الفصل السادس والأربعون

1.2K 66 8
                                    


الفصل السادس والأربعون

انطلق بكل هيجانه.. بكل عنفه الذي ينضح به جسده بل كل روحه مُتجها للمشفى.. 
يسابق الزمن..  يسابق الطريق بطوله ولا يعلم كيف قاد سيارته من الشركة إلى المشفى حيث يقبع سبب ما يعيشه الآن بين جدرانها..
متحاملاً على يده المصابة والتي لم تبرأ بعد من إصابتها..  

وصل للغرفة المقصودة فتحها بمباغتة وكأن من بالداخل في انتظاره.. 
الآن علِم أنه كان في انتظاره دائماً.. 
وقف أمام الفراش غاضبا.. هائجا..  عنيفا يود لو يحطم تلك الجدران حوله لأنه لا يشعر بها حوله بل يشعر بها داخله.. 
يونس مسجون ماضيه الخانق والحارق لكل ما يحدث
وكأن الحاضر بكل ما يحدث فيه ليس سوى عود ثقاب يشتعل بدل المرة مرات قاصداً أحداث بعينها في ماضيه فتحرقها لتسقط تباعا وكأنها لم تكن.. 
" أخبرني أن ما سمعته ما هو إلا كَذبا "
يأمر النائم بسكون مستفز وكأنه يتحداه..  يجابهه بهيبة لم تمنعها غيبوبته بل هو في عينيه تمام النويري بسلطانه وسلطته على الجميع وأول الجميع هو.. حتى وإن كان أسيراً لغيبوبة مُجبراً عليها.. 
فها هو في نومته يفرض عليه ما يريده دون أن يفعل شيء.. 
يضرب مؤخرة الفراش الحديدية بكفه السليمة مغتاظا من هذا الصمت الموحش
" أخبرررني "
والصمت قاتل.. سيف بتار يُعلِن فوق قلبه انهزامه فيخر القلب مكسوراً بخزيه.. 
" احتاج لأن تفتح عيناك وتخبرني الآن أني لم أعش حياتي كَذبا "
من بين أسنانه يهدر بأمره وكأن النائم باستكانته يجابهه كوقت مضى ثم يدرك يونس أن الحوار لن يكون سوى من طرف واحد وهو صاحب هذا الطرف وصاحب هذه الحرب التي تشتعل مراجلها داخله.. 
" لمـ ـاذا تفعل هذا "
يختض بانفعاله ولا يملك سوى العتاب.. 
" بل لماذا فعلت هذا "
يغمض عيناه للحظات ثم يفتحهما ثائراً يرفع كفيه ممسكا برأسه التي تكاد تنفجر.. 
" من أي طينة أنتَ "
ينزل يديه ثم يلوح بهما يميناً ويساراً.. 
" وأي عطاء هذا الذي تملكه "
يشير بسبابته تجاه النائم.. 
" ولماذا أنت بكل هذا التسامح "
ثم يعيد سبابته مشيراً لنفسه.. 
" وأنا بكل هذا البغض "
يطالع الصمت المتمثل بجسد هامد لا حركة فيه ولا حياة إلا من نفسٍ ليس إلا مجرد علامة واهية لكون الروح لم تفارق صاحبها.. 
زاد غضبه عند هذه النقطة ليصرخ نافثا ذلك الغضب بكلماته.. 
" أخبرني ولا تصمت هكذا.. لا تتركني في هذه النيران بمفردي "
يزدرد لعابه بصعوبة والغصة تعاود التشكل من جديد وجديد..
فتخرج كلماته متحشرجة مخنوقة من فرط انفعاله.. وغضبه..
" كُـ ـنت هنـ ـا دومـ ـاً فلمـ ـاذا الآن لسـ ـتَ هُـ ـنا "
يغمض عيناه للحظات مدارياً فرط مشاعره التي تكبله كرجل..
ليته مازال طفلاً لكانت حجة شافية كي يبكي..  يبكي كل ما مضى وكل ما يمضي ويحدث.. 
يفتح عيناه وقد تبدل ضعفه لعنف مهيب جعله يدور حول نفسه متابعاً يلوح بذراعيه بحركات هوجاء انفعالية.. 
" أريد إجابة شافية لحرقتي (مِني) "
يهز رأسه بانفعال مشيراً لنفسه وكلماته تصرخ.. 
" نعم داخلي نيران هائجة تأكلني أخضراً ويابساً.. والسبب أنتَ "
يشير للنائم بسبابته يجابهه ومازال ينتظر الرد.. وكلماته تخرج غاضبة ساخرة بعض الشيء.. لا بل كثيراً.. 
" تمام أفضل..
تمام أحسن..
تمام أكثر أدباً..
تمام من يسمع الكلام..
تمام متسـ ـامح "
مع آخر ما نطق تقطعت حروفه مخنوقة رغم غضبها بحسب كونها حقيقة لم يدركها إلى متأخراً.. 
" الآن.. الآن فقط عرفت مدى تسامحك "
ينظر للنائم غير واع للنار التي تشتعل داخل الناطق بحروف متقدة.. 
" لماذا..  فقط أود أن أعرف لماذا فعلت هذا "
وانتظار الإجابة طال بشكل مغيظ ليقترب من الفراش الذي يحتوي جسد أخيه ممسكاً بالكوب الزجاجي الموضوع على سطح طاولة بجواره يرميه
مرتطما بالحائط ثم يلتفت يعطيه ظهره غير واعيا لانتفاضة النائم للحظة.. 
لحظة واحدة لم يرها الثائر..
لحظة واحدة فقط ثم عاد السكون هو السمة السائدة لكل هذه الفوضى وأولها الفوضى التي تحدث داخل يونس نفسه.. 
" ماذا يحدث هنا "
كان هذا صوت الطبيب الذي دخل متوجساً ينظر لشظايا الكوب جوار الحائط وإن كان ينتظر رد من الواقف يعطيه ظهره وأحد ذراعيه مستنداً بكفه على خصره بشكل يوضح مدى الانفعال الذي يكتمه فهو واهم.. 
" ماذا يحدث يا يونس "
وهذه المرة إلتفت لعلمه بهوية قائل نفس السؤال والذي لم يكن سوى جاسم وجواره والده الشيخ الكبير مستنداً على عصاه بذراع والذراع الآخر يستند بها تحت ذراع ولده.. 
لوحة عربية أصيلة تشكلها هيئتهما..  لوحه لا يعلمها ولا يعلم كيف تكون أبعادها الدافئة.. 
أبعدَ عيناه عنهما وهمسه يخرج ميتاً.. 
" لا شيء "
يقرأ جاسم انفعال يونس الواضح مدركاً أن هناك خطباً ما يحدث به فقرر توجيه العيون للطبيب حتى يستطيع الواقف لملمة شتات نفسه.. 
" كيف حال تمام يا دكتور "
" الحال كما هو الحال الأهم حالياً هو الحفاظ على عدم زيادة الضغط على المخ "
يلتقط جاسم انتفاضة الواقف على بُعد منهما وكأن كلام الطبيب أصابه برعدة صاعقة لجسده.. 
" ومؤشراته الحيوية "
يسأله جاسم وعيناه تطرفان للواقف ثم للنائم..
" مادام لم يحدث الأسوأ فهذا في حد ذاته خيراً " 
أومأ جاسم برأسه شاكراً الطبيب.. 
" شكرا دكتور "
ثم غادر الطبيب الغرفة تاركاً الجميع على حاله.. 
" أنت بخير؟! "
جاسم يسأل يونس الواقف على حاله بشعوره القاتم وانتفاضته التي يظنها غير مرئية..
" نـ ـعم "
والـ نعم هروب فهو أبعد ما يكون عن كونه بخير.. 
" هيا تعال معنا للخارج "
أمره جاسم منتظراً التفاتته ولكنه لم يلتفت وكأن عرض جاسم بالخروج خارج نطاق المعقول في هذه اللحظة.. فيتدخل الشيخ الكبير بحنان صوته الذي زلزل كيان يونس بشكل مباغت..
" تعال يا ولدي تعال.. تعال واذكر ربك فهو المعين الحليم "
وكأنه كان ينتظر هذا الصوت الحنون يأمره فيطيع.. 
توجه الجميع للخارج.. جلس الشيخ عثمان وجواره يونس الذي سأله جاسم.. 
" ماذا يحدث يونس "
فيجيبه يونس مطرق الرأس.. 
" لا شيء.. فقط أشعر بالضغط وكل ما حولي يُهدم بلحظة "
لمح إشارة والده وكأنه يطلب منه أن يغادر فتنحنح جاسم معدلاً عباءته السمراء قائلاً.. 
" حسناً مادام ليس هناك شيء أستطيع فعله حالياً سأودعكم لقليل من الوقت ثم أعود لك يا أبي " 
ثم تحرك مغادراً بالفعل وصوت والده يصله متسائلاً.. 
" لم تخبرني أين ستذهب "
يجيب جاسم دون أن يلتفت لأبيه الذي يراقب ظهر ولده الشامخ.. 
" سأذهب لابن عمي "
ابتسم الشيخ عثمان ابتسامة رضا.. حمد.. فضل دائم من الله..
يدعو الله سراً أن يوفقه فيما هو ذاهب من أجله.. 

قلب بين شقيّ رحى ج٣ من سلسلة والعمر يحكي بقلمي راندا عادل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن