، ستقتله هذه المرأة يومًا.»

اجتاحه الغضب، يشعر بعشرات من الانفجارات المبهمة في رأسه، وفي صدره، كأنه استنشق دخان الصالة المكتظة كلها، وامتص الضجيج أجمعه. حواسه مخدرة ومنبهَّة ذات آن، كما لو أنه انشطر إلى نصفين: نصف

يتوق إلى الدخول والانفجار بها ومعاقبتها بقسوة لمباغتته عمدًا وتحديه باقتحام المكان بهذه الطريقة المستفزة، ونصف ملهوف، يريد أن ينفرد بها بعيدًا عن الأنظار الفضولية المتلصصة، ولا يهمه أي شيء آخر، وما فتئت قصتهما المجنونة تشبه شريط مصوَّر يخشى أن تعبث به الأيادِ الخاطئة، أو يحرقه الضوء ويمحيه، طالما يُفضل أن يبقيها وسط هكذا جو قذر وخطر في السر لا العلن، كما الصورة التي تؤخذ في الضوء لكنها لا تولد إلا في العتمة، حتى إذا كانت روحه ترنو إليها بوحشة فنار بحري في ليلة ممطرة لعل قوارب الشوق تجنح بها إليه بكل دفئها وحرارتها وحرائقها العبثية المجنونة.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن