المقدمة
دخل حسين المنزل بفوضاه وصخبه المعتادان، يخلع بنزق سترته الرسمّية التي يفرضها عليه عمله كمحامٍ، ويرميها على كنبة قريبة فيما يضع حقيبته المتكدّسة بملفات القضايا المهمّة على أخرى بإهمال دوما ما يقرّعه أخاه عليه، بينما يقوم بنهم بتشمّم رائحة الطعام المنزليّ المطهوّ والذي لم يكن ليصدّق قبل أربع سنوات أنّه سيفوح في أرجاء منزلهم يوما، طازجا دافئا يملأ القلب قبل المعدة
قامت عيناه بمسح أرجاء الشقّة مسحا سريعا قبل أن تتوجّه قدماه الطويلتان تلقائيا برشاقة نحو باب غرفة شقيقته ويفتحه برويّة خشية من مقطاعتها فهو يعلم يقينا كيف سيجدها، ما الذي تفعله، وعلى أيّ هيئة ستكون
راقبها كيف تقوم بترتيل الآيات بصوتها الملائكيّ الناعم، مرّة تقرأها حاضرا من مصحفها ذو الغلاف المخمليّ الأحمر، ومرّة تكرّرها مغمضة العينين، تجوّد الآيات مستعذبة حلاوتها ومتفكّرة بتأويلها، تكرّر بعض كلماتها حين تشكّ بصحّة نطقها فتُطَوّع لها فكّها مع لسانها بكثرة التدريب حتّى تخرجها كأجود ما يكون
قطّب حسين ملامحه الوسيمة حين رأى تغيّر ملامحها عند بدءها لآية جديدة استكانت لها بشحوب بينما تقرأها بصوت مرتعش ضعيف يخالف ما كانت تبذله من مجهود منذ دقائق قليلة، اشتدّ عوده يتهيّأ لما يعلم أنّه سيكون بينما يصغي:
"وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ۗ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) الشورى"
ما إن انتهت لميس من قراءتها حتّى انهمرت دموعها وانقطع صوتها فسارع إليها يحتضنها مكفكفا دمعاتها الغالية، تلك الأخت التي عرفاها كبارا فكانا لها نِعم السّند وكانت لهما شيئا لم يفهماه ولم يجدا له مسمّىً بقاموس حياتهم فكيف يفعلان وهي التي احتضنتهما بشعور لم يجرّباه من قبل، ولكنّهما رغم ذلك استكانا إليها، استراحا لما أصبحته لهما فحطّا عندها برحالهم التي أثقلتهمافاحتوتهما ببساطة
شهقات بكاءها كانت تقطّع نياط قلبه فأبعدها عنه بحزم ورفع وجهها بكفّه ينظر لعينيها الزرقاوتين الجميلتين المحاطتين بأهداب شقراء كثيفة، ليشير بنظراته للوحة خشبيه كبيرة تتوسّط الجدار الكبير بغرفتها فيقول لها بحزم: هو إيه اللي مكتوب باللوحة دي يا ميسو؟ ها؟ يا حبيبتي دة أنا جايبهالك أكبر حجم عشان تفضل في وشّك على طول وما تنسيهاش أبدا أعمل إيه أكتر من كدة؟ أقولك؟ أنا بكرة هنزل من الصبح وأجيب لوحة لكلّ حيطه عشان ما اشوفش الدموع في عيونك تاني أبدا!
شبح ابتسامة ارتسم على وجهها ونظرت له بامتنان بينما تمسح بأصابعها المرتعشة البلل الذي يغطّي وجنتيها الحمراوتين قبل أن تتعلّق بتلك الكلمات المنقوشة على اللوحة وتقرأ بصوت مرتعش: بسم الله الرحمن الرحيم... قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر... صدق الله العظيم
أنت تقرأ
بين عينيك ذنبي وتوبتي(الجزء الثالث من سلسلة مغتربون في الحب)مكتملة
Romanceرواية للكاتبة المتألقة نيفين أبو غنيم.. الجزء الثالث من سلسلة مغتربون في الحب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة نيفين ابو غنيم..