الفصل الحادي عشر "الجزء الثالث"

140 5 0
                                    


بصوتٍ مهيب ذي وقع مدوي، دقّت أجراس الكاتدرائية دقّات سريعة ومتتالية هزّت دقائق الأثير وطغت على صخب وهمهمات الصحافيين المحتشدين في الساحة الخارجية، بينما تحرك سهم البرج الذهبي، ودار من الجنوب إلى الشرق، عندما غيرّت الريح اتجاهها فجأة، وتمايلت الأشجار، كأنها تراقص معزوفة الأرجن والترانيم الشجية التي انطلقت عبر حناجر منشدي الجوقة الكنسية من الداخل، واحدة تلو الأخرى، مثل سُلّم متصل، مختلفة في النغمة، إنما متناغمة ومتجانسة ذات آن، بعذوبة ساحرة بدت مثل انهمارات صوتية غائمة، ارتفعت، طفت، وسمت صاعدة إلى الأعلى حتى ملأت قباب السقف المزخرفة، متسابقة مع رائحة البخور وأريج ملايين الزهور المنتشرة على جانبي المذبح، حيث تلألأت الشموع البيضاء، وتوهجت، لتطرد ظلمات النفس، وتنير القلب، وتظهر أعماق الروح.

تردد صدى النواقيس والتراتيل الرنانة وجاب صداه الأروقة وصولًا إلى الغرفة الجانبية التي تشغرها ساندرا، مقتحمًا صدرها متسارع النبض بذبذبات قوية عبرت روحها، لتعيد رسم خارطة أعماقها، وتثبت في مداخل شرايينها بوصلات ركضت دورتها الدموية على هدى مؤشراتها، بينما تقف منتصف الغرفة الفسيحة ذات الأثاث العتيق والجداريات الجصية المشرقة والنوافذ المقنطرة ساحرة الإطلالة، عيونها الخضراء المزدانة بالظلال البرونزية الهادئة مسلطة على انعكاسها في المرآة الأثرية الطويلة دون أن ترى أمامها شيئًا حقًّا، ويدها المرتعشة منقبضة فوق قلبها بترقب طفلة واقعة في قبضة الغيم، اكتشفت توًّا كيف تستطيع مياه الشلالات العذبة أن تصعد إلى نبعها ثانية، وكيف تنهض الأوراق اليابسة بعد مرور فصل الشتاء كي تغطي بخضرتها الربيعية اليانعة الأغصان، وكيف يذوب الثلج أحيانًا بغتة ويتأجج الجمر من وسط أكوام الرماد.

كانت متوترة ومذعورة فعلًا، ذلك الذعر الغامض الجميل الذي يعشش في الأفئدة ويرفرف مثل الأجنحة، ذلك الذعر اللذيذ الذي يمتاز به العشاق ويجعلهم يهيمون مثل المنومين مغناطيسيًا داخل متاهة العشق الكبيرة، وينعزلوا عن العالم خلف جدرانها الشاهقة، ويضيعوا ـ برضًا مفرط السعادة ـ في ممراتها المتشعبة، دون أن تعتريهم الرغبة في العودة، أو يفكروا بأي شيء يتخطى 'نصفهم الآخر' الذي ينتظرهم عند نهايتها، بعدما ختم الحب على قلوبهم بتعويذته السحرية، ولمست اللهفة أرواحهم بأصابعها النارية، وسارت بهم الرغبات إلى جنة الغرام السرية، حيث تمر الأيام كالأحلام الشاعرية، وتنقضي الليالي كالأعراس الأسطورية.

التقطت نفسًا عميقًا لعلها تستعيد السيطرة على نبضات قلبها الثائرة وأغمضت عينيها، تستدعي داخلها منطقًا عقلانيًا هجرها منذ أن سقطت طوعًا في شباك رجل نصف حبه ضوء، والآخر ظلام، أبدل غفلتها العاطفية بيقظة هائلة بهيمنتها، جارحة بعذوبتها، وفتاكة بحلاوتها، حتى انقلب كيانها تدريجيًا وتحولت إلى عاشقة هائمة بمن ظنته جلادها، وقد اتسعت أعماقها، وانبسطت، ثم تبطنت بانفعالات تفوق تحكمها.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن