الفصل الثاني عشر
تيبس مراد مكانه للحظة , و هو ينظر بذهول لما شاهد .. فهو يري وشاح يوضع حول الرقبة أخضر اللون متأكد أنه لرباب يطفو على الماء و لا وجود لرباب .. لا يوجد سوى بلال يقف و يعطي ظهره للبحر و على وجه تعبير مبهم ..
مراد بذهول : هل قتلها ؟!
أمسك بهاتفه يبحث بجنون عن رقم دكتور عاصم و قبل أن يجيب عاصم كان مراد يركض تجاه البحر و هو يلقى بجاكته على الأرض , أجاب عاصم فهتف به مراد قائلا : ..
-لقد قتلها .. قتل الطبيبة رباب .
ثم ألقي الهاتف أرضا , و أكمل العدو بسرعة حتى مر من جوار بلال , فسمع بلال مراد يقول : ..
-اللعنة ..
ثم قفز مراد في الماء , التفت بلال للخلف ليرى وشاح رباب يطفو على الماء , فقوقع قلبه عند قدميه و فعل كما فعل مراد ...
....................
كلمة مراد كانت كفيلة ليفز عاصم مكانه واقفا .. جواره نهي تقول : ..
-ما الأمر ؟
لم يجيبها بل وجه كلامه لدكتور هشام قائلا بصرامة : ..
-ماذا يقولان الآن ؟
-لا شيء هناك عطل في جهاز التنصت .
-اللعنة .... تعالوا معي بسرعة , رباب في خطر .
ركض كل من في السيارة خلف عاصم الذي يركض بسرعة , و نهي كانت قلقة أيضا على رباب , هناك شعور أخر يحاول السيطرة على الجزء الأكبر من قلبها ليصوب سهام نظراتها على عاصم ..
وقفوا على الشاطئ لكنهم لم يجدوا أحدًا ..
عاصم بقلق : أين ذهبوا ؟
لعب الشيطان بعقلهم و هو يصور لهم الكثير .. حتى ظهر معالم أجساد مراد و بلال يحملن جسد رباب ..
أراحوها على الشاطئ , لكنها لا تتنفس , اقترب منها عاصم ليضغط على صدرها كي تلفظ الماء ...
هشام : ماذا حدث بالضبط ؟ و من أنت ؟
قالها مشيرا إلي مراد , لم يزد عن قوله مع اشهار سبابته نحو بلال : ..
-لقد قتلها !! هذا حاول قتلها !!
نظر له بلال بذهول و قال مبرأ نفسه : ..
-لا .. أنا لم .. أفعل هي ..
لم ينتظر دكتور هشام ليسمعه بل كبل يديه خلف ظهره بإحكام ..
أما نهي كانت نظراتها لا ترى سوى عاصم و اللهفة في عينيه على رباب , لم تستجب رباب كليا لم يفعله عاصم , فنظرت نهي لعاصم بصدمة ؟ هل سيفعلها .. مستحييييل ..
لكن عاصم كان لا يفكر فيما يفعل , يفكر فقط في انقاذ حياتها و كان على وشك أن يفعل لها تنفس صناعي عن طريق الفم , لكن رباب استجابت قبل أن يفعلها , و لفظت الماء لتستطيع التنفس ...
ظلام !
ظلام !
ثم تشوش قليلا .. كانت متأكدة أنها قد ماتت , لكنها ما هذا ... هل هذا هو القبر ؟ هل هذا هو مثواها الأخير , لكن لم لا ترى التراب حولها , لما لا تشعر بضمة القبر , و من هؤلاء .. إنها ترى أشخاص حولها , هل هم الملائكة جاءوا لسؤالها , ترى هل ستثبت عند السؤال ؟!!
لينقطع كل ذلك بسماع صوت أنفاسها الضعيفة التي استجابت للحياة , و الضوء الذي تسلل إلي عقلها قبل عينها لتنجلي تلك الظلمة عن عقلها , و ترى من هؤلاء , و ترى القلق في عيونهم ... نعم تعرفهم ..
مرت دقائق قلائل و بعدها أفاقت من ذلك الهذيان و بدأت تستعد توازنها , لتعرف أنها مازالت على قيد الحياة , و أن رحمة القدير قد وسعتها , و أعطتها فرصة لتعود و تكمل ما بدأته , جلست على الشاطئ و الجميع يسألها عما تشعر , لكنها لم تكن منتبهة ,بل كانت تسعل بشدة و تضع يدها على رأسها موضع الألم .
و لما هدأ سعالها بعد عدة دقائق , انتبهت عندما بدأ هشام يسحب بلال بعنف بعيدًا , فأوقفه صوت رباب الضعيف : ..
-ماذا تفعل دكتور هشام ؟ لم تجره بهذه الطريقة؟
مراد : هذا حاول قتلك !! لولا أن مّن الله عليك .
و من أخبره أن الحياة من الممن فهي من وجهة نظر رباب ابتلاء كتير !!
انتبهت للمتحدث و قالت : ..
-أنت .. أنت الأستاذ مراد ..
نظرت له بذهول .. ثم قالت : ..
-ما الذي أتى بك إلي هنا ؟
عاصم : لقد أنقذ حياتك .
قالت رباب على غير رضا :..
- أشكرك سيد مراد .
حاولت الوقوف فلاحظ عاصم أن ملابسها بالكامل مبتلة فخلع جاكته الطبي الطويل ثم ألبسها إياه , و لم ينتبه إلي من تحدق فيه بسهام العسل الأبيض من عينيها ...
هشام : سأذهب بالحالة للمشفى فحالته أصبحت خطرة .
رباب بضعف لكن بحماس : على العكس حالته في تقدم .
هشام : تقدم !!!!!!!!!!! ألا زلتِ على عنادكِ لقد حاول قتلك .
رباب : و من قال أنه حاول قتلي أنا من فقدت توازني ...
عاصم : لكن سيد مراد أخبرني أنه ..
بترت هي باقي عبارته قائلة : ..
-أتحداه إن شاهده و هو يفعلها .
مراد بتردد : لا ... هو فقط .....
رباب : كما قلت أنا من فقدت توازني .... فاتركه رجاءً دكتور هشام .
تركه هشام , فدنا بلال من رباب و قال : ..
-أنتِ بخير .
أجابته بابتسامة هادئة : ..
- نعم حمد لله !
-هل تعلمين أنك كارثة تمشي على الأرض .
-أعتقد أن معك حق و يجب أن أحذر في المرة القادمة لأنهم يقولون أن الثالثة ثابتة .
لم يملك إلا أن يضحك ضحكة رنانة , تعجب كل الحاضرين و نظروا لهما بذهول , قال بلال ما بين ضحكاته : ..
-أنتِ لستِ طبيعية .. هههههههههههههههه .
بينما كانت نهي تشتاط غيظا !!!
عاصم : أنتِ متأكدة أنك بخير !
رباب : بأفضل حال .
ثم تحاملت على نفسها و وقفت .
قالت نهي لعاصم بهمس سمعته رباب ( للأسف ) :...
-كان بإمكانك حملها !
-ماذا تقولين أنتِ ؟!! ليس لدينا وقت لترهاتكِ .
اغتاظت نهي أكثر , لكن رباب فهمت ما كانت تلمح إليه ! فحزنت كثيرا و تألمت و كأنه عقلها يرفض التصديق أن نهي هي الأخرى خذلتها .
"حتى أنتِ يا نهي !! لم يبقى لك أحد إذا يا رباب " .
عاصم : هيا رباب و نهي لاصطحابكما معي بالسيارة .
كانت نهي على وشك التحدث لكن رباب سبقتها .
رباب : لا يا عاصم , اذهب أنتِ و زوجتك وحدكما .
ضغطت كثيرا على كلمة زوجتك , وكأنها تحاول إدخالها إلي عقل نهي السميك , أنها بالفعل زوجته و ليس لرباب مكان بينهما ...
مراد : ممكن أن تأتي معي يا طبيبة رباب ؛ لأني أريدك في أمر هام , كما أني أريد أن أتحدث إليك دكتور عاصم .
عاصم : لا مشكلة تفضل .
رباب : لدى عاصم متسع من الوقت لك , لكن اعذرني فأنا لا أريد التحدث معك سيد مراد ..
مراد : لكن ..
رباب : كلامي الأخير قد قلته ..
عاصم : لا مشكلة يا جماعة لا داعي للخلاف , انتظراني عند السيارة , و أنا سأتحدث مع سيد مراد و ألحق بكما .
ذهب الكل عدا عاصم و مراد اللذان ظلا يتحدثان .
مراد : الآن بدأت أفهم كيف عرفت الطبيبة رباب عني الكثير , أنت من سربت لها المعلومات .. أهذه أسرار المرضى التي تعهدتها بالكتمان ...
بتر عاصم بقى عبارته الجارحة التي تتهمه في مهنته فقال برزانة : ..
-اهدأ سيد مراد , أنا لم أخن الأمانة , أنا كنت بذلك أحمي مريضة لدينا , أنت لا تعرف أهمية حالة غنا بالنسبة لرباب ...
(ملحوظة لقد تعرف مراد على عاصم عن طريق صديق لكلاهما , و كان يستعين به ببعض المشورات الطبية)
قاطعة مراد قائلا : ..
-اسمها السيدة غنا , أو حرم مراد شرف الدين , فإذا كانت الطبيبة رباب سمحت لك باستخدام اسمها الاول مجردا فزوجتي لم تأذن و لن تأذن لك .
- حسنا أعتذر .
تسللت ابتسامة لشفتي عاصم أخفاها ببراعة , هل بدأ مراد يغار عليها .. إذن أحبها , و سيشفى و يتخلص من هاجسه و مرضه أخيرا , إن غنا فعلت ما عجز عنه هو ... لكن مهلا ماذا إن كان هذا بدافع الشك و الغيرة فقط و ليس بدافع الحب , فطالما كان لمراد هاجس الحفاظ على اسمه و سمعته ..
طال حديثهم حوالي الربع ساعة يحاول فيها عاصم إقناع مراد أنه فعل ذلك لحماية السيدة غنا و لم يقل الأمر سوى لرباب , و هي تصرفت بحكم عملها , و أن رباب ليست بطبيبة عادية إنها محترفة علاوة على أنها عبقرية .. في النهاية اقتنع فقال عاصم مع زفرة حارة : ..
-و أخيرا !!
-لكن أريد منك أن تجعلني أتحدث مع طبيبتك العبقرية في أمر هام ... كما ترى هي ترفض ..
-لذلك فضلت الحديث معك أولا , و هن في انتظاري سأحاول أن تجعلها توافق , هلا أتيت معي .
انصع له مراد و حينما وصل للسيارة وجد نهي فقط في انتظاره فقال : ...
-أين رباب .
-الطبيبة رباب ذهبت مع سيارة الإسعاف رفضت الانتظار , و لما أنت مهتم هكذا , هي صديقتي أنا ....
نظر لها شزرا , ثم توجه بحديثه لمراد : ..
-لا مشكلة , لنلحق بها بالمشفى .. لكن سيد مراد ملابسك مبتلة , ممكن أن تمرض , يفضل أن تذهب , و حدثها غدا فالطبيبة رباب ستظل عدة أيام لن تعود القاهرة اليوم , عادة لا تعود قبل 5 أيام .
أصر مراد على الذهاب معهم , وعندما سألوا عليها في الاستقبال أخبرتهم الموظفة أنها غادرت منذ ربع ساعة , فلم يجد مراد بدا من الرحيل و العودة غدا ...
===================
في شقة مراد ,,
كان سالم الغندور ينتظر مراد على أحر من الجمر حينما أتاه اتصال من محاميه الخاص :..
-مرحبا !
- مرحبا سيد سالم , كنت أريدك في أمر هام .
- خيرا !
- لما يا سيدي فتحت أكثر من حساب باسم السيدة غنا , إن الضرائب قد تفكر أنك تفعل ذلك للتهرب منها .
- عن أي حساب تتحدث , ليس باسم غنا سوى حساب واحد في المصرف و أنت بنفسك من أنشأته .
- لكن سيدي و أنا أدون مع محاسب الشركة و نرجع حسابات البنوك , وجدنا حساب باسم السيدة غنا و تم فتحه في القاهرة .
- قلت لك أني لم أفتح أي حساب أخر لها , و لا أتعمل مع أي مصرف في بالقاهرة .. أريد أن أعرف من قام بفتحه و ما هدفه من ذلك و لا أريد أخطاء مفهوم .
- حسنا أمرك !
-غدا تكن كل الأوراق و المعلومات على مكتبي .
شعر المحامي بلهجة التهديد و الحزم التي لم يفقدها هذا الرجل بمرور الزمن , فقال : ..
-ساعتين بالضبط فقط سيدي وسأجمع لك الأوراق اللازمة ..
- حسنا , و أنا سأحاول القدوم إلي المكتب .
أمسك هاتفه و اتصل بمراد : ..
-السلام عليكم بني , إلي ماذا وصلت ؟
-لا شيء , عدت خالي الوفاض .
- قلت لك لا تبني أمالا على ابنة راضي هذه .
- نحن لم نتحدث بعد ... و أنا متعب للغاية .
-هل ستعود ؟
- نعم أمامي حوالي نصف ساعة .
- حسنا ! فأنا أمامي اجتماع هام , سأضطر للمغادرة .
-لا مشكلة , لكن اجعل الممرضة تغادر .
- لما ؟
- لا يليق أنا أجلس مع امرأة غريبة مادامت غنا ليست في وعيها .
-حسنا بني .
و قد شعر بالمزيد من الاحترام لمراد ..
================
أغلق مراد هاتفه و هو يشعر بالضجر , أولا بالضجر من ذلك المدعو سالم الغندور , رغم أن فضله يطوق والده و عمه , لكنه يرى من ذلك الرجل غموضا و غرورا و الكثير من الصفات التي يكرهها . ثانيا بضجر من هيئته , ملابسه المبتلة و الرمال العالقة بثيابه المنمقة , وهو رجل يحب التأنق , لا يريد أي خلل في مظهره الرائق ... و هو يتحمل كل ذلك في صبر من أجلها و لا يعرف النتيجة .. نتيجة صبره و جهاده من أجلها , هل ستقبله أم ستظل مجبره عليه تتمني لحظة الانطلاق بمجرد التحرر من قيد مرضها . ثالثا الضجر من فشله الذريع في إقناع رباب في علاج غنا من جديد .
ليكتمل كل هذا بتعطل السيارة , كاد يحطم السيارة بأكملها من الغيظ , و فتح غطاء مقدمة السيارة و لا أمل في إصلاحها , سخر من نفسه !! لما فتح غطاء السيارة من الأصل !! فهو شديد الجهل في مثل تلك الأمور !!
لينتهي هذا اليوم _بالرغم من أن الساعة مازالت الثالثة _ نهاية غاية في السوء من وجهة نظره ... هطل المطر أنهارا , فوضع كفيه على وجهه بضيق , و أغلق الغطاء بعنف ..
===============
دخلت رباب أحد الفنادق البسيطة التي قد حجزت إحدى غرفه بالفعل , كلما تقدمت خطوة طالعتها العيون بتعجب أكثر من هيئتها المزرية المثير للسخرية , لكنها كما اعتادت دوما ليس لتجاهلها حدود و ليس لبرودها رادع . أخذت مفاتيح غرفتها و لم تلتفت لمكان سوى المرحاض , ألقت بملابسها و حاولت الاسترخاء تحت سحر المياه المنهمرة لكنها لم تكن المياه فقط من تنهمر بل دموع رباب أيضا كانت تنهمر كالشلال , امتزجت مع المياه لينساب كلاهما على جسدها و كأن دموعها تغسل جسدها المنهك لتريحه من ألامه المبرحة , و تسرح روحها طليقة بعيدا عن هذا الألم الذي اكتسحها بلا منازع فلم يدع لها مجالا لتشعر بأي شيء سوى الألم ...
أنهت استحمامها و بعثت بملابسها لتنظف و تكوى و ارتدت هي ملابس الاستحمام ما يدعي " البورنص "
و أراحت جسدها المنهك على الفراش ..
كيف لبشري أن يحتمل كل هذا ..
مسئوليتها كطبيبة !!
مسئوليتها كأم !!
مسئوليتها كزوجة !!
أرادت أن تعلم وائل درسا لكنها هي التي مازالت تلميذة , وخطتها اليوم للتسوق بائت بالفشل بسبب مجهودها الشاق الذي بذلته , ليزيد على همومها هما جديدا و كأن ما بها لا يكفي ليأتي أمر غيرة نهي - الغير مبررة - ليكمل عليها , و ذلك المراد الذي تتبعها و لم يبدو أنه اكتفي من اتباعها ..
يكفى هذا لليوم يا الله !! لم تعد خلية من خلايا جسدها لا تأن ألما .. جسدها و روحها يبكيان بألم .
ثقل رأسها من أفكاره ليثقل معه وسادتها فنامت أخيرا , نوم تعب , نوم من اشتهي النوم منذ سنوات و لم ينله إلا الآن .
===================
في شقة مراد شرف الدين ,,,
أصبحت وحدها الآن في شقته , خائفة من أن يأتي في أي لحظة , ليست خائفة منه فقط بل خائفة من نفسها أكثر , فعقلها في مثل تلك المواقف الحاسمة يخونها و ينسحب , لكن الوحيد الذي يقف بصفه ذلك اللعين صغير الحجم الذي يتخذ من ضلوعها حصنا له , ليحميها من ذلك العقل الذي ينكر عليه خفقاته على شهامته معها حتى الآن , فقد أخبرها جدها عن محاولته المستميتة لإيجاد رباب و هو يظنها نائمة ...
....
و خلف الباب و صل مراد بعد جهد جهيد منه حتى يصل , بعد صراع مع المطر , يكاد يقع على الأرض من إرهاقه , أخذ يسعل بشدة بدون توقف , و يشعر بالبرودة تنمل أطرافه , بأصابع مرتجفة أمسك سلسلة مفاتيحه من جيبه , حاول أن يضعها في الباب عدة مرات لكنه لم يستطع , فوقعت أرضا من شدة ارتجاف أصابعه , و أيضا يلتقط أنفاسه بصعوبة , لم يجد ما يفعله سوى أن يضغط على جرس الباب حتى تنقذه هي .
........
أما هي فانتابها الذعر , من هذا الطارق , يمكن أن يكون صاحب المنزل الذي يدعى شرعا و قانونا زوجها , لكنه لما يستخدم جرس الباب !! أليس لديه مفاتيح الباب ؟! و لما طال مدة رن الجرس , يمكن القول أنه يديه لم تنزل من على الجرس , فقامت متوجسة حذرة , اقتربت من الباب لتنظر من العين السحرية , لتنطر له بعيون تملأها دهشة و قلق , ما به يبدو عليه الشحوب , يسعل بمرض كمن يختنق , مبتل من منبت شعره إلي أخمص قدميه , يستند برأسه على الباب , و يده يمكن القول أنها التصقت بزر الجرس ..
............
بدأ ييأس من أن تفتح الباب و قد أدرك أنه لم يعد يستطيع المقاومة سيهوى على الأرض , و بالفعل هوى لكنه لم يهوى على الأرض بل على جسدها الذي ظهر عندما فتحت الباب , لم يكن يتوقع هذا , و هو بجسده الرياضي الثقيل لم يتحمله جسدها الهزيل ليقعا معًا على الأرض , خرا ساقطا عليها , تأوهت هي بألم و زحزحت نفسها لتخرج من أسر جسده عليها , فلمست يدها - في محاولتها تلك - جبينه لتجده يتقد من السخونة , فشهقت بخوف , بالكاد استطاعت الوقوف على قدميها , و جرت جسده قليلا لتدخل جسده بالكامل , زفرت بقوة عندما استطاعت أن تغلق الباب .
و الآن وقفت حائرة ماذا تفعل ؟ لا يمكن أن تتركه هكذا على الأرض ! كيف تقابل الإحسان بالجحود ! فهو ما كان ليحدث له هكذا لولاها , و حنانها الفطري لم يكن ليقبل حتى و إن كان الراقد ألد أعدائها كانت ستساعده , فما بالها بمن وافق على مساعدتها دون أن يطالب بمقابل , فأحضرت كوب مياه و رشت عليه برفق يليق بتلك الحسناء البريئة , أفاق بأنين خرج منه رغم عنه فعلمت أنه بفعل درجة حرارته العالية ..
غنا برقة : هل تستطيع أن تساعدني حتى نصل للفراش .
تحامل على نفسه و هي تساعده حتى وقف , كان يميل عليها بجسده لفارق الطول بينهما فهي لم يصل حتى لكتفه , و ضئالة جسدها مقابل ضخامة جسده , فكان المشهد كهرة تساند أسد .. لم تستطع أن يصلا لباب الغرفة حتى , فأراحته على الأريكة الموجودة في الصالة , فقالت كمن يوشك على البكاء تأثرا بحالته التي تزداد سوءًا مع الوقت : ..
-آسفة ... آسفة .. تحمل رجاءً حتى نصل للغرفة .
قال بصوت ضعيف متهدج : ..
-لا مشكلة .. سأنام على الأريكة , فالغرفة الأخرى غير متهيئة لأنام فيها .
- سنذهب لغرفتك تلك .
قالتها و هي تشير برقة إلي الغرفة التي تستعملها هي , فرد عليها هو : ..
- لا أنتِ من سينام فيها ..
همت لتعترض و لكنه قاطعها بحزم : ..
-توقفِ عن الجدال ألا ترين أنني متعب ... سأنام على الأريكة .
انصاعت له و أراحت جسده على الأريكة .. و هي تتعجب من هذا الإنسان ؟ الذي لم يفكر في نفسه و لو للحظة ! ألا يوجد حد لعطائه !!
أحضرت مياه بارده لعمل كمادات له , ظلت تبحث في المنزل كله عن أي أدوية , و بعد جهد كبير منها وجدت أدوية لخفض درجة الحرارة , ثم أعدت حساء ساخن له , بعد تمنع منه و إلحاح منها تناوله , أعطته الدواء , و هو مازال على حالته المحمومة تلك كان يهذي بكلمات غير مفهومة : ..
-الخائنة .... عـ .. عادت ....... غنا , رباب ..
لم تفهم شيء مما يقوله , من الخائنة ؟ و ماذا بها هي نفسها ؟ و ماذا بها رباب ؟
لكنه كان يبدو مهموم حقا , الأمر الذي جعلها تشفق عليه , فكرت أن وضعه على الأريكة غير مريح , وهو متعب وهي متعبة , أبدلت له الكمادات , وتوجهت تلقائيا تبحث عن الغرفة الأخرى , دخلتها و تمنت لو لم تفعل ...
مستحيل !! تلك ليست غرفة نوم إنها أقرب لمكب نفايات , خيوط العنكبوت قد نُسجت فوق جدرانها , الغبار في كل مكان , أثاثها مخفى أسفل الاتربة ..
كادت لتفرغ كل ما في معدتها من مظهر الغرفة , مطت شفتيها في استياء فأصبحت ملامحها أكثر براءة , و نظرت له , فأشفقت على حالته , فقررت الخوض في ذلك الانتحار المسمى تنظيف تلك الغرفة . شمرت عن ذراعيها , وارتدت مريول فوق ملابسها لعلها تحميها من الأتربة , لكنها لم تفعل فقد أصبحت ملابسها كأنها قدت من الأرض . أخذت تنظف و تنظف , و تزيل الأتربة , و تلمع الجدران , و تمحو أثار خيوط العنكبوت .
كلما أمضت عشر دقائق تنظيف , عادت لتبدل له الكمادات .
بعد حوالي الساعتين , افترشت غنا على الأرضية , تسند رأسها للجدار , وحبات العرق الغزير تتساقط من جبينها , تلهث بقوة , لا تستطيع الوقوف على قدميها من التعب , نظرت للغرفة حولها فابتسمت ابتسامة رضا ضعيفة , فمن يدخل الغرفة الآن لن يعرفها تبقي فقط اشياء بسيطة , نظرت لملابسها بتقزز , ثم أغمضت عينيها , خلعت المريول فانطلق منه الغبار ليملأ عينيها , فألقه بعيدا ...كان عليها أن تقوم لتكمل , لكن التعب قد بلغ منها مبلغه , لكنها حمست نفسها قائلة : ...
-غنا ما دمتِ بدأتِ في شيء فلتنهيه .. هيا .
قامت و أمسكت بالمكنسة و بدأت بالتقاط الأتربة بواسطتها , رأت أن كثيرا من الأتربة يأتي من خلف قطعة أثاث , فقررت إزاحتها , شعرت بالألم في جميع عضلات جسدها , و شعرت بالحكة , فقررت أن تنتهي بسرعة حتى تغتسل , أزاحتها قطعة الأثاث الضخمة تلك بصعوبة , لتجد ما يمثل الهاجس الأكبر بالنسبة للفتيات , من يجعل أي فتاة تصرخ و تجرى منه كأنه وحش , رغم أن حجمه كقبضة اليد ... نعم أنه الجرذ يا سادة .. و كفتاة طبيعية رقيقة , صرخت صرخة عالية , و هربت تجري قائلة : ..
-النجدة .. النجدة .. أغيثوني ..
انتفضت كثيرا , حتى اقتحم مراد الغرفة - رغم مرضه – قلق عليها كثيرا عندما سمعها تصرخ , أحس و كان رأت شبحا .. اقترب منها و قال : ..
-ما الأمر ؟
كانت تبكي , فضمها إليه و قد ظن أن تلك إحدى حالات الاهتياج العصبي التي تنتابها , فضمها إليه أكثر و هي مازالت تبكي , قال بهدوء و هو يربط على ظهرها : ..
-ما الأمر ؟ لم يحدث شيء !! فقط اهدئي أنتِ في أمان !
أجابته بخوف شديد , و يدها التي تحاول أن تشير بها إلي الجرذ ترتعش بشدة : ..
-لا .. إنه .. إنه جرذ !
اتسع فاه على مصرعيه , وابتعد عنها مصدوما و قال : ..
-كل هذا من أجل جرذ ...
ابتسم ابتسامة ضعيفة و هو يقول : ..
-أين هو ؟
اشارت له ثانية على مكانه , وبعد لحظات من المطاردة استطاع مراد التخلص منه , و ثم ألقي نظرة خاطفة عليها و انتبه أنها تقف بمكان نظيف , فقال بتعجب : ..
-ما هذا المكان ؟
أجابته بحياء و رقة أذابته : ..
-إنها .. الـ .. الغرفة الأخرى .
-مستحيل !! إن يديك فيها سحر لتحول الغرفة هكذا .
لم تجبه سوى بابتسامة خجول , ثم قالت بحياء : ..
-آسفة أني أفزعتك و أنت متعب .
-أنا أفضل حالا الآن !! أنا الذي يجب أن أأسف فلقد تعبتِ معي , و مع تلك الغرفة ...
-متأكد أنك بخير .. إن حرارتك عالية .
أنهت جملتها بوضع يدها على جبينه , لا يعلم مراد إن كانت حرارته ازدادت في تلك اللحظة أم ماذا , لما شعر باضطراب , من رقتها , من ابتسامتها التي أذابت جليد كرهه و حقده على بنات حواء , أفاق من شروده على صوت شهقتها الصغيرة مع قولها : ..
-يا الله حرارتك لم تنخفض بعد ... أعتقد يجب أن تغتسل لعل هذا يخفف من الحمى .
تنحنح هو قائلا :..
- أحم أحمم حسنا ! شكرا على تنظيف الغرفة من أجلي .
-لا بإمكانك استخدام غرفتك , شكرا لأنك تحملتني .
-لا أنا سأستخدم هذه الغرفة , حتى تكونِ على راحتك .. الغرفة الأخرى هي الوحيدة التي بمرحاض خاص .
-شكرا ! أعتقد يجب أن تسرع لأن جسدك بدأ ينتفض .
خرجا معا توجهت هي إلي الغرفة ؛ فقد بدأت تشمئز من رائحتها و مظهرها بعد معركة التنظيف تلك , و هو ذهب إلي المرحاض ليغتسل بالماء البارد , كل جسده كان ينتفض , اسرع بالذهاب لغرفته بعد الحمام ليدثر في الفراش , فقد كان يشعر بالبرد الشديد . دخل الغرفة فوقع نظره على طبق حساء بجواره دواء , ابتسم تلقائيا .. ثم لف البطانية حول جسده و هو يتناول الحساء , أنهاه بصعوبة بسبب ارتجاف أصابع يده , ثم تناول الدواء و أهب نفسه بعدها ليستريح , لكنه فوجئ بصراخ ... نعم صوت صراخها .. فركض سريعا تجاه الغرفة , ليسمع صوت صرخة عالية ..........
أنت تقرأ
عما قريب سأصرخ
General Fiction#عما_قريب_سأصرخ رواية درامية اجتماعية اقتباس - أسف لتطفلي بما أنك رتبت كل شيء مع عائلة الغندور ولم تلقى بالا بإخباري سوى الآن , فهل يحق لها أن ترى صورتي , وأنا لم أرها حتى .. - لا تقلق بذلك الشأن فستراها الآن , وتتمني ألا يراها أحدُ غيرك .. هتف مر...