الفصل السادس عشر
" جاسم بالأسفل "
قالها قاسم بذهول لتنتفض من مكانها جاذبة غطاء لرأسها ثم تتوجه للنافذة تراقبه ينزل من سيارته بشموخه الذي يسلب كيانها..
شهقت بفرح حين تقابلت أعينهما في حوار صامت..
و لكنه أبلغ من كثير الكلام..
ولكن لأنها تعرفه جيدا.. فهي قادرة على رؤية ذلك العتب..
و ذلك الخذلان منها..
نعم خذلته..
بل و قادرة على تخيل ما عاشه منذ وقعت بين ذراعيه..
لقد تواجها بعد اختطافها وعاتبها أنه لم يكن قادرا على حمايتها..
لذلك هي تعلم عما يعاتبها الآن جيدا..
الآن فقط علمت و شعرت.. و تأكدت أن قربه لها جنة..
جنة تحياها في قربه..
نعيم تغرق فيه بين ذراعيه..
سعادة هو فقط مصدرها..
استفاقت على تحركه باتجاه مدخل البيت لتتحرك مسرعة لباب غرفتها بغرض النزول إليه و لكن قاسم أوقفها ممسكا بمرفقها ..
تنظر له بتساؤل ليجيبها..
" انتظري هنا "
لتسأله سريعا بنفاذ صبر..
" ماذا هناك؟ "
فيسألها قاسم بخفوت غير راغب في إثارة قلقها..
و لكن لابد من المواجهة.. و التريث..
" انتظري.. هل تعرفين لماذا هو هنا ؟"
لتجيبه ببديهية..
" بالتأكيد من أجلي "
فيهز قاسم رأسه سائلا..
" و إن لم يكن هنا من أجلك.. ما العمل؟ "
تتسمر.. تتصلب مكانها..
و أنفاسها تسكن للحظات متخيلة حقا أن يكون سبب حضوره أي شيء سواها.. ما العمل حقا كما يقول قاسم..
اتسعت عيناها متخيلة الأسوأ كأي امرأة عربية كما يقول الكتاب..
أن يكون سبب حضوره انتهائه منها..
التخلص من هذا الحِمل..
أن يُطلقها جاسم غير راغب في عِشرتها..
تشهق بأنفاسها المكتومة و التخيل فقط قادر على كتم أنفاسها داخلها.. متسائلة هل من الممكن أن يفعلها جاسم..
أن يطلقها..
حتى بعد ما سمعت لهفته عليها ..
هل من الممكن أن يُطلقها و ينتهي كل ما يجمعهما..
اقترب منها قاسم محتضنا إياها ليجذبها و يجلسها على فراشها قائلا..
" دلال.. لم أقصد أن أجعلك تبكين.. و لكن عليك التريث قليلا "
تهز رأسها بإيماءة تبتعد عن أحضانه قليلا..
" حاضر.. سأنتظر هنا "
ربت على رأسها بحنان.. ثم لثم أعلى رأسها أثناء وقوفه لينزل للأسفل لمن هو سبب اضطراب اخته..سبب اضطرابها الذي خطى لداخل المجلس جالسا في انتظار رجال البيت..
هل لو صعد لغرفتها جاذبا إياها لأحضانه يعتصرها بين ذراعيه..
دافنا وجهه بين ثنايا شعرها..
مستنشقا عطرها الرائع..
سيتهمونه بالجنون؟..
بالتأكيد لن يفعلوا.. أو فليفعلوا لا يهم..
حمحم بخشونة مُخرجا نفسه من بين رغباته التي أطاحت بتعقله و جعلته يود أن ينفذ ما دار بعقله ..
أن يهرع إليها.. ليراها..
سيراها فقط و يعود..
أليس كذلك؟!..
سأل في داخله.. مُذكرا نفسه بما يدور بخلده طوال الطريق إلى هنا..
تحديدا منذ أن نطقت بأول همساتها..
حين نطقت باسمه و ظل يصارع نفسه ألا ينطق.. فلو نطق و أجابها لكان أخرّ مُعترفا بشوقه..
باحتياجه..
معترفا بها له..
معترفا به لها..
حمحم ثانية في نفس اللحظة التي خطى بها قاسم لداخل المجلس محييا له باقتضاب لم يقو السيطرة عليه..
" أهلا جاسم.. "
حياه جاسم هو الآخر باقتضاب لسبب مغاير تماما لسبب قاسم.. فلم يخرج جاسم بعد من خضم مشاعره و تخيلاته ..
" كيف.. هي.. دلال ؟"
سأل جاسم بتحشرج ليتنحنح مسيطرا على نفسه.. متابعا بثبات تلك المرة..
" هل أكلت؟ "
نظر له قاسم بثبات.. و قلب منفطر من أجل أخته التي رأى عشقها لهذا الرجل الجالس أمامه..
و لذلك قال قاسم مواجها.. مباشرا..
" لا تشغل بالك بها.. ستعتاد الأمر "
فيقطب جاسم ما بين حاجبيه بعدم فهم و لم يمهله قاسم فرصة للاستفسار.. فيتابع مدافعا عن أخته.. و مطالبا براحتها..
" و لكن علينا أن نتحدث في الأهم الآن "
ليتساءل جاسم بريبة..
" ماذا تعني ؟"
يلوي قاسم شفتيه قائلا و راميا الكرة بملعبه..
" أعني أن عليك إخبارنا سبب مكوث أختي هنا.. أو تخبرنا ماذا تنوي "
ليعاجله قاسم بالضربة القاضية..
" هل ستُطلقها مثلا؟! "
يشتعل غضب جاسم تجاه قاسم وكم ود أن يستقيم ليلكمه بوجهه عله يستفيق و يتذكر عمّن يتحدث..
إنها دلال..
روحه..
كيف ينطقها قاسم بتلك السهولة..
و لكن جاسم حذره من بين أسنانه و مازال جالسا بغير راحة كما الجالس على جمر..
" قاسم.. لا تتحامق.. و انتبه لكلماتك التي تنطقها "
و كأن قاسم لم يسمع شيئا.. ليتابع قاصدا خروج جاسم عن طوره..
" و ماذا قلت؟.. وأين الحمق في كلماتي؟ "
ثم يتابع بعد أن فرد يده اليسرى و بسبابة اليمنى يعد على أول أصابع اليسرى..
" تركتها بالمشفى بعد انهيارها "
ثم يعد على الثاني..
" أخبرتني أن أعود بها إلى هنا بما يفيد أنك تتركها "
" ليس صحيحا "
نطقها جاسم مدافعا عن موقفه.. و لكن قاسم لم يعره انتباها ليتابع..
" لم تهاتفها مرة "
فيعود جاسم مدافعا..
" كنت أهاتفك لأطمئن عليها "
فيعيد قاسم الكَرة..
" مر أسبوع آخر و لم تأت.. و منذ ساعة مضت أغلقت الاتصال في وجهها و هي تحدثك "
قاسم يعلم جيدا أنه يضغط على جاسم بما يقول.. و لكن بالفعل لابد له من الحديث.. على الأقل معها.. حتى يرتاح قلبها..
" لم أقصد أن أغلق الاتصال "
هتفها جاسم ثم تابع بحنق..
" و هذا أمر بيني و بين زوجتي "
ليجابهه قاسم بهدوء وثبات..
" و مادامت أختي هنا فالأمر لم يعد بينكما"
" قاسم "
نداء تحذير نُطق من فم والده.. ليستقيم كل من جاسم و قاسم احتراما لدخول الشيخ إبراهيم اليماني الذي دخل محييا جاسم برحابة صدر..
" أنرت بيتنا يا ولدي "
بادله جاسم التحية شاكرا..
" شكرا لك عمي.. كيف حال صحتك؟.. "
ليجيبه الشيخ..
" بأفضل حال.. تفضل "
جلس ثلاثتهم و بعد سؤال الشيخ إبراهيم عن الشيخ عثمان و حاله و بعد عدة محاور للحديث ليس لها لزوم في هذا الوقت تحديدا.. و لكن الشيخ إبراهيم قصد هذا ليبدد الجو المشحون بين ولده و زوج ابنته..
و بعد لحظات من الصمت قال اليماني بهدوء متوجها بالحديث لجاسم ..
" ليس لأحد الدخول بينك و بين زوجتك يا جاسم "
ليجيب جاسم بخفوت و كأنه صغير يتلقى تقريعا..
فيقاطعه اليماني قائلا بمغزى و عيناه على ولده..
" قاسم أخطأ إن حاول التدخل بينكما و وجّهك لما يجب فعله..
فبالفعل ما حدث هو خاص بك و بزوجتك..
و لكن اسمح لي إخبارك أمراً مهما قد تكون تناسيته في
خضم غضبك تجاهها.. "
سكت اليماني متعمدا ليثير الترقب داخل جاسم الذي يجلس متوترا..
" أنني لن أسمح بشيء يؤذيها.. فإن كان صلاح ما بينكما بالطلاق.. سأدعمها حفاظا على ابنتي حتى و إن أخطأت "
ثم أكد فاردا كفه على صدره..
" هذا واجبي تجاهها "
ثم أضاف بعد أن أنزل كف يده..
" أما واجبي تجاهك أنت يا زوج ابنتي .. و بمثابة ولدي الأكبر "
استعر القلق و الترقب داخل جاسم..
" فأخبرك أن تتحدث مع زوجتك بني.. لا تتركها لشيطان تفكيرها..
عليك التحدث معها و معاقبتها إن كانت تستحق و لكن بينك وبينها..
حتى لا تزداد الفجوة بينكما بالبُعد.. فالبُعد لا يُسبب سوى الجفاء يا ولدي "
لم يرض قاسم بما قاله والده و لكنه آثر الصمت مُستشعرا تأثر و تفكير جاسم بما قاله والده..
" هل.. هل يمكنني رؤيتها ؟"
سأل جاسم بترقب لتحقيق أمنية تمناها خلال الأيام الماضية في صحوه و منامه..
فابتسم الشيخ إبراهيم ملوحا بيده للباب.. قائلا بترحاب..
" البيت بيتك يا ولدي.. و أعتقد أنك تعلم الطريق إلى غرفتها جيدا "
ابتسم جاسم شاكرا والدها بنظراته و لسانه..
و داخله ينتفض صارخا.. مشتاقا..
و بعد خروج جاسم قال قاسم..
" لماذا هذا الكلام أبي؟.. و لماذا لم تجبره على تنفيذ ما نريد؟.. فهو من أعلن رغبته ببقائها هنا "
ابتسم اليماني مستغفرا ثم قال ناصحا..
" يا ولدي.. الحياة بين الرجل و زوجته تحتمل الكثير من الأحداث.. و الفارس حقا هو من يتحايل على مرها ليتحول إلى حلوها.. "
" و لكن.. "
قالها قاسم باعتراض.. و لكن والده تابع..
" الطلاق ليس حلا سهلا يا قاسم.. و إلا لمَا عُمرت البيوت..
الرحمة بني.. و تقبل الآخر بما فيه.. و بيني وبينك "
مال مقتربا من ولده ليهمس و كأنه سيبوح بسر..
" أختك بالتأكيد مخطئة.. جاسم لن يصل لتلك الحالة إلا
إن كان الخطأ جسيما "