١٨

813 32 1
                                    

الفصل الثامن عشر
في شقة عاصم ,,,
دخل عاصم شقته , و قلبه يعتصر في ضلوعه هما و حزنا , إلي أن أكتمل الأمر بوالدته ...
-وصلت بالوقت المناسب يا عاصم الغداء حبيبي ..
-لا شهية لدي أمي ... سأذهب لغرفتي .
-ماذا فعلت لك ابنة رقية ؟ اليوم و قبل أن يتم الزفاف أفقدتك شهيتك ... و بعد الزفاف ماذا ستفعل ؟
تنهد بضيق و هو يقول : ..
-أمي .. لست أنتِ أيضا .. حرام !
-حرام عليّ أنا ... ماذا فعلت بك تلك الفتاة يا عاصم .. ابني أنا يقول لي هذا .. بدأت تقلبك عليّ ..
لم يجد عاصم نفسه إلا و قد جذب أمه من يدها و أجلسها على الأريكة و تمدد و وضع رأسه على  حجرها كطفل صغير و قال : ..
-ما الأمر يا أمي .. أنا فقط متعب .
-قلبي غير مرتاح لتلك الفتاة يا بني ... ألم تجد فتاة غيرها .
قال بهدوء يليق بطبيعة الحديث , و يليق بصاحبة الحديث .. فهي والدته , التي يحبها ... بل يعشقها , و ما زاد حبه في نهي و أكد له أنها نصيبه أنه شعر أنها تشبه أمه , فأمسك قبضة يدها و ضمها إلي صدره و قال : ..
-أمي المشكلة ليست فيها  ... المشكلة ستكون في أي فتاة أرتبط بها ... غيرتك ستجعلك تكرهيها ..
-ماذا تقصد يا عاصم .. أنا ..
-اسمعيني يا أمي ... أنت ربيتني و أعلم كم أنتِ تحبين عاصم ابنك الوحيد و تغارين عليه من نسيم الهواء , أنتِ لا تتخلين أني سأبتعد , سأترك جلبابك و سأتشبث بجلباب أخرى .
تأثرت بكلماته فهي تعلم كم هو محق , لكنها متعجبة كيف قرأ أفكارها هكذا , جزء منها يكابر و جزء أخر يؤيده و يعلم أنها مخطئة لذلك صمتت , ماذا بيدها و عاصم هو ابنها الوحيد ... تكذب لو قالت أنها تحبه فقط , إنها تعشقه ...
قالت ببعض من الحدة : ..
-عاصم ! أنتِ تقول مثل هذا الكلام لي ..
-أمي أنا لا أقصد الانتقاص من شأنك أبدا و لا أجرؤ أن أفكر حتى  في ذلك ..
ثم قبل ظهر يدها و قال برزانة : ..
-أمي هل تذكرين عندما كنت طفلا , كنتِ كل ليلة تحكين لي قصة من قصص الأنبياء , هل تذكرين ؟!
قالت بخفوت و قد زاد حنينها الأموي لتلك الذكريات : ..
-نعم
-وقتها عندما وصلنا لقصة سيدنا محمد – صلى الله عليه و سلم .
-عليه أفضل الصلاة و السلام
-وقتها قلتِ لي أنه أوتي الجمال كله ... هل تذكرين ما كان سؤالي وقتها .
قالت بشرود على لسانه و كأنها تستعيد ذكرياتها مع ولدها : ..
-لقد قلتِ يا أمي سابقا أن سيدنا يوسف أؤتي شطر الجمال وحده و سيدنا محمد أوتي الجمال كله .. فكيف يكون الجمال واحدا و نصفا ..
-و هل تذكرين إجابتك و قتها يا أمي .
-نعم أذكرها ... كانت إن سيدنا يوسف أوتي شطر جمال الكون في الهيئة ... أما سيدنا محمد أوتي جمال الأخلاق كاملا دون نقصان .. و لا يطغى أحدهما على الأخر .
-فكيف الآن تجهلين إجابة سؤال أجبتِ أنتِ عنه باقتدار .. إجابة دامغة تكسر أشواك قلقك و خوفك ... هكذا أنتما لدي يا أمي , حبك أنتِ حب لن يتقاسمه أو ينقص منه أحد , حبك حياة و هبتيها لي و أنا أجاهد للحفاظ عليها مع شريكة اخترتها .. يجب أن أكرمها و أحبها .. و في يوما قد قدره الله ستهبك أنتِ أحفادك .. ألا تتوقين لرؤية أولادي تدللينهم و تسقينهم حنانك ... أنتِ ملكة قلبي يا أمي , لا يوجد امرأة تهز عرشك مما جرى ..
قبلت جبهته بحنان و قد خانتها دموعها , شعر بذلك , فهب جالسا يمسح دموعها و هو يقول بحنان : ..
-لم أقل هذا لتقريعك أو زجرك حاشا لله يا أمي .. إنما كنت أريد أن أفضى إليك ببعض حديث نفسى و أفكارها , لأنزع عنك شكوكك , لتشاركيني فرحتي يا أمي .
ثم قبل يدها , فملست على شعره بحب و هي تردف : ..
-كما أتمني يا حبيبي هذا اليوم الذي أحمل فيه أولادك كما حملتك ... كما يقولون "أعز الولدِ ولدُ الولدِ "
قال عاصم ببعض من المرح رغم الألم الكاسح لروحه , و الهم الجاثم على صدره : ..
-لكني وقتها أخشى أن أغار أنا منهم إن صرتِ تهتمين بهم أكثر مني .. أنا رجل شديد الغيرة و أحب الدلال ..
ثم أعاد رأسه على حجرها ,  و ظلت هي تمسد شعره بحنان أمومتها .. و هي شاعره بالذنب ؛ فهي لم تشارك ولدها فرحته كما ينبغي , كما تشعر ببعض الندم ؛ فولدها عاصم الحبيب الذي تعرفه لم يكن يستحق منها أن تزيد همه أو تحمله وزر غيرتها الغير مبررة تلك .
تدخل والد عاصم في ذلك المشهد , و قد أطل بوجهه الغاضب قائلا : ..
-تحشم يا عاصم ! و قم من مكانك .. و انظر فداحة ما فعلت .. ألا تخجل من فعلتك ؟!
انتفض عاصم من جلسته واقفًا باحترام و طأطأ رأسه , بينما تسمرت والدته مكانها جالسة لا تفهم ما حدث ..
======================
في شقة سمر بالحي الشعبي ,,,
انتبها جميعا لذلك الصوت الأنثوي الذي قال : ..
-ما الذي يحدث ؟
زمت سمر شفتيها بامتعاض من تلك الجارة الفضولية التي تعلم أن من نوعها الكثير في هذا الحي , فقالت بامتعاض : ..
-لا شيء يا خالة .
-خيرا يا ابنتي لقد سمعت صوت شجار ..
ثم أحذت تلك المرأة تتأمل الزائرين بنظراتها الفضولية التي أغضبت ثلاثتهم  , ثم تابعت : ..
-من هما يا ابنتي .
-أنتِ تعلمين أني أعمل .. و الدكتورة رباب زوجة أخي تعمل  و لسنا ممن يختبئن خلف الجدران ..
و أخيرا علم مراد سر تلك العلاقة .. لهذا كانت سمر ستتصل بوائل ؛ لأنه أخته!!
لكن أي شخص هذا الذي يسمح لأخته و زوجته بالمكوث وحدهما و هو في نفس المدينة , خاصة و زوجته مريضة بمرض مزمن ؟ أم ما هي تركيبة رباب تلك كي ثني وائل عن حياتهما هكذا ؟
أوقف حديث أفكاره الفضولي تمادي تلك المرأة في الحديث :..
-وهل عادت رباب إلي هنا .. أين هو أخيكِ إذن , و هذان الشخصان .....
فقاطعها مراد بغضب مصطنع مع برود :..
- و ما شانك أنتِ يا خالة ؟ من الأفضل أن تهتمي بشؤنك الخاصة , فلا أحد هنا يطلب اهتمامك الزائد ذلك , لكنك يبدو أن لديك فراغ ... قـــاتل .
امتعض وجهه المرآة و احمر غضبا من وقاحته فصعدت نحو شقتها التي تعلو شقة سمر ..
فزفرت سمر في ضيق  ..
سالم : يكفي هذا! أخبري رباب تلك أننا ..
اغتاظت سمر من فظاظته و قالت : ..
-أنت في منزلي يا سيد ..
لكن صوت العقل في تلك الوقفة تدخل ..
مراد : هل يمكنكما الهدوء حتى نتحدث في الداخل ..
أشارت لهما سمر ليصمتا و تقدمت للخارج , و قد علمت أن تلك الجارة لم تدخل شقتها بل واقفة تتنصت عليهم , فتمتمت سمر بضيق : ..
-تلك الشمطاء !! لو كانت رباب هنا لأخرستها !!
ثم علت نبرتها لتقول و هي تنظر لأعلى : ..
-ما الأمر يا خالة ؟ هل ضاع مفتاح شقتك ؟!
سمعا صوت المرأة المرتبك يقول : ..
-أنا .. أنا أبحث عن المفتاح .. لا تقلقِ ..
زفرت سمر بضيق , لكن تحولت ملامحها للراحة بعض الشيء و هي تلتقط ملامح الشخص الصاعد على الدرج فهتفت لتسكت تلك المرأة : ..
-مرحبا يا أخي ! لما تأخرت الضيفان في انتظارك !!
******
-ماذا فعل عاصم يا أبا عاصم ..
قالتها نوال بقلق لزوجها .
وقف الأب ببرود قاتل و هو يتقدم تجاهه ببطء , و بسرعة خاطفة كان ممدًا مكانه على حجرها , واضعا أناملها قسرا على رأسه , و هو يقول : ..
-هذا ذنبك ... من هي ملكة عرش قلبك يا هذا ؟! من أنت لتتجرأ على قولها ؟!! إنها ملكة عرش قلبي أنا .. و هذا مكاني أنا و ليس أحد أخر ..
التقطتا أنفاسهما الضائعة و ابتسما على مرحه , الذي أصر هو على افتعاله لينتهي الحوار الذي سمعه بينما كان واقفا هناك يراقبهما بفخر .. حقا هو اليوم فخور بولده , عاصم رغم كل شيء رجل .. يستحق كلمة رجل , رجله الذي شعر أنه ثمرة عمره كله , كيف تدارك الأمر بحنان و احتواء و حكمة و تعقل .. تفهم أمر غيرة والدته ؛ بسبب حبها الكبير له .. و تمكن من جعلها تقبل نهي بل تحبها كذلك ..
هو حقا بعد سماعه الحوار من البداية لا يجد ما كلمات تسعفه لوصف شعوره الكامن خلف أسوار الافتخار الأبوي ..
لم تضع سنين عمره هباءً , ها هو عصفوره الصغير حلق فوق أسواره احتواء أبيه تاركا عشه القديم ليبني عشا جديد متأكد من أن الرياح لن تهدمه أبدًا ما دامت عين عاصم الساهرة تحرسه .. و سينشئ أولادًا مثله ليكونوا ملاذا للأمة ... لكنه أبدًا لن ينسى عشه الأول و لن يجعله عشه القديم المهجور ..
قال عاصم بصوت أنهكه التعب لكنه أطفى إليه بعد المرح :.
-حسنا سأذهب إلي غرفتي ؛ بما أنني العزول بينكما يا عصفوري الحب .
ابتسما , و بعدها قال والده قبل أن يغادر عاصم : ..
-هل اخترت أنت و نهي الشقة المناسبة , اعلم أنك عجلت في عقد القران حتى تتما كل شيء معا ... أعتقد أن الشقة التي في (.....) كانت أفضل من بين الجميع .
شهقت والدة عاصم ثم أردفت :  ..
-هذا بعيد جدًا عنا .. كنت أظن أنك فكرت جديا في أخذ الشقة تعلو شقتنا ..أنت تعلم أني ..
تنحنح والد عاصم و هو يقول : ..
-ألم نتفق أن ابننا قادر على حال مشاكله بعيدا على أفكارنا نحن .. هو سيتخذ القرار .
-أنا لم أقصد كنت فقط ..
قاطعها عاصم قائلا بعد أن زفر زفرة لا يعلم سببها غيره – فبماذا تفيد الشقة و هو و العروس يفكرنا في ال... لم يستطع عقله تقبل الفكرة لينطقها لسانه : ..
-لا بأس يا أمي ... لقد فكرت جديا في الأمر , و علمت أن جيراننا سيتركون الشقة في غضون أسبوع و قد اتفقت مع المالك و سأخد الشقة .. فهي جيدة و حديثة الطراز .
والده : عاصم ! لا أريد أن يكون قرارك نابع من أي ضغط خارجي .. حياتك ملك لك فقط .
عاصم : لا يا أبي , لقد اتفقت معها و هي موافقة على الشقة و سنفرشها أن و هي إن شاء الله في الوقت المناسب  ... فأنا أعلم ظروف عملي و هي مثلي .. فإنا لم نقدر على عمل الطعام .. من غير "ست الكل" ستعيننا في موقف هكذا , يبدو أني سأظل عالة على طبيخ يدك الذي أدمنته يا أمي .
ثم قبل يد والديه و دخل غرفته دون كلمة أخرى , فالتفتت نوال نحو زوجها هامسة : ..
-لا أعلم .. لكني أشعر أنهما متشاجرين .
-نوال !! هل عدتِ لسابق عهدك  ..
نفت برأسها قائلة : ..
-و الله أبدا .. أنا خير من يعرف ولدي و قد أقسمت ألا أحمله وزري أنا الأخرى بعد الآن .. لكني أدركت بقلب الأم ما عجز هو عن قوله ... إنه متألم , و شجارهما يبدو كبيرا .. ألم تلحظ أنه لم يقل اسمها طوال الحديث و يتحدث عنها بصيغة الغائب ..
-لا أعلم !
-هل تسمح لي بزيارتها ..
-لكن  ...
-نوال حبيبتك أخطأت مرة و لكن ألا تثق بعقلها .. أعدك لن أكرر خطأي ..
-أثق بكِ .. اذهبِ يا نوال
*****************
في شقة سمر بالحي الشعبي ,,
سمعا صوت باب الشقة العلوية يغلق , فابتسمت برضا , بعدها تمعوا النظر في وائل الذي يصعد درجات السلم بضجر من طولها و من منظرها , فليس من عادات الطاووس المتكبر أن يأتي لمكان كهذا ...
لكنه شعر بالغرابة من صوت سمر العالي و من هذان الضيفان ؟!!
وصل لنهاية الدرج ليلتقط بعينه صورة الضيفين , و قد علم هوية أحدهما..
وائل : السيد مراد شرف الدين ..
مد مراد يده مصافحا إياه بدبلوماسية قائلا : ..
-مرحبا سيد وائل  ..
نظرات الدهشة في عينين سمر من أنهما يعرفان بعضهما ..
و نظرات تعجب من وائل بقدوم شخص كمراد لمثل ذلك المكان ..
و نظرات الغرابة من جهة سالم ...
سمر : هل تعرفان بعضكما ؟
سالم : مراد ماذا يحدث ؟
مراد بتعقل : هل سنتحدث هكذا على الباب .
ضربت سمر بيدها على جبهتها قائلة : ..
-أوه .. لقد بذلت مجهود خرافي في إسكات تلك الشمطاء , تفضلوا !
....
بعد عدة دقائق , تم فيها شرح الوضع , شعرت سمر فيها بالدهشة من أن ذلك الرجل المتغطرس الذي يدعى سالم الغندور , هو جدها !! جد رباب !!
و يا للعجب نفس أسلوب وائل !!
و هكذا أصبح بدل الطاووس اثنان !!
هل دُمغت حياة رباب دائما بصك مع المتغطرسين !!
كما أن هذا الرجل بعد كل تلك السنين جاء فقط من أجل عمل لا تعرفه و هو الذي لم يأت يوم من أجل رباب أو من أجل أن يرى أبناء حفيدته !!!
غريب ! كل ما يتعلق بك رباب ! غريب و مؤلم في آن واحد ! لو أنثى أخرى لما تحملت كل هذا الضغط !
قصيدة عذاب ! حياتك كلها قصيدة عذاب تعيشين عمرك بين أبياتها !!!!!!!
بينما أشاح وائل بوجهه و هو يشعر بالضيق , نعم فهو يتذكر ذلك الرجل الذي رفض حضور زفافه و قد اعتبر هذا إهانة بالرغم من أنه لم يرَه و لم يعرف اسمه لكن يكفى أنه الشخص الوحيد المتبقي من عائلة رباب و مع ذلك تمنع عن أن يكون وكيلها ...
كما أنه يشعر بالضيق الشديد من رباب ؛ بسبب تصرفاتها الأخيرة التي لم تعد تعجبه , فتثاءب و قال :..
-عذرا .. فأنا ذاهب لأستريح في الداخل فقد كان العمل مرهق اليوم ..
حدق الجميع فيه بصدمه , قبل أن تقول سمر : ..
-أهذا هو اتفاقنا يا وائل .. ألم أخبرك أن ـــ
قاطعها وائل قائلا :..
-وأين ملاكك البريء الذي في نظرك دائما المصيب و أنا المخطئ .. في عملها كالعادة إذا كانت عادت بالأصل من الإسكندرية ... و كما أن العمل بانتظارها هنا أيضا , حالما تنتهي أكون استرحت ..
قالت سمر بغيظ بعد أن رأته متوجه للغرفة الأخرى غير غرفة الأولاد :..
-ألن تر...
قاطعها رده البارد دون أن يدير وجهه لها : ..
-فيـــــما بعد ..
-أوف .
قالتها و هي تزفر بضيق , فذلك الأخ الأحمق بعد أن أمضت ساعتين في إقناعه ليأتي عندما استشعرت بغضب رباب البارحة.. و هو أفسد خطتها في الإصلاح بينهما بكل بساطة .
و في جهة أخرى كان فم مراد يكاد يقابل الأرض من الصدمة !! أي عائلة تلك ...
بالرغم من أنه لا يعرف غنا منذ عدة أيام إلا أنه يشعر برابط قوي بينهما ..
بخلاف ما رآه و ما يراه من حالة رباب و وائل ؟!! و فجأة دار بخلده سؤال ؟!!
ماذا لو كان بينهما أولاد ؟ هل يستطعن العيش في ظل تلك الظروف ؟!
و كأن القدر يأبى إلا أن يجيب على كل أسئلة مراد , و يجعل حياة رباب كالكتاب المفتوح أمامه ...
هل يا ترى لكل هذا سبب ؟ ممكن ... كل شيء جائز !!
فُتح باب إحدى الغرف لكن لم يدلف أحد , بل سمعا صوت شجار يبدو بين أطفال ..
تمتمت سمر بضيق : ..
-و كأني أرى نسخة رباب و وائل المصغرة ... الرحمة يا رب .
بعدها دلف الصغيرين بتعبير طفولي على وجهيهما بعد استقاظهما من النوم  ..
لاحظت سمر نظرات الطفلين المتوترة بين سالم و مراد ..
سليم :عمتي ! من هما ؟!
سمر : يا أولاد ! تعالا معي ..
تبعا عمتهما لداخل المطبخ بعد أن استأذنت الضيفين لتحضر مشروب و هي حائرة تماما ..
في حين سمعت حديثهم مصادفة , فالشقة ضيقة !!
مراد : هل سمعت إن الطفلين قالا عمتي ؟!
سالم بلا مبالاة : و ماذا يعني هذا ؟
-ماذا جرى لقوة ملاحظتك سيد سالم , ألا تفهم ماذا يعني قول عمتي لأخت زوج رباب حفيدتك ...
-أفهم ما تلمح إليه مراد .. ربما لها أخوة غير ذلك المتغطرس !
- أعلم أن لهم أخ مُتوفى ..
قالها مراد ببعض الضيق من ذكر حازم ..
-ربما هما ولديه و عمتهما من تعتني بهما ..
تراقصت المتعة بعيني مراد الذي رأى الضيق بعيني سالم و هو يقول جملته الأخيرة ..
و كأنه ينازع قلبه الذي يتمني أن يكون فعلا حفيديّه , فأشاح سالم بوجهه كطفل كاذب يخاف من ان تكشف كذبته , فلم يستطع مراد أن يمنع ابتسامة جانبية من أن ترتسم على شفتيه !! على الأقل في خضم تلك الأحداث المتوترة التي أتلفت أعصابه , هناك بعض المتعة ..
و رغما عنه شعر ببعض الضيق و هو يتذكر صفعة رباب له , لو كان في وضع أخر لرد لها الصفعة اثنتان .. لكنه سيهدأ الآن فقط على الأقل.
لم يشعر مراد بسمر التي دخلت و وضعت المشروب على الطاولة , ثم استيقظ على صوت زفرتها الحارة , قبل أن يقول سالم بنفاذ صبر : ..
-هل هي تتأخر عادة هكذا .
-أول مرة تتأخر رباب هكذا ..
امتعض وجه سليم كثيرا و قال بغضب طفولي و هو يشهر سبابته في وجه سالم : .
-هاي أنت .. والدتي لا تلقب أبدا بهي , أمي دكتورة كبيرة جدًا  .
شاركته " هنا " : ..
-نعم ! ثم من أنت ؟
ازدرد سالم ريقه ببطء من هجوم الصغيرين الشرس عليه , لكنه أجفل عند عبارة أمي ... هل هما ...بينما قال مراد بعبث : ..
-والدتكما الدكتورة رباب ..
رمقه سليم بنبرة غيظ قبل أن يقول بعند : ..
-ولماذا تسأل ؟
زجرتهما سمر قائلة : ..
- "هنا " ! سليم ! عيبُ عليكما ... هل هذا ما علمتكما إياه من احترام الكبير ......
ثم وجهت كلامها لسالم و مراد : ..
-تقبلا اعتذاري , لكن الولدين شديدي التحفظ بشأن والدتهما .
قال سالم بارتباك قليل فشل في إخفائه :...
-هما ابنيّ رباب ..
تنهدت سمر قبل أن تقول : ..
-نعم سيدي .. رغم أن هذا التعارف جاء متأخرا لكن هذا سليم و تؤامه " هنا " عمرهما ست سنوات ابنيّ رباب , حفيديّك سيد سالم الغندور ... " هنا " , سليم هذا جد أمكم السيد سالم و هذا زوج خالتكم غنا السيد مراد ..
ظل الكل هكذا فترة لا أحد يبد أي ردة فعل , سوى نظرات الطفلين العابثة الغير مقتنعة , فلم يملك سالم إلا أن يضحك بالذات على حركات " هنا "..
تلك التي تشبه ابنته نادية في حركاتها بالضبط  , نظر له الكل بذهول, قبل أن يسمعا صوت الجلبة في الخارج , فهتف سليم : ..
-لقد وصلت أمي !!
نظر له الجميع كيف علم فلا أصوات تبدو واضحة كي يعرف , فقالت "هنا" : ..
-معك حق ثليم ! يبدو أن أمي تربى أحدهم في الخارج .
شاركتهم سمر بحماس مع غيظ : ..
-أرجو أن تكون تلك الشمطاء .
لكنها توجهت بنظراتها نحو الضيفين المذهولين قائلة بلباقتها الفطرية : ..
-اعذراني , لكن هل من الممكن أن تجلسا في الصالون , عدة دقائق تستعيد فيها رباب أنفاسها من السلم .
قرأ مراد الرفض في عيني سالم , فبادر بالموافقة قبل أن يرفض , لأنه موقن من حالة رباب خاصة مع درجات السلم الطويلة و شجارها في الخارج , و سالم –بخوفه المرضي على غنا و ضيقه  الغير مبرر من رباب و عدم علمه عن مرضها – سيعتقد ان تفتعل هذا لإذلالهما , بما يهيأ فرصة أكبر للشجار , و خسارة فادحه بعدم حضور رباب , ففعل ما رآه مناسب , و دلف حيث أشارت سمر , ففعل سالم مثله ..
..
دخلت رباب المنزل بعد فتحت لها سمر لترمق تلك المرأة بنظرات الضيق و هي ترى بعينها الآن احمرار وجهها بعد أن قذفت رباب قنبلتها في وجهها كالعادة , رمقت المرأة رباب بنظرات محتقنه مغتاظة , قابلتها رباب بنظرات استخفاف واضحة مع قولها الذي كان كرصاصة المدفع ..
"اذهبي .. "ربي أولادك " و لكني أشك في قدرتك على فعل ذلك ... اغلقي الباب سمر , فأنا لا أنهي عملي مع المجانين لأفاجئ بهم أمام عتبة منزلي , رغم أني أثق في قدرتي على العلاج لكن بعضهم لا يستحق  "
احتنق وجه المرآة بالدماء فهبت مسرعة إلي شقتها ,فأغلقت سمر الباب , و جلست رباب على الأريكة لتلتقط أنفاسها , و أسندت حقيبتها على الأريكة واضعة حقيبة بلاستيكية جوارها بعد أن كانت محتضنة إياها طوال الطريق ..
بعد أن هدأت أنفاسها ضمت الصغيرين , و قبل أن يزل لسانهما , أدخلتهما الغرفة , و أشعلت التلفاز لتأتي بقناتهما المفضلة و تعلى من شدة الصوت حتى لا يسما الحديث بالخارج , و أغلقت الباب من الخارج ..و خرجت لرباب ..
سمر بارتباك خفيف : هناك ضيوف لك ..
رباب بثقة : أعلم بشأن ضيوفي , لكن لا أعلم بشأن ضيفك.
سمر بارتباك أشد : أنا ..
وقفت رباب قبالتها هاتفة بانفعال حاولت السيطرة عليه : ..
-فعلتها يا سمر !! عندما رأيت سيارته على أول الحي لم أصدق عيني .. للمرة الألف استجبت لصوت ضعفك ... ألن تتمردي على ضعفك و خوفك و احتياجك هذا ؟!! ستظلين تربيِنهم كوحش ستكونين أنتِ أول فرائسهم .. إلي متى يا سمر سأصرخ و أقولها لك ليل نهار .. اصرخي على ضعفك و قلة حيلتك و تمردِ .. لا تستجدِ الأمان من أحد , لن يعطيه لقلبك سوى نفسك .. لن يعطيه لك رجلا ظن أنه ملكك يوما .. و لا أخا يرى نفسه الآمر الناهي لشريط عمرك , و كلاهما يظن الشمس تشرق عن يمينهما و تغرب عن يسارهما ... و لا من أهل سيكونون أول من ينشغلون عنك .. و لا من صورة رجل تظنينه ذكرى لقبح خطئك .. و لا من طيف رجل تهيمين به نهارا و تحلمين به ليلا و هو لن يزد عن كونه وهمًا لرجل مثالي لن تجديه أبدًا .. خذِ حياتي مثلا .. الأهل رحلوا و لن يأتوا .. و الأخ كان مجرد أمل .. و الحلم كان وهما .. و الحب كان عبثا .. و الزوج الذي وضعت عليه الرهان الأخير .. كان أكثر أخطائي فداحة .. و الأصدقاء و العمل زينة لدنيا زائلة لن تزد عن كونها نقمة .. حتى الأولاد سيتركون كفك يوما ليبحثوا عن كفِ أكثر دفئا ... لم يبقَ سواه ..
ثم أشارت لسماء بسبابتها و هي تتابع بنفس القوة المريرة , عبارتها رغم قوتها لم تحمل سوى المرارة و اليأس و الفقد و العجز عن إيجاد مصير :..
-لم يبقَ سواه و لولا إيماني به لموت يأسا و حزنا و كمدا ..
لم تزد سمر عن إطراقها الصمت الذي لم يقاطعه سوى صفقات من يد وائل , صفق قائلا باستخفاف : ..
-محاضرة رائعة يا دكتورة , هل نويت التخلي عن مهنة الطب , ذلك العمل الذي جعلتي منه رمزا لك لتصيري مجاهدة مكافحة بالرغم من صورتك الحقيقية الجاحدة ..
حدجته بنظرات جامدة و قالت ببرود : ..
-جيدٌ أنها أعجبتك .. و جيدٌ أيضا أنك استمعت و إلا كنت مضطرة لإعادتها و أنت تعلم جيدا أنا لا أحب تكرار عباراتي ... أوه آسفة و كيف ستعلم شيئا كهذا عني يا سيد وائل , ففي حياتك ما هو أهم من تلك التفاهات .
قالتها باستخفاف , فهتف بحدة : ..
-اخرسي .. كلمة واحدة و سأدق عنقك , هل تُحضرين أختي عليّ .. أنسيتي احترام زوجك و أبو أولادك يا دكتورة .
أخذت رباب تعبث بأذنها أسفل حجابها و كأنها لا تسمع جيدا و قالت باستخفاف مميت : ..
-يبدو أنني لا أسمع جيدا .. هل استمعتِ إليه يا سمر .. يبدو أنك هناك خطبٌ في أذني .. عن أي أخ يتحدث و عن أي زوج و أي أب .. إضافة جديدة لك لقد فشلت في دورك في ثلاثتهما ..فشلت كأخ يدافع عن أخته التي أصبحت تخاف من ظلها بسبب زوج مريض يتتبعها فلجأت لي و ليس لك .. فشلت في دورك كأب لا يعرف عن أولاده سوى اسمهم , و اسمك كان أحن منك في ضم اسمهما له في حين عجزت عن ذلك  .. أما كزوج فانت رسبت باقتدار بحيث لم يعد يحق لك إعادة الاختبار ..أنت ..
عجزت عن إتمام باقي عبارتها بسبب تلك الصفعة التي هوت على وجهها تهمده رافعة شراع كبرياء رجولته على سفينة ذلك الصراع ..
-لكنني لن أعجز عن تأديبك ..
تسمرت سمر مكانها عاجزة عن التحرك قيد أنملة , بالرغم أنها أشفقت على أخيها من مرارة كلمات رباب , لكنها شعرت بالعزاء نحو رباب و نفسها ؛ لأن رباب للأسف لم تخطأ في حرف واحد , لكنها ضربت رجولته في مقتل بحيث لا يستطيع بعدها أن يصفح , و هي خير من تعرف أخاها .
اندفع سالم و مراد لهم بعد سمع دوي الصفعة بعد الكلمات اللاذعة التي قالتها رباب ..
أما هي فنظرت باستخفاف و عاودت رفع هامتها , فاستفزته أكثر ليرد وجهها لما كأن عليه بسبب صفعة أخرى على وجهها .. لكن رد فعلها تلك المرة كان قاتل في حقها قبل أن يكون في حقه هو !!
-صفعة أخرى .. واحدة أخرى أرجوك ..
نظر لها الكل بصدمة لكنها تابعت بقوة انفعالها فقد أشعلت كلماتها فتيل غضبها التي كبحته لسنوات : ..
-صفعة أخرة كي أفيق من وهم حبك الذي قتلني قيده , أنا معك لم أعرف نفسي .. صدقا لم أعرف نفسي .. تلك الضعيفة التي أحتقرها .. لا أعلم كيف كنت مغيبة و حمقاء لتك الدرجة  حتى فقدت نفسي و دفتها تحت ركام حبك الذي كان كاللعنة على رأسي لم أستطع فكها ؛ لأن شفراتها كانت معك أنت .. أنت من استطعت قتل حبك الذي زعمت أنه لن يموت .. و ها أنت قتلته .. أشكرك الآن تحررت و سأنطلق من كبوتي لمواجهك بشراسه .. يا ابن الأنصاري , و آمرك الآن أن تطلقني ..
كلماتها التي بدت كالسيف في حدتها و حريق في شدتها و تأثيرها , لم تشعل فتيل غضبها فحسب , بل فتيل غضبه و غروره و كبريائها .. ليتحول إلي وحش , فقبض على عنقنها يخنقها : ..
-اخرسي .. و إلا قتلتك .. اخرسي .
لم يكن يفهم سبب انفعالها هذا بل مركز على كبريائه الذي أهانته فعاد ليثأر منها متغاضيا نداء القلب الذي نسى أنها ملكته ..
و كأنهم استعادوا إدراكهم الآن ليحاولوا إبعاده عن عنقها , لكنه كان يزداد ضراوة و هو مغيب بالكامل ...
وسط بكاء و شهقات و توسلات سمر :..
-اتركها يا أخي .. ماذا تفعل ؟ إنها رباب .. أفق .. أرجوك أفق !!!
أعاد هذا القليل من وعي وائل , الذي بدى و كأنه لم يفق بعد حتي اشتدت قبضة سالم الغندور –بغريزة أبوية – حتى نزعت قبضته عن عنقها , بينما تكفل مراد بتقيده لتهدأ تلك الثورة التي جعلت قلبهم ينقبض , بينما وقفت رباب تسعل بشدة و تحاول التقاط أنفاسها , و ترنحت فأسندتها سمر..
سالم بغضب أسود : هل جننت لترفع يدك على حفيدتي .
تفاجأ سالم نفسه من قولها بتلك الشجاعة و تلك القوة و ذلك الاندفاع , ليأتي الرد المتهكم المناسب من وائل : ..
-و متي اعترفت أنت بذلك ...إنها مفاجأة , لا تنسَ أنت أول من تخليت عنها عندما لم تحضر زفافها حتى ..
ابتسمت رباب بضعف فبرغم مقتها عليه الآن , تعلم أنه على حق , لكن تأبي كرامة ابن الغندور إلا أن ترد : .
-حمد لله أني فعلتها و لم أحضر فها أنت تثبت لي صدق حدثي يوم أصدرت حكمي بشأنك و لم آتِ ..
قاطعت رباب حديثهم بصوتها الضعيف الذي لم تزل عنه حدته : ..
-طلقني يا وائل و لتنتهي تلك المهزلة ..
-و سآخذ منكِ أولادكِ ثأرًا ..
-و بأي حق لك تفعلها .. الأولاد في حضانة أم متعلمة تعمل و تصرف عليهم و لها مسكن .. و ليس أب غير مسئول خائن مثلك ..........................

عما قريب سأصرخحيث تعيش القصص. اكتشف الآن