الفصل السابع عشر" الجزء الثالث"

210 10 13
                                    


يُعتبر مُدرَّج الكولوسيوم الروماني، العائد إلى القرن الثاني الميلادي، واحدًا من أهم المعالم السياحية في مدينة كالياري الإيطالية وجزيرة سردينيا، إذ يتميز بطريقة تشييده الفريدة حيث كان نصفه محفور في الصخر بحين تمَّ بناء نصفه الآخر من الحجر الجيري الأبيض مع واجهة مرتفعة يتجاوز ارتفاعها العشرون مترًا، ومُدرجَّات هلالية مكشوفة الإطلالة، كانت تستوعب قرابة الثمانية آلاف متفرج ذات آن لمشاهدة معارك المحاربين الرومان القدامى، ومصارعة الحيوانات المفترسة، وتنفيذ أحكام الإعدام العلنية آنذاك.

كان القمر ينير المسطبات الحجرية بألقه اللؤلؤي الأبيض، مُقسِمًّا المدرج إلى نصفين من الضوء الفضي الباهت والعتمة المُزرقَّة، وكان ذلك الضوء الليليّ، مع ألوانه المُتدارِية، يخفي خراب البناء القديم، ولا يمكن للمرء تحت نور الشمس الساطع إلَّا أن يميّز الأعمدة المبتورة، وواجهات المباني المشققة والأسطح المنهارة جزئيًّا إثر عوامل الزمن، أما في المساء، فقد كانت الأقسام الغائبة تكتمل من خلال الألوان الصامتة المعتدلة، ويكفي شعاع مباغت، مثل لمسة مشاعر دافئة فوق لوحة فنية داكنة كي يدب الحياة في المكان، كما لو أن عفاريت الليل قد أصلحت الموقع الأثري لعرضٍ دراماتيكي مؤثر، سيعود إلى حقبة بعيدة جدًّا، وزمن مختلف.

رغم اغلاق المكان أبوابه أمام السائحين والزوار بعد الظهيرة، لكن كان في الامكان، إذا دققّ المرء ونظر قرب مدخل الحلبة الشمالي، رؤية بعض الأشكال الآدمية مبهمة التفاصيل تتحرك كما الخيالات رواحًا ومجيئًا قلب العتمة الدامسة؛ غير أنها كانت تتلاشى ثانية بمجرد تحرُّك كشَّافات الإضاءة الدوارَّة، كأنها تختبىء من النور وتختبىء في جنح الظلمة، مثل الوشوشات والضجة غير المحددة التي كانت تخفق في الصمت الساكن، ممَّا يثير في النفس قلق وارتياب لا إرادي، ويعتري الجسد برجفة شديدة يمكنها أن تكون ناجمة عن هواء الليل البارد، لكنها كافية لأن تستفز الحدس السليم وتدق في الرأس بغتة ناقوس الخطر.

عادًة، كان البروفيسور توماسو ساليزاري يشعر بالراحة عند زيارته المُدرَّج الغارق في القدم، والعابق بعبق التاريخ الذي يعشقه، ودائمًا ما استهواه التجوال فيه واستكشاف مداخله ودهاليزه الباطنية المؤدية إلى الزنازين العتيقة ومتاهات المدينة السفلية المنسية. أمَّا الليلة، فقد بدا المكان مرعبًا بالنسبة إليه، مظلم، موحش، ويكاد يزكم الأنفاس برائحة العفونة السامَّة والدماء التي سُفكِت فيه منذ قرون، أو ربما كانت دماءه هو؟ لا يعرف حقًّا! كل ما يعرفه أنه يشعر بألم فظيع ينبض جانب صدغه المشجوج بجرحٍ متخثر لكن عميق نسبيًّا، العصابة السوداء المشدودة حول عينيه تغرقه في ظلام دامس يشبه ظلمة القبور، عرقه يتصبب بغزارة، وثمة حرقة كاوية ولاسعة تنتشر مثل النار محيط رسغيه وكاحليه المتقرحين إصر محاولاته العبثية السابقة التحرر من القيود التي كانت تثبته جالسًا إلى الكرسي المعدني اليتيم في أحدى الحجرات الداخلية موغلة العمق، حيث يقل الهواء، وترتفع درجة الحرارة، لدرجة تثير الغثيان، وتحفز لدى الكثير من الناس الاغماء اللاإرادي.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن