الفصل الخامس "الجزء الثاني"

420 12 5
                                    

ثمة صندوق صغير داخل ذلك الجزء من الدماغ الذي يحفظ الذاكرة؛ يشبه صندوقٌ موسيقيَّ قديم، مكسور القفل، تكسوه قشرة صدف متشققة ومثلومة عند الزوايا، وداخله اسطوانة نحاسية مُسننَّة تبث عندما تدور، ملامسة الأوتار المتصلبة، ألحان متذبذبة تثير الشجن، تكمن في نغماتها كل الأشياء التي لا يريد المرء أن ينساها أو يجرؤ على تذكرها. وفي لحظات الصدمة، أو الأوقات العصيبة اللاحقة بعدها ـ وربما أحيانًا دون سبب واضح ـ ينفتح الصندوق فجأة وتتبعثر محتوياته، لتتدفق أمام الغرباء مثل حقيبة مسافر شارد، فيتدافع البعض للمساعدة على لملمة وستر ما تناثر أمامهم، خشية من افتضاح خصوصيات المقابل كأنها خصوصياتهم، بينما يقبع البعض الأخر ساكنًا، متربصًا مثل مُشاهد صامت، بغية التلصص أكثر واستراق النظر بفضول وارتباكة سارق مبتدىء، يجهل كيفية تنفيذ جريمة سطوه الأولى.

كان هذا التفكير أول ما طرأ على ذهن ميراسلافا المُغيَّب وهي تحاول السيطرة على سيول الذكريات والأفكار المتدفقة من صندوق عقلها بينما تقتحم أذنيها أصداء ثرثرة ضيفها ثقيل الدم، ايفانو، كهمهات ضائعة، أثناء بحثها وسط البياض الطاغي على مساحات شقتها الأنيقة، عصرية التصميم، على بقعة لونية مختلفة تأسر بصرها ـ بعيدًا عن حِدَّة سواد ثيابه الرسمية الكئيبة ورائحة سجائره النفاذة ورنين هاتفه المتواصل، لعل ذلك ينتشلها من حالة"الانفصال غير المتصل"و"الاتصال غير المنفصل"المهيمنة على وعيها منذ مغادرتها المستشفى هذا الصباح، رغمًا عن نصائح الأطباء، وما عادت قادرة على البقاء محتجزة في سرير غريب؛ ترقب كل الأشياء الساكنة التي توَّد لو أن ينفلق السكون عنها، وتلك المتحركة التي تجعلها تتحرق للسكون كلمَّا داهمتها موجات الغثيان من رائحة المطهرات الطبية ونوبات الألم، والذعر، الخفية عن الجميع تقريبًا.

للمرة الأولى ينتابها هكذا شعور مقيت بالعجز، الوحدة، وبأنها غير قادرة على المسايرة والعطاء بكل أشكاله. قلبها في ثورة..في جنون..في تحضير لانقلاب ستقمعه لو حدث بنفسها، ذهنها مشتت، وانفعالاتها الداخلية متصاعدة لدرجة كرهت معها البياض الناصع المحيط بها وقد جعلها تشعر كأنما باتت كائن لا فقاري يسبح وسط فراغ سديميٌ مجهول لا لون أو أي حياة فيه، المراوحة الأبدية بعينها!

رمشت بسرعة، وقد اختلطت عليها الأصوات كأنها هلوسات كابوس مشوش يبث مباراة مجنونة التنافسية، وما فتىء مساعدها آرتين يسألها كل خمس ثوانٍ إذا كانت بخير، بينما لم يتوقف الكائن البغيض المدعو ايفانو عن الحديث كأنما ابتلع مذياع ما قبل حضوره وأضاع جهاز تحكمه. ومع أنَّ جرحها الحديث ما يزال يؤلمها عند أقل حركة، وينبض عند كل خفقة من خفقات قلبها الراعش، ثم يبدأ أحيانًا بالنزف فجأة، لكنها تدبرَّت أمرها، وتمكنت من تحريك جزئها العلوي والاستدارة قليلًا، واضعة ثقل ظهرها على وسائد الأريكة الجلدية الوثيرة، لتميل برأسها المرتكز إلى مرفقها المُستقر فوق كومة وسائد أخرى، أصّر آرتين على وضعها بجانبها فور وصولهم، وتحدق ساهمة نحو حوض السمك الزجاجي الكبير المغلق، الذي أرسلته لها روزاليا عوض الزهور التقليدية بواحدة من شطحاتها الغريبة وغير المتوقعة اطلاقًا.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن