_ الفصل السبعون _

9.6K 391 10
                                    



(( امرأة العُقاب ))
_ الفصل السبعون _

ولم تلبث للحظة بعد تفكيرها بتلك العاصفة وكأن الواقع استمع لصوت عقلها فسمعت صوت رنين الباب يرتفع .. وجدت نفسها لا أراديًا تقف هي وتقود خطواتها تجاه الباب بينما أسمهان وهنا عيناهم عالقة عليها يتابعونها وهي تتجه للباب والفضول يتملكهم أيضًا لمعرفة هوية الطارق .
وقفت جلنار أمام الباب وأخذت نفسًا عميقًا وكأنها تشعر بالأعصار الذي يقف خلف ذلك الباب وبالفعل حين فتحت الباب وجدته أمامها .. عدنان !!! ...

تجمدت الدماء في عروقها وبقت تحدقه بتوتر ملحوظ أما هو فكانت الشرارات النارية تنطلق من عيناه ، طالت نظراته المريبة لها وهي تحاول تجاهل تلك النظرات القاتلة ، لحظات معدودة حتى وجدته يدفعها برفق من أمامه لكي يعبر ويدخل فيرى أمه وتجلس بجوارها ابنته .
وثبت أسمهان واقفة فور رؤيتها لابنها وتلقائيًا ارتفعت البسمة لثغرها بينما هو فطالت نظرات الثاقبة دون أن يتفوه ببنت شفة فقط الغضب هو الذي يظهر فوق معالم وجهه .
التفت برأسه نحو جلنار وقال بصوت رجولي صارم لا يقبل النقاش :
_ جيبي هنا وتعالي ورايا على العربية يلا
بقت كما هي لم تتحرك انشًا واحدًا وخوفها من جموحه يقيد قدميها بالأرض .. كان سيهم بالرحيل مجددًا لكن صوت ابنته أوقفه وهي تقول بعبوس :
_ بابي أنا مش عايزة امشي .. عايزة اقعد مع تيتا
عدنان بنبرة حازمة ومستاءة :
_ كفاية ياهنا .. خلاص هنروح البيت .. وتيتا اديكي شوفتيها اهي

تعلقت الصغيرة بذراعين جدتها وأبت الانصياع لأوامر والدها وهي تزم شفتيها بحزن فتدخلت جلنار بوقت لا يسمح بتدخلها أبدًا حيث قالت له بخفوت :
_ البنت عايزة تقعد مع جدتها يا عدنان خليها تقعد في إيه !!

وجدته رمقها بنظرة مميتة بعد عبارتها ، أقسمت أن لو النظرات تحرق لحرقتها بأرضها .. التزمت الصمت فورًا بارتباك واشاحت بنظرها عنه حتى سمعته يقول بعصبية :
_ لينا كلام تاني في البيت يامدام
وسط تلك النظرة الملتهبة المستقرة في عيناه والأجواء المشحونة بلهيب الغضب ، فجأة صدح صوت أسمهان بأرجاء المنزل وهي تهتف بثبات تام ونظرة ثاقبة ممتلئة بقوتها المعتادة :
_ عــدنــان .. جلنار ملهاش ذنب أنا اللي طلبت منها تكذب عليك !

التفت برأسه نحو أمه وحدقها باستغراب مطولًا لتكمل هي مفسرة عباراتها :
_ خوفت إنك تتعصب لما تعرف إنها بتيجي تشوفني هي وهنا وتمنعهم ما يجوا تاني
طال سكونه التام وسط نظراته الجامدة حتى تحرك بخطوات قوية تجاه غرفة مكتبه محدثًا أمه :
_ تعالي يا أسمهان هانم معايا هنتكلم جوا
نقلت أسمهان عيناها الحائرة بين جلنار وبينه قبل أن تخطو خطواتها وتلحق به لغرفة المكتب .. دخلت وأغلقت الباب خلفها ووقفت تتطلع إليه بحزن وتقول في أسى :
_ مش كفاية بقى يا عدنان عقابكم ليا إنت وأخوك .. كفاية يابني انا بموت في بعدكم عني .. سامحني
تنهد الصعداء وقرر تجاهل عباراتها واقترب منها ليهمس في أعين ثاقبة :
_ أني بتفكري في إيه ياماما .. عايزة تفهميني إنك معقول بالسرعة دي حبيتي جلنار وبقيتي بتدافعي عنها كمان قدامي .. ولا دي حركة ذكية منك عشان تضغطي عليا وتخليني اسامحك وارجعلك .. أصل أنا فاهمك كويس أوي واكتر من أي حد تاني يا أسمهان هانم

هزت رأسها بالنفي في نظرة صادقة تحمل الندم وقالت بمرارة وصوت يحمل بحة البكاء :
_ المرة دي ياعدنان أنا مش عايزة حاجة غيرك أنت وأخوك مبقيش يفرق معايا أي حاجة تاني لا فلوس ولا مكانة ولا غيره .. عايزة ولادي يرجعولي ، أنا ندمانة على كل حاجة عملتها فيك وفي آدم وفي بباك ، و جلنار مكنتش تستحق مني كل الكره ده هي ملهاش ذنب إنها بنت نشأت ، اذيتها وظلمتها كتير وجه الوقت اصلح أخطائي
تأفف بصوت مسموع وقالت بخنق وأسى :
_ اكتر حاجة وجعاني إني مش قادر اثق فيكي .. مش عارف اصدق أمي !
تقدمت منه وامسكت بيده في حنو ورجاء هامسة :
_ أنا خسرت ثقة ولادي فيا مرة ولا يمكن اخسرها تاني .. أمك اتغيرت مبقتش أسمهان هانم اللي كله يعرفها .. أنا دلوقتي مستعدة اتخلي عن كل حاجة عشانكم بعد ما كنت عايزة اكسب كل حاجة في نفس الوقت .. بس أدركت أن مينفعش اخد كل حاجة والدنيا خيرتني بينكم وبين الباقي ، يا اخسركم يا اخسر اللي كنت بسعاله من البداية .. بس يغور كل شيء في سبيل إنكم تكونوا بخير وجمبي ياحبايبي

عيناه تتحدث بدلًا عنه ، تعلن انتهاء العصر الجليدي وشروق الشمس من جديد ، لكن ذلك لا يمنع أنه مازال بحاجة لبعض الوقت .. سيعود حين تستقر روحه التائهة بمستقرها بين ذراعيها من جديد ! .
أخذ تنهيدة مطولة ثم سحب قبضته بلطف من يدها ورفع كفه يملس فوق ذراعها برفق هامسًا مع ابتسامة خافتة :
_ خلي بالك من نفسك ياماما
انهى عباراته واندفع للخارج ليتركها بين حزنها وسعادتها .. تحزن على فشل محاولة أخرى وتسعد لرؤيتها لبريق أمل يلمع على مسافة قريبة موحيًا أن شروق الشمس قد اقترب ! .

***
خرجت مهرة من المكتبة بعدما انتهت من دوام عملها اليومي وأغلقت الباب جيدًا ثم وضعت المفاتيح بحقيبتها واستدارت تنوى العودة للمنزل لكن .. ما سقطت عيناها عليه جعلها تتسمر مكانها وهي تستمر في التحديق به بدهشة ! .

رأته يقف على الجانب الآخر من الطريق يستند بظهره على سيارته ويمسك بيده لوحة صغيرة مدوّن فوقها بخط يده عبارة " أنا آسف " .. الصدمة المستخوذة عليها جعلتها تقف ببلاهة لا تستوعب من تراه .. حتى فجأة صدح صوت رنين هاتفها بيدها لترفعه وتنظر لاسم المتصل ثم له فتراه يضع الهاتف فوق أذنه ينتظر ردها لتفتح الاتصال وتضع الهاتف فوق أذنها تستمتع لصوته العابث وهي تنظر له :
_ هتفضلي واقفة متنحة كدا كتير !
لم تجيبه والتزمت الصمت حتى سمعته يكمل بأسف وحزن :
_ أنا آسف يامهرتي
فشلت في حجب ابتسامتها التي شقت طريقها لثغرها باتساع وعيناها لا تحيد عنه فتراه يبتسم هو الآخر ويقول في الهاتف بصوت سعيدًا :
_ ضحكت يعني قلبها مال
اتسعت ابتسامتها أكثر التي صاحبتها ضحكة خفيفة ثم انزلت الهاتف من فوق أذنيها وأنهت الاتصال وهي تبتسم له بعشق ثم تحركت نحوه تعبر الطريق ووقفت أمامها تبتسم بخجل لتقرر كسر حاجز التوتر لديها وتقول بمرح :
_ بس أنا مبتصالحش بكلمتين وورقة
غمز لها بخبث وقال بجراءة :
_ امال بتتصالحي بإيه !
لم تفهم مقصده تحديدًا لكن النظرة والنبرة أوحت لها أن مقصده دنيء فاغتاظت وقال بخجل امتزج بتهديدها :
_ لا بقولك إيه مش هتحترم نفسك اسحب كلامي وابتسامتي في لحظتها ووريني بقى هتعرف تصالحني ازاي
قهقه بقوة مجيبًا :
_ إيه تسحبي ابتسامتك دي كمان !!!!
مهرة بغيظ :
_ إنت بتتريق !! .. طب ابقى خد ورقتك دي بقى وانزل بيها على العتبة لم تبرعات
كانت على وشك المغادرة لولا أنه قبض على ذراعها يوقفها وهو يضحك ويهتف مازحًا :
_ الله أنتي قفوشة كدا ليه .. دعابة دي دعابة !
ارغمها على الضحك لتقف وتتطلعه بقرف متمتمة :
_ هه اضحكني
طالعها بقرف مماثل على ردها الساخر والسخيف واردف :
_ لا باردة متضحكش على فكرة !
اتسعت عيناها بدهشة واغتاظت من جديد لتهم بالمغادرة مجددًا لكنه قبض على ذراعها متراجعًا بسرعة عن جملته وضحك بصوت عالي متصنعًا ليهتف :
_ ده إنتي دمك عسل ياحبيبتي
كتمت ضحكتها بصعوبة ووقفت من جديد لتسمعه يكمل باسمًا :
_ طلباتك يابرنسيسة عصرك وزمانك
هتفت بجدية وتفكير عميق :
_ طريق السعادة يكمن في اقرب الطرق التي تؤدي لمعدتي
تلاشت ابتسامته وطالعها بعدم حيلة وغيظ ثم القى اللوحة المودّن فوقها " أنا آسف " وقال مغتاظًا بجدية :
_ طب وكان لازمتها ايه الرومانسية دي كلها ما كنت
جيتلك بكيلو كباب احسن .. انا استاهل ضرب الجزم اصلا .. اطلعي يامهرة قدامي هنروح نتغدي وقسمًا بالله لو قولتيلي بعدها لسا زعلانة منك هعلقك
ضيقت عيناها بدهشة وقالت باعتزاز وضيق مزيف :
_ إنت هتذلني ولا إيه .. لا أنا كرامتي فوق كل شيء على فكرة وبعدين أنا هتغدى بفلوسي
آدم بنفاذ صبر :
_ على العربية يامهرة !
سارت نحو باب السيارة وقبل أن تستقل بمقعدها نظرت له وارسلت قبلة في الهواء هامسة :
_ بحبك
نجحت في رسم البسمة على وجهه ليقول بوقاحة ضاحكًا :
_ عقبال ما تبقى قبلة with touch
مهرة بغيظ :
_ وقح إنت خسارة فيك الرومانسية أصلا .. وتقولي ليه متبقيش رومانسية ، مهو عشان وقاحتك
قهقه بقوة ثم استقل بمقعده المخصص للقيادة واستقلت هي بجواره ثم انطلق بالسيارة ! .

***
وصلوا إلى منزل نشأت الرازي وقادت جلنار خطواتها السريعة والمنزعجة إلى أعلى حيث غرفتها ليلحق هو بها بينما هنا فبقيت بالأسفل تتابع قسمات وجه والدها المرعبة وغضب أمها وتسمع صوت شجارهم من الأسفل وهي عابسة الوجه وعيناها دامعة ! .

بالأعلى داخل غرفة جلنار كانت تصيح به مستاءة :
_ مامتك ندمت وعرفت غلطها وأنا سامحتها ومعملتش حاجة غلط لما كنت بروحلها عشان تشوف هنا
عدنان بغضب هادر وعصبية :
_ تبلغني وتقوليلي مش تطلعي وتدخلي من غير علمي وكمان تكدبي عليا وتقوليلي إنك في البيت
_ عشان كنت عارفة إنك هتعمل مشكلة ومش هتوافق
عدنان بصوت رجولي مخيف :
_اوافق موافقش دي حاجة ترجعلي لكن إنتي تبلغيني
جلنار بسخط وضيق :
_ أنت من امتى كنت قاسي بالشكل ده أنت وآدم .. مش كفاية عقابكم ليها ، انتوا مش شايفين حالتها بقت ازاي .. مهما كان غلطها وجريمتها هي ندمت واعتقد أنها تستحق فرصة تانية
ضحك باستهزاء وقال غير مصدقًا :
_ هي هناك تدافع عنك قدامي وانتي تدافعي عنها دلوقتي .. انا مبقتش فاهم حاجة
جلنار بانزعاج :
_ إنت مشكلتك ايه بظبط إني وديت البنت تشوف جدتها ولا إني خبيت عنك
_ إنتي عارفة كويس أوي المشكلة فين !
ابتسمت بسخرية وقالت بقسوة غير واعية لما تتفوه به :
_ وأنت مخبتش عليا يعني لما روحت تقابل فريدة !
تحول لجمرة نيران ملتهبة وصاح بصوته المرتفع والمنفعل :
_ تاني ياجلنار تاني !!! .. احنا مش قفلنا الصفحة دي خالص واتفقنا هنبدأ من أول جديد .. برضوا بتقلبي في القديم

أدركت فداحة العبارة التي تفوهت بها فصمتت واشاحت بوجهه بعيدًا عنه تخفي شعورها بالندم والضيق من نفسها بينما هو فهز رأسه بعدم حيلة وخنق ثم استدار وانصرف تاركًا إياها وحيدة بين جدران غرفتها ! .

انتهى من الدرج ووصل للطابق الأسفل من المنزل فوجد ابنته تقف بجوار الباب وتتطلع إليه بحزن وعينان دامعة .. تصلب بأرضه وأدرك الخطأ الذي ارتكبوه بشجارهم أمام طفلتهم ، ليتنهد الصعداء بضيق ثم تقدم منها وانحنى يجلس فوق ركبته أمامها ويقبلها من وجنتيها بحنو هامسًا :
_ مالك ياهنايا
هنا بعبوس طفولي :
_ بابي هو إنت مش بتحب مامي ؟
ضيق عيناه ببعض الدهشة من سؤالها لكنه ابتسم بلطف ورد عليها في خفوت جميل وصوت يحمل بحة صادقة كلها عشق وغرام :
_ أنا مش بحب حد قدك إنتي ومامي ياروحي .. بس مفيش اتنين بيحبوا بعض مش بتحصل بينهم مشاكل صغننة زي دي يابابي .. وإلا يبقوا مبيحبوش بعض

ردت ببراءة جميلة وابتسامة ساحرة :
_ أنا وصحبتي نور في الحضانة بنتخانق علطول بس هي بتقولي انها بتحب تلعب معايا
هز رأسه لها بالإيجاب مؤكدًا على عبارتها لكنه لا يستطيع اخفاء مشاعر الضيق من أنه جعل ابنته تشهد على شجار كهذا بينه هو وأمها .. فمال عليها ولثم وجنتيها وجبهتها بحب معتذرًا :
_ أنا آسف يابابي اوعدك إنها أول وآخر مرة
ابتسمت له بحب ورقة ثم مالت عليه وطبعت قبلة ناعمة مثلها فوق وجنته وهمست :
_ بابي خدني معاك النهارده
عدنان باسمًا بدفء :
_ بس كدا من عنيا ياقلب بابي .. وكمان هنروح مكان حلو أنا وإنتي إيه رأيك
قفزت فرحًا صائحة :
_ هيييه يعيش بابي
قهقه بقوة على عبارتها متعجبًا أنها من أين جاءت بهذا الكلام ، ثم انتصب واقفًا وحملها فوق ذراعيه ليصيح مناديًا على بدرية التي جاءت مسرعة له لتسمعه بقول لها بلطف وهو يبتسم :
_ ابقي قولي لجلنار إني اخدت هنا معايا
بدرية مبتسمة باتساع :
_ حاضر ياعدنان بيه
لوحت هنا لبدرية وهي مغادرة فلوحت لها الأخرى وهي تضحك بصفاء وحب .....

***
تتابع الطريق طوال الطريق وتستمع لأغنيتها المفضلة التي قام والدها بتشغيلها لها .. حتى وجدت السيارة توقفت فجأة فالتفتت تجاه أبيها برأسها الذي هتف باسمًا وهو يفتح باب السيارة وينزل :
_ يلا ياهنون وصلنا
التف حول السيارة وفتح لها باب مقعدها لتنزل ثم يغلقه خلفها ، تقدمت هي أمامه وتسأله بحماس طفولي :
_ احنا رايحين فين يابابي ؟
مد كفه لها ومسك بيدها الصغيرة يحتضنها بين قبضته الكبيرة ليسيروا معًا للداخل وهو يهمس :
_ مكان حلو أوي هيعجبك يابابي ، يلا بينا
سارت معه وهي تتلفت حولها مبتسمة بسعادة .. عبروا بوابة ضخمة لساحة واسعة وكانت تتحرك مع والدها وهي ترى الرمال التي تملأ الأرض من حولها وكذلك البيت الخشبي الذي كان بآخر جزء من تلك الساحة وكانوا يتجهون إليه .
فور وصولهم ودخولهم ذلك البيت صرخت بفرحة ضاحكة وهي تشير بأصبعها :
_ الله حصان يابابي
ضحك وانحنى ليحملها فوق ذراعيه ثم يلثم وجنتها بحب هاتفًا :
_ إيه رأيك عجبك المكان ؟
أماءت له بالإيجاب وهي تضحك ثم طبعت قبلة فوق وجنته هامسة :
_ بحبك أوي يابابي
_ وأنا بعقشك ياروح بابي .. إيه رأيك بقى تحبي نركب حصان ؟
هنا بموافقة وحماس :
_ أيوة يلا
وصل حارس الاسطبل ورحب بعدنان ترحيب وهي يهتف بابتسامة متسعة :
_ياخبر عدنان بنفسه .. نورت المكان كله يابني
عدنان باسمًا بود :
_ منور بيك ياعم يحيى
نظر الحارس لهنا وابتسم لها بنقاء ثم قال ببشاشة :
_ الغالية بنت الغالي اللي نورتنا .. عاملة إيه يا هنون
ابتسمت له بخجل يسرق القلوب وردت في صوت يكاد لا يسمع :
_كويسة
مال عليها عدنان وهمس بنبرته الدافئة والمعتادة :
_ يلا ياحبيبتي اختاري الحصان اللي يعجبك وقولي لعمو يحيى وهو هيطلعه ليكي
هزت رأسها بالموافقة لأبيها دون أن تجيب ثم راحت تقلب نظرها بين جميع الخيول حتى وقع نظرها على خيل لونه أبيض ويتميز بالشعر الكثيف عند الرأس والرقبة لتبتسم وتشير بأصبعها عليه دون أن تتحدث من فرط خجلها ليضحك الحارس ويقول بحب :
_ الخيل ده مش بيطلع غير للغالين يا غالية .. ثواني ويكون جاهز

ثم استدار وسار مبتعدًا عنهم ليجهز الخيل بينما عدنان فقد انزلها على الأرض وأخرج هاتفه ليفتح الكاميرا ويبدأ في تصويرها كما طلبت منه .. وكلما تأخذ وضعية مختلفة للتصوير وسط تلقائيتها وبرائتها يضحك بقوة .. وكلما يلتقط لها صورة تركض نحوه لكي ترى الصورة أولًا ثم تعود وتقف مجددًا لينتهي بهم الأمر ملتقط لها تقريبًا اكثر من خمسة عشر صورة ! .

حين وصل الحارس إليهم وهو معه الخيل قفزت فرحًا .. ليحملها عدنان ويركبها فوق ظهر الخيل لكنها صرخت بقوة في ارتيعاد :
_ بابي أنا خايفة نزلني
_ متخافيش ياحبيبتي انا ماسكك أهو مش هتقعي

ثم بدأ في مسك الخيل من اللجام وهو يحثه على التحرك ببطء شديد وهي تضحك بملأ شدقيها من فرط السعادة ، ثم عاد يلتقط لها بعض الصورة مجددًا وجميعهم ابتسامتها الواسعة كانت تزينهم .. بعد دقائق معدودة اقترب هو منها ووضع قدم على أول لجام الخيل ثم رفع جسده ليصعد خلفها ثم بدأ في حث الخيل على الركض بسرعة وهي تصرخ وتضحك بنفس اللحظة وهو يبادلها الضحك الممتزج بمزاحه اللطيف الذي يزيد من ضحكها .

***
داخل منزل ميرڤت بمساء ذلك اليوم ......
العائلتين مجتمعين وأجواء السعادة والفرح تستحوذ على الجميع بينما في المنتصف كان يجلس مأذون النكاح وبجانبه يجلس هشام وعلى الجانب الآخر عم زينة والولىّ عليها .. لتبدأ مراسم النكاح والزغاريد تتعالى صوتها من جميع النساء لتنتهى المراسم بجملة المأذون الشهيرة ( بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكم في خير ) .
كانت زينة تقف بإحدى الزوايا وتبتسم بسعادة وخجل شديد بالأخص عندما رأته وسط تلقيه للتهئنات من الجميع كانت عيناه ثابتة عليها وجميع علامات السعادة المختلفة كانت تراها فوق وجهه وهو يتطلعها بشوق ولهفة .. لم تحيد بنظرها عنه إلا حين وجدت هي الأخرى الجميع بدأو بتهنئتها .
بعد حوالي عشر دقائق سمعت جملته وهو يستأذن والدتها وعمها ليخلوا بها بمفردهم لبعض الوقت .. بتلك اللحظة شعرت بأنها فقدت الاحساس بقدميها وكأنهم لم يعد بإمكانهم حملها بعد ، ودقات قلبها تسارعت بقو واخذ قلبها يضرب في صدرها بعنف ..والحمرة صعدت لوجنتيها لتصبغهم بلون الدماء .

وصل ووقف أمامها ليبتسم لها بغرام ثم يغمز لها ضاحكًا متعمد أثارة خجلها أكثر ليمسك بكفها بعدها ويجذبها معه لإحدى الغرف الداخلية بالمنزل .. فور اختفائهم عن أعين الجميع داخل الغرفة سمعت جملته الخبيثة والحماسية وهو يقول بضحكة خفيفة :
_ الفار وقع في المصيدة !
زينة بخجل وتلعثم شديد :
_ كفاية يا هشام يلا نطلع برا بقى

قبض على ذراعها يمنعها من التحرك وقال بحزم بسيط :
_ هو إيه اللي كفاية !! .. كفاية إيه هو احنا لحقنا

توقفت رغمًا عنها ثم أجفلت نظرها أرضًا وهي تبتسم باستحياء .. فوجدته يحتضن كفيها بين قبضتيه ويرفعهم لشفتيه ثم يلثم كل كف على حده .. قبلات مطولة وحارة أثارت الرعشة بجسدها وكأن هناك فراشات تحلق بمعدتها .. ثم رفع وجهه عن كفيها وطالعها بعاطفة جيَّاسة وفرحة غامرة وهو يهمس :
_ أخيرًا يا زينة .. أخيرًا بقيتي ليا ياحبيبتي أنا ليا سنين بحلم باليوم ده .. اليوم اللي تكوني فيه على اسمي .. وتبقى حرم هشام مروان .. بقيتي مراتي وليا لوحدي يازينة .. الحلم اللي كنت بتمناه وملازمني كل ليلة بقى حقيقة .. مبروووك يا احلى وأجمل زوجة

لا تعرف كيف نست خجلها بلحظة واحدة من مجرد كلمات غرامية منه حيث رفعت نظرها له وتأملته بفرحة ولهفة ثم قالت بعفوية صادقة وغرام نابع من صميمها :
_ أنا فرحانة أوي ياهشام .. أول مرة أحس نفسي فرحانة بالشكل ده .. شكرًا ياحبيبي إنك فضلت جمبي ومتخلتش عني أنا ممتنة لكل الظروف اللي خلتني أدرك حبي ليك وأهمية وجودك في حياتي .. ممتنة لكل لحظة جميلة قضيناها مع بعض وختمناها برابط ابدي بيني وبينك

هشام بهيام وصوت ذائب من فرط العاطفة :
_ أنا مش مصدق نفسي .. خايف أكون لسا بحلم !
زينة مبتسمة برقة وهي تعود وتمسك بيده :
_ أنت قولت إن الحلم بقى حقيقة وأنا دلوقتي بقيت ملكك وليك وحدك خلاص
دنى منها وضمها لصدره يعانقها بحرارة وهو يلثم شعرها وكتفها بعدة قبلات ناعمة ليبعتد بعد لحظات ويهمس باسمًا :
_ سمعيني كمان واحدة حبيبي كدا
ابتسمت بخجل وتمتمت بخفوت ساحر :
_ بحبك أوي ياحبيبي
_ أه ياني ياما بحبك وحبيبي في جملة واحدة

قهقهت بخفة حتى تجمدت بأرضها حين وجدته يدنو منها ويلثم وجنتها بقبلة عميقة وممتلئة بمشاعر الشوق واللهفة .. فقدت القدرة على التحدث وحتى قدميها شعرت بأنها ستنهار وتسقط لو بقت أمامه لثانية أخرى بالأخص حين وجدته بدأ ينحرف من وجنتيها ينوي أن يصوب الهدف الآخر بقبلاته فاعتدلت في وقفتها وانسحبت من بين قبضته بمهارة وهي تقول بتلعثم :
_ مـ.. ماما بتنده عليا
ولم تلبث للحظة أخرى أو تمنحه فرصة لإدراك جملتها ليوقفها بل فتحت الباب واندفعت للخارج شبه ركضًا تفر منه .. لتتركه يضحك بعدم حيلة ويأس ! .......

***
أسرعت بدرية إلى الباب لتفتح للطارق وحين فتحت قابلت عدنان أمامها وهو يحمل هنا النائمة فوق ذراعيه .. فابتسمت لهم بعذوبة وافسحت له الطريق ليعبر فتحرك هو بكل بطء تجاه الدرج ليصعد درجاته برفق إلى الطابق العلوى حيث غرفتها .
دفع باب غرفتها بقدمه ودخل ثم اقترب من فراشها ليضعها فوقه بكل رفق حتى لا تستيقظ .. ثم نزع عن قدميها حذائها وسحب الغطاء ليدثرها جيدًا وانحنى عليها يلثم شعرها وجبهتها بحنو ، غير منتبهًا لجلنار التي تقف عند الباب تتابعه وهي مبتسمة بحب .

انتصب في وقفته بعد ثواني واستدار يهم بالرحيل لكنه تسمر مكانه حين رآها وطالت نظراته الجامدة إليها لتقابلها هي بنظرة اعتذار وندم ثم تهمس بخفوت وحزن :
_ ممكن نتكلم شوية
لم يجيبها وكان صمته رد بالموافقة على طلبها حيث التفتت هي وسارت عائدة نحو غرفتها ليتبعها هو بخطواته الهادئة ويدخل ثم يغلق الباب خلفه .
تقف للحظات مكانها تمعن النظر به بصمت وعينان دامعة ثم تقدمت منه ووقفت أمامه مباشرة شبه ملتصقة به هامسة بأسف وصوت مبحوح :
_ أنا آسفة ياعدنان صدقني مكنتش اقصد والله اقول كدا .. أنا طلعت مني من غير ما احس
قال بضيق دفين ونظرة ثابتة :
_ امتى هتنسي ياجلنار ونبدأ من أول وجديد ؟!!
انهارت قواها وانخرطت في البكاء وهي تهتف بصدق حقيقي وندم امتزج بغضبها من نفسها :
_ أنا بحبك اوي ومتأكدة إنك بتحبني كمان .. وصدقني أنا نسيت كل حاجة وفعلًا بحاول نبدأ من أول وجديد أنا وأنت وبنتنا وابننا اللي جاي في الطريق وننسى كل اللي فات .. بس اللي قولته الصبح والله العظيم ما كنت أقصده ومعرفش ازاي قولتها حتى ، أنا كنت متعصبة ومش عارفة أنا بقول إيه .. أنا آسفة ياحبيبي اوعدك أننا بجد هتكون بدايتنا من أول وجديد ومش هجيب سيرة أي حاجة حصلت في الماضي معانا تاني

ابتسم لها بعشق وانطفأت جميع نيران الغضب التي كانت مشتعلة بصدره .. لتلين نظراته بعد أن كانت جامدة ، وثغره يتزين بابتسامته الدافئة ، ليقترب منها ويمد أنامله ليمررها بلطف فوق وجنتها ثم يميل ويلثمها بلطف هامسًا :
_ خلاص متعيطيش يارمانتي .. مش بستحمل اشوف دموعك والله
زمت شفتيها للأمام بعبوس وقالت في شجن :
_ يعني خلاص مش زعلان مني
هز رأسه بالنفي وهو يبتسم لها بحب ثم هدر بخبث :
_ تؤتؤ بس عايز رشوة
ارتفعت البسمة العريضة لشفتيها فور جملته وراحت تجفف دموعها فورًا ثم دنت منه واخذت تلثم كل نقطة بوجهه مصطحبة قبلاتها بكلمة " بحبك " مع كل قبلة ! .. وبعدما انتهت وتوقفت ابتعدت بوجها مسافة لا تحسب عن وجهه وتمعنته مبتسمة لتلمع عيناه بوميض ماكر هاتفًا :
_دوري بقى !
مالت برأسها للخلف وهي تضحك هامسة بخجل :
_ عدنان عيب احنا مش في بيتنا !
رفع حاجبه بعدم مبالاة ورد بجدية :
_ والله محدش قالك ترشيني .. لكل فعل ردة فعل

لم يمهلها الفرصة لتعترض مرة أخرى أو حتى تهرب من بين براثينه بل انقض عليها يحصل على مبتغاه وسط ضحكاتها التي كانت تحاول كتمها وتارة هو يبادلها الضحك وتارة يمطر مسامعها بعباراته الجريئة والوقحة .
بعد دقائق طويلة نسبيًا لفت ذراعيها حول رقبته وهمست باسمة بدلال :
_ عدنان أنا نفسي في رمان وفراولة !
ابتسم ورد بهيام :
_بس كدا ده أنتي تأمري يارمانة قلبي .. حالًا يكون عندك الرمان والفراولة
جلنار بغنج انوثي جذاب :
_ بس دي مش اوامري دي أوامر الباشا الصغير ابنك
خفض نظره إلى بطنها وراح يتحسسها بحنو هامسًا في تلهف :
_ تعرفي أنا بعِد الأيام والشهور بشوق مستني اليوم اللي يشرف فيه للدنيا واشيله بين ايدي واضمه لحضني واشم ريحته
جلنار بحنان وعشق :
_ ان شاء الله ياحبيبي يجي بالسلامة وتربيه اجمل تربية زي هنا وتشبع منه .. ربنا يباركلنا في ولادنا ويحفظهم لينا
_ امين ياحبيبتي امين

ثم وجدها تفوهت بعبارة جعلته يندهش ويضحك بنفس اللحظة :
_ ربنا يخليك لينا ياعدونتي
عدنان ضاحكًا باستغراب :
_ عدونتي !!!
جلنار بعبس بسيط :
_وحش ؟!
ابتسم وتمتم بغرام يتغزل بها بكل حب :
_ أي حاجة تطلع من الشفايف دي يبقى أكيد قمر وجميلة زيك
ضحكت بخفة ثم مالت عليه وعانقته بحرارةلوقت طويل .........

***
بصباح اليوم التالي ..........
كانت جلنار تجلس بالمقعد المجاور له بالسيارة وفوق عيناها شريط عريض يحجب عنها الرؤية .. منذ خروجهم من المنزل وهو يضع ذلك الشريط على عيناها .
طريقهم بالسيارة طال حتى بدأت تنزعج وتقلق لتقول له بخنق :
_ كفاية بقى ياعدنان خليني اشيل البتاع ده أنا زهقت
أجابها وهو يتابع الطريق أمامها أثناء قيادته :
_ خلاص ياجلنار قربنا اصبري شوية
جلنار بنفاذ صبر :
_ طيب فهمني حتى ماخدني فين ؟!
_ لما نوصل هتعرفي .. تحلى بالصبر يارمانتي
تأففت بعدم حيلة وردت مغلوبة :
_اديني صابرة أهو .. مقدميش حل غير إني أصبر
بقت هكذا لدقائق أخرى لا ترى شيء فقط تسمع صوت أنفاسه واصوات الطرق والضجيج وبين كل لحظة والأخرى يمسك بيدها ويرفعها لشفتيه ليلثم ظاهرها بقبلات متفرقة فاتبتسم هي لا إراديًا .. حتى أخيرًا سمعت العبارة المنتظرة :
_وصلنا يارمانة أخيرًا بس خليكي مكانك ومتشليش الشريط

تنهدت الصعداء مغلوبة على أمرها وبقت كما هي بمكانها حتى التف هو حول السيارة وفتح باب مقعدها ثم أخذ بيدها في رفق لتنزل من السيارة ثم حاوطها بذراعيه من كتفيها وسار معها للداخل وهي تتساءل بعقلها عن ذلك المكان الذي يأخذها إليه ! .
سمعت عبارة لطيفة بالقرب من أذنها وهو يقول لها :
_جاهزة ؟
جلنار بتشويق :
_ من بدري أوي كمان .. اشيل البتاع ده خلاص من على عيني ؟!
_ أنا هشيله استنى
ثم تحرك ووقف خلفها ليرفع يديه ويفك عقدة الشريط من حول رأسها ثم ينزعه عنها لتفتح هي عيناها وتتجول بنظرها حولها مذهولة وبعينان متسعتان على أخرهم من فرط الصدمة ........

.......... نهاية الفصل .......

امرأة العُقاب .. للكاتبة ندى محمود توفيقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن