الفصل الثامن "الجزء الثالث"

219 9 0
                                    


على الطرف الآخر من القارَّة، كانت السماء المخملية المرصعة بالنجوم قد حاكت من ظلمتها رداءًا، ونسجت من أشعة القمر الفضي نقابًا، ثم ألقته على سان بطرسبيرغ المشتعلة بأنوار المساء من كل حدب وصوب، بعدما غاصت الشمر قعر نهر (نيفا) الخالد، وسالت الألوان البرتقاليية والذهبية المتدرجة بين دقائق الأثير، وطارت الطيور إلى أعشاشها على آخر ارتجافات الغروب الهائمة، وانطلق النور يعدو كأنه يخشى التلاشي خلف ستار الليل وظلمته الموحشة، فتألقت المصابيح، وانسكبت الأضواء على المباني التأريخية، لترسم الظلال حول المنعطفات وقواعد التماثيل والأعمدة الرخامية الشاهقة، وتنير القباب الفسيفسائية الملساء وأبراج الكاتدرئيات الشامخة، المنتصبة كمنارة أزلية تحرس رعاياها بعين ساهرة لا تنام.

بدت تحفة العمارة القيصرية هذه المرة كما عهدتها اميرالد دائمًا: مدينة ارستقراطية مترفة البذخ والأناقة، يخجل المرء في أن يهمل مظهره بحضرتها، كأنه يمتثل في بلاط امبراطورة مهيبة تحكم أرضًا منبسطة بقوتها، متعالية بتواضعها، لينة بصلابتها، حانية بجبروتها، وواضحة وغامضة ذات آن في البوح بأسرارها ومكنوناتها، كأنها تشرح للناظر إليها، منعطفًا تلو الآخر، أن كل هذه الطرق ذات المسالك المتشعبة تؤدي إلى الصمود، وأن كل هذه القصور المترفة الشاهدة على تقلبات الزمن، قد سبقتها بالانخراط في صفوف الثورات المتعاقبة، مثلها مثل أيّ مدينة لم تختر قدرها، بل كان القدر هو الذي اختارها، إذ حكم عليها التاريخ، كما حكمت عليها الجغرافيا، إلا تستسلم يومًا ـ حتى وإن ادعّت العكس ـ فما عاد أبناؤها يملكون خيار سوى القتال، أو السكون، ظاهريًا فقط، وهم يضمرون النية في القتال، تمامًا مثلما تفعل هي مؤخرًا. فهل ثمة داعٍ للتعجب بعدها إذا وجدها أحدهم تفهم همسات هذه المدينة مثل أي متصوف، وتشبهها أحيانًا إلى حد التطرف؟!

كانت منفردة بنفسها عن موكب الزمن المتسارع نحو المجهول، ترسو كسفينة امبراطورية متلألئة على شرفة الجناح الملكي في فندق(Lion Palace)الفاخر، ذي الواجهات الصقيلة المائلة إلى الصفرة، والنوافذ المربعة التي تعلوها أشكال هرمية مزخرفة، والأفاريز السقفية فيروزية اللون. كل شيء ينبسط ويتوهج أمامها يبدو هادئًا ومسالمًا، لا شيء يصلها من ضجيج المدينة الضاجة بالحركة والحياة، ولا شيء يستدعي تعكر مزاجها، وهي تقف بمواجهة تيار الأفكار المتناسقة والخواطر المتسابقة، حتى نسيت ذاتها"المقتبسة"واعتنقت ذاتها "الحقيقية" المفعمة بخير البشر وشرورهم، واتسعت دوائر الرؤية أمام عينيها، وانبسطت لها خفايا الأسرار التي يحاول الليل طمسها عبثًا، بينما يقص القمر للنجوم قصة امرأة ما فتئت تزايد على جنون العشاق برهان مجنون، امرأة خُلقت للتحدي وربح الرهان، امرأة ترفض الاستعانة بنشرات الأرصاد الجوية وتنبؤات الكوارث الطبيعية، لكنها مصممة على أن تقف بوجه بركان سيجرف ثورانه كل شيء من حولها ـ ويجرفها معه أيضًا، طالما تفهم جيدًا أن المنطق ينتهي حيث يبدأ الحب، وأن ما تعرفه عن مكسيمليانوس كادريوفسكي حقيقة لا علاقة له من الأساس لا بالمنطق ولا بالمعرفة نفسها!

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن