الفصل الخمسونفإذا وجدت الحب
لا تحرم فؤادك ما يريد..
فالعمر يا ولدي سنين..
والهوى.. يوم وحيد..(فاروق جويدة)
***
" ألن تخبرني ماذا تخطط "
قالتها فاتن التي خطت لداخل غرفة المكتب متجهمة المحيا.. تكتف ذراعيها توحي للناظر بحنقها منه..
ناظرها بنظرة حملت عتاب المُحب ثم لامها بملامح رسمت الجمود شكلاً فقط..
" وهل سألتِني.. أنتِ لا تتحدثين معي إلا بخصوص أدويتي وعلاجي "
فكت ذراعيها ثم خطت تجاهه بشكل متحفز..
" أليس لدي حق "
هاجمته بالقول والقرب.. قرب تبخل به عنه منذ خرج من المشفى وأصبح في محيطها.. فتلاعبت به وبحبه وبدلالها عليها.. استبدت وتسلطت بالقول والفعل وأصبح القرب في دائرة الواجب والمطلوب منها..
لا تتحدث معه إلا في حدود علاجه.. وفقط.. وهذا لم يتعود عليه منها..
" فااتن "
قالها بقوة يوقف سيل تهجمها.. ولكن حبيبته عنيدة.. شرسة في حبها ودفاعها عنه والذي نال أخاه منه جزءً ليس باليسير ..
" اللعنة عليكَ يا تمام كِدت أفتقدك وأنتَ تحاسبني لخوفي عليكَ "
يعلم هذا جيدا.. يعلم أن قوتها ليست سوى قشرة واهية تنتظر التصدع.. وها هو الوقت أتى..
" تخيل لو لم تنج من تلك الحادثة..
ماذا كان سيحدث لي.. ماذا كان سيحدث لأطفالك..
لوالدتك وأختك "
تعطيه صورة لم يفكر فيها لأنه ببساطة مطمئن عليهم.. الجميع في أمان إلا الغائب..
" نحن لا نملك سواك وأنت بكل غباء لم تفكر فينا "
تلوح بذراعيها بخبال تملك منها أثناء مواجهتها متناسية وضعه الصحي.. ونسى هو الآخر ليتحدث بصوت قاطع.. عال.. مندفع بعض الشيء..
" أخي أيضاً ليس له سواي "
ولأنها مرآته كانت إجابتها قاطعة..
" أخاك يسبب لكَ الهوس منذ زمن طويل يا تمام "
لا تعطيه فرصة لاستيعاب ما يقال بل تزيد في مواجهته.. تشير بسبابتها تُقر..
" ليكن بعلمك أنا أعامله جيداً فقط من أجلك.. لكن لو عليّ لم أكن لأسمح له بالتواجد في محيطك من الأساس "
ولا تعلم أن ما تفوهت به.. به دوائه عن قسوتها..
ابتسم يميل برأسه جانباً وهمسه يخرج بطيئاً بقصد..
" هل ستمنعينني عن أخي "
" سأمنعك عن الدنيا بأكملها إن كانت ستضرك "
وسكتت الأفواه لتكون الكلمة العليا للقلوب.. القلوب التي تألمت فتعلمت.. قلوب ذاقت معنى الحزن ليكون الفرح أسمى ما يتمنوه..
فرح يسعون له بكل جهدهم..
" تعالي "
ناداها مبتسماً بمغزى سكن قلبها دون نطق شفهي.. بل اكتفيا بنطق العيون..
فالعيون بينهما مِرسال منذ زمن مضى..
" لا "
والموقف لا يحتمل عبثه في هذه اللحظة.. فتمنعت..
ولكن التمنع مع المحب يزيده إصراراً..
" تعالي فاتن.. إن قمت من مكاني لن يحدث خيراً والأريكة هنا تشهد "
يذكرها بما تكرر هنا في غرفة مكتبه حين يشتعل حبهما وتتسطر حكايتهما بلحن عذب ميزانه شغفهما..
اشتعلت حمرة خديها تكابر القرب المطلوب..
" أنت غليظ لعلمك "
والمكابرة خداع.. والقرب هو المراد.. ولأنه خير من يعلمها أعاد ندائه مرة أخيرة يدرك أنها ستستجيب لها ..
" تعالي حبيبتي "
تحركت بخطوات أشبه للهمس.. خطوات ناعمة كنعومتها هي..
وقفت أمامه وصوتها يسبغه العناد الغير حازم أبداً..
" ماذا تريد "
جذبها ممسكاً برسغها على حين غرة لتقع جالسة على ساقيه.. داخل حضن ذراعيه..
" أريد أن أحبك "
تتدلل بصوتها.. تبتعد عن قيد ذراعيه حولها..
" أنت لا تحبني "
تتهمه والتهمة في حق عاشق مثله وصمة عار..
" أنا!! "
يتعجب.. ويستنكر لافتراها عليه..
" نعم.. لو كنت تحبني لم تكن ترمى نفسك في التهلكة بهذا الشكل "
يشدد عليها بذراعيه.. يميل يدفن وجهه بجانب عنقها يحاول استعطافها..
" لم أكن أتخيل أن يصل الأمر لهذا الوضع "
وكلماته لم تهدئها بل أشعلتها لتقف منتفضة تبتعد عنه خطوة كفاصل بينهما.. بينما كلماتها كسهام تعرف مسارها جيدا..
" ورغم هذا جازفت بذهابك بمفردك.. بالله عليك أخبرني كيف تذهب لملاقاة أحد لا تعرفه لتحرر شابة لا تعرفها "
ونيرانها المشتعلة يحاول إخمادها بلين القول..
" قال في رسالته أنها تهم يونس "
ولكنها لا تخمد.. ولا تهدأ..
" اللعنة عليه وعليكَ وعليها "
تلوح بذراعيها بشكل هوجائي وبعد أن رأت اتساع عينيه نتيجة ما قالته أضافت بِغل..
" لقد كرهتها قبل أن أراها "
يعلم أنها كاذبة.. فاتن لا تعرف للكره سبيلا.. فابتسم مُقراً..
" بالمناسبة ستصل خلال ساعات "
انتفضت بنظراتها تجاهه.. تضيق عيناها وهمسها يخرج خافتاً مشدوداً..
" من؟! "
" الشابة التي كانت مختطفة "
تسأل ويجيب بخفوت مدروس لتتوازن الكفتين ..
" ستصل أين ولماذا "
" ستصل هنا وستظل هنا "
تميل برأسها وعيناها تتسعان بمحاولة استيعاب للكلمات.. فيضيف مستغلاً الحوار المفتوح..
" سنستضيفها في غرفة الضيوف "
تقف متخصرة وما قيل لا يعجبها فتسأل بفراغ صبر..
" لماذا "
" لأنها ستكون زوجة أخي "
يقرها واثقاً بشكل جعل عيناها تزدادان اتساعاً هذه المرة بغير تصديق ليشاكسها بحديثه..
" ماذا.. هل تشككين في تخطيطي "
تلوي شفتيها سخطاً منه وعليه..
" بالتأكيد لا.. وهل أنا تائهة عنك إن أردت أمراً "
يهديها ابتسامته الوقورة رغم عبثها..
" براڤو حبيبتي "
يرفع كفه لها بإشارة أن تتحرك باتجاهه فتلبي النداء الغير منطوق تضع كفها داخل راحة يده ليمسكها.. يجذبها لتكون جواره.. واقفة قريبا جدا من جلسته التي لا يتركها كثيرا فالوقوف والحركة الطبيعية لم يعودا لسلاسة طبيعتهما بعد..
" ستعاملينها بما يليق بكونك سيدة هذا البيت أليس كذلك "
يدرك حسها المهذب والمعطاء.. ولو لم يسأل فقد كان على يقين أنها لن تظهر استيائها لضيفته..
" لماذا جمعتها بيونس يا تمام "
فاجأته بسؤالها لتتوتر كفه للحظات ثم يسيطر عليها مُقراً ومعترفاً ببديهية..
" لقد دافعت عني "
تميل برأسها تناظره بمغزى والقلب خير من يعلم..
" فقط؟! "
يترك يدها ساخطاً بشكل مباغت له ولها والمواجهة أصبحت فوق احتماله..
" إلى ماذا ترمين بحديثك هذا "
تميل تجاهه.. تستند بكفيها على مسندي الكرسي من كلا جانبيه.. الوجوه متقابلة وكلً له وصفه..
" ألا تريد التخلص من وخزة الضمير داخلك أنك سرقت من كانت زوجة أخاك "
رمتها بوجهه تجازف نعم.. ولكن إصراره سبب لها الريب ناحيته..
" فاااتن.. أنا أحذرك "
تَوَعَّدَها ، هَدَّدَها دون لفظ.. ولكن العاشقة داخلها لها كل الحقوق..
" وأنا أواجهك تمام "
كتفت ذراعيها بدعم تزيد مواجهتها بخبرة سنوات جمعت بينهما سمعت فيه ما شقّ على نفسيهما.. ومن يتحدث لا يسمع الحكاية كاملة هو فقط يريد وضع بصمته فوق رتوش رواية لا يعلم أبعادها..
" هل مازلت تعاتب نفسك على زواجك مني "
والانتفاضة كانت من حقه حيث تحامل على نفسه لا يعلم كيف واستقام ممسكا بأعلى ذراعيها يقربها منه وهمسه يخرج خافتاً مشدوداً..
" أنتِ لم تكوني زوجة إلا لي.. تذكري هذا "
ترك ذراعيها تسطر حروف كانت المفتاح لزواجه منها..
" كما أخبرتك وكما سمعنا من الشيخ أن زواجك به من البداية باطل لانتفاء الغرض من الزواج وأنتَ خير من يعلم ماذا كانت نية يونس تجاه زواجه منك كما قالها صراحة لي من قبل "
مالت تنظر له بمكابرة وحس الأنثى فيها يستنير..
" هل تخبرني أنا بهذا الحديث أم تخبر نفسك "
" أنا أذكرك وأنبهك.. لماذا تحمليني فوق طاقتي "
سؤاله خرج متألماً وهي خير من يعلم به..
" لأني لا أحتمل خسارتك ألا تفهم "
دموع خانت.. وقلب أعلن السقوط منذ زمن..
اقتربت هي منه هذه المرة تحتضنه بعزم ذراعيها.. تضيف بصوت خرج مبحوحاً..
" هناك من يحتاجك.. وإن لم تفكر أنت فيمن يحتاجك علي أن أذكرك فقد تكون نسيت "
تلومه بين الحروف.. وقلبه استقبل لومها موجوعاً.. رفع ذراعيه محاوطاً لها.. مُشدداً عليها..
" فاتن أنت تعلمين مكانة أخي لديّ.. فأنا لا اعتبره أخي بل ابني "
تدفعه بكتفه مغتاظاً دون النظر إليه..
" لا تعتبره ابنك.. أنت لست كبيراً لهذه الدرجة "
ضحك من دلال كلماتها.. مد يده ممسكاً بذقنها بإصبعيه رافعاً وجهها لها.. يناظرها بشقاوة قرأتها جيداً..
" حتى وإن كنت كبيراً فقلبي لا يتعدى كونه مراهقاً في حبك.. "
ثم مال تجاه أذنها هامساً..
" ولا يغرك وهن جسدي الحالي وانتظري شفائي التام لأثبت لكِ كلامي بالفعل أيضاً "
ورغم أن ما جمعهما ليس بالقليل.. ورغم أن يربط بينهما طفلين ولكن مازال لحبيبته ذلك الجزء الخجول والذي يحب دوماً رؤيته حين يهاجمها بالقول الوقح.. والفعل الشغوف..
" لا تنظري لي هكذا حتى لا أتعجل الاثبات "
ضحكت ثم أخفضت رأسها تستند بجبهتها على صدره..
لحظة والثانية والصمت أصبح سيد الموقف حتى قطعته هي بهمسها الخافت..
" أنا أحبك تمام.. أحبك بشكل لا يمكن وصفه ولا حتى الشعور به "
رفعت وجهها تناظره بعينين تلمعان ولهاً..
" أحبك بشكل لا يوجد هناك كلام لوصفه من الأساس "
مال يقبل جبهتها.. قبلة طويلة أودع فيها امتنانه لوجودها..
لكلمة أحبك التي لا تمل نطقها.. ولا يمل هو سماعها..