الفصل الخامس والثلاثون 🍒🎶

1.2K 62 10
                                    

#قلب_بين_شقي_رحى
#الجزء_الثالث_من_سلسلة_والعمر_يحكي

#ملحووووووظة 🙅‍♀️

🍒 الفصل قد يكون صغير بس رؤيتي ككاتبة مينفعش معاه اي مشاهد لحد تاني.. 
🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂

الفصل الخامس والثلاثون

وطن؟! 
ما هو الوطن..  كثير منا قد يتساءل.. 
هل هو حدود بلد.. أم أُناس.. أم أمان .. 
ولكن في عُرف المغتربين.. اللاجئين..
عُرف الموجوعين والموصومين بألم طال أرواحهم.. 
الوطن هو تنهيدة.. 
تنهيدة ارتياح تخرج من بين أنفاس المغترب عند وقوفه على عتبة وطنه.. 
تنهيدة من المتعب عند الشفاء.. 
تنهيدة من الحزين عند انقشاع حزنه.. 
تنهيدة المهموم عند انفراج همه.. 
كل منا يمر بلحظات وطن.. 
ولكن ليس الجميع بقادر على إدراكِها .. 
.
.
" ماذا كان يحدث بالأسفل "
" تقصد بالأمس؟!  "
" نعم "
"  انتظر هنا "
ثم غادر تمام الغرفة تحت نظرات الآخر المتعجبة..  استقام من مكانه متوجها للشرفة مراقبا حديقة منزلهم..  الأشجار..  النهار..  تشمم النسيم بعمق يجلي روحه..  يغمض عيناه مستمتعا بهبات الهواء الناعمة والممزوجة ببرودة لا تخلو من الدفء.. 
دقائق قليلة مرت قطعها دخول تمام للغرفة مرة أخرى.. 
التفت له يونس ليقف مشتتا..  متجمدا.. مذهولا..  وهو يرى أخيه يخطو تجاهه حاملا بين يديه شيئا ملفوفا غير واضح لأعين يونس الذي راقبه باستفهام صريح
وكل تشتته وهذيانه وذهوله زادوا أضعافاً حين قام أخيه بوضع لفة لكائن حي صغير بين ذراعي الواقف بتصلب وصوت أخيه الأكبر يصله موضحا بنبرة خرجت متأثرة دون إرادته..
" بالأمس كان عقيقة يونس الصغير.. ابني "
انتفضت نظرات يونس تجاه أخيه  ثم يعود بنظراته للصغير النائم بين ذراعيه ليدرك أنه مفقود منذ زمن.. 
" يونس؟! .. أسميته يونس!! "
والذهول منطق أحيانا..  ولكن الآن ما هو إلا غرق.. 
" في الحقيقة لم يكن اقتراحي "
تساؤل رسم أعين الأخ الأصغر فيجيبه الأكبر.. 
" كان اقتراح والدته لإدراكها مكانتك لدي "
النجاة في هذه اللحظة تحديدا معدومة..  فالغرق هذه المرة ليس ذهولا بل هو إدراكا..  إدراك لكل خسارة مرت.. 
" تمام.. ااه "
" لا تقل شيئا "
قاطعه تمام مُلاحظا ضعفه..  ملاحظا إجهاده فالساعات التي قضاها في النوم لم تكن كفيلة في تبديد إرهاقه.. 
" أخبرني فقط أنكَ بخير "
والرجاء بصوت تمام جعل الأصغر يغمض عيناه للحظتين ثم فتحهما ناظرا للصغير اللي مازال بين ذراعيه هامسا والحديث موجه للأخ الأكبر.. 
" لا أعلم إن كنت بخير أم لا "
وهذا ما شعره الأكبر والآن يصل لمرحلة التأكيد.. 
" مظهرك لا يوحي بأنك بخير "
أكد على اعتراف يونس البسيط كبساطة ملاحظة الألم على ملامحه.. 
" هل هناك ما يمكنك البوح به؟! "
السؤال كان من تمام الذي سحبه الفضول لمعرفة ما يجول بداخل أخيه.. 
كان يونس يناظره دون تعبير وإن كان هناك الملايين منها تملؤه.. 
ملامحه جامدة..  والراحة على ملامح الأكبر تصيب دواخله بأعتى المشاعر.. 
" كيف تتعامل معي بهذا الشكل "
تساؤل عجيب ملأه منذ خطت قدماه بيتهم وأعلن عنه بذهول.  دهشة وغير تصديق لما يحدث..
أهداه الأكبر ابتسامة متفهمة ثم سأله.. 
" وكيف توقعت تعاملي معك "
التفت ناظرا للصغير يرغب في ادخاله المحادثة وقد أصبح يحمل اسما هو له..  عاد بنظراته مرة أخرى للواقف جواره ينتظر منه تفسيراً.. 
" أقل ما فيها لا تستقبلني ببيتك "
هزه رأسه بغير تصديق مشيرا للصغير بقصد .. 
( لا أن تسمي طفلك بإسمي )
وكم أراد نطقها ولكنها تغافل متنعما بكونه عم هذا الصغير.. 
ابتسم داخله ووقع الكلمات مذهل.. 
" ولكنه بيتك أيضاً وأنت تعلم هذا "
أسقطه بغتة في هوة من المشاعر الحمقاء التي يقف أمامها الانسان لا يعلم كيفية التصرف معها.. 
" وإن كان وجودي أنا هنا يزيد حرجك سأغادر البيت أنا وعائلتي لتكن على راحتك "
انتفض يونس بنظراته ناظرا لأخيه بغير تصديق وقد شعر بأن الطاولة تنقلب عليه.. وكأن تمام يرمي الكرة بملعبه.. 
" لا بالطبع لم أقصد هذا.. فقط أنا اا .. "
" أنت ماذا "
والسؤال خرج ملهوفا من تمام وكأنه يستحلفه الحديث علّ باله يرتاح.. 
" أثناء وجودي في المطار حاولت كثيرا تخيل لحظة دخولي البيت ورغم كل السيناريوهات التي تخيلتها بل آمنت بحدوثها وجميعها كان يصب في منحدر واحد وهو.. أن لا مكاناً لي هنا ولكن بداخلي جزء صغير كان يؤمن بما يحدث الآن "
نبض قلب تمام بعنف مرددا كلماته في هيئة سؤال.. 
" وما الذي يحدث الآن "
ناظره يونس بعينين تلمعان.. وقلب ثائر بضربات كطبول حرب هوجاء.. 
" وجودك "
صمت للحظة يعدد بتقطع.. 
" تقبلك لعودتي مهما كان أسبابها.. "
لوى شفتيه بلا تعبير.. 
" قضاءك الليلة هنا.. بجواري "
ثم أمال رأسه ناظرا للصغير الذي تململ للحظات ثم سكن وكأنه استشعر دفء حامله.. 
" ابنك "
ابتسم تمام باندفاع ملهوف وكأنه يرغب بتقريب كل السبل لجعله يشعر بالدفء..  يشعر بالأمان.. 
" لم ترَ ابنتي بعد "
ثم توجه لباب الغرفة قاصدا الخروج ولكنه توقف وصوت أخيه يصله مندفعا.. 
" انتظر "
ثم أقر بما يخطط له.. 
" أنا لن أظلّ هنا "
التفت تمام بكامل جسده تجاه محدثه متسائلا بخفوت متوجس.. 
" ماذا تعني "
" سأغادر اليوم "
اقترب تمام بخطواته قليلا متسائلا. 
" إلى أين "
" أي مكان.. أي فندق "
والإجابة وإن كانت لا مبالية ولكنها مليئة بالكثير من المشاعر المتهربة.. 
" وهنا ماذا به "
رفع يونس نظراته بذهول.. مغتاظا.. مستاءً من أخيه ومن نفسه قبلاً.. 
" تمام لا تتباسط ولا تنظر للأمر بتلك الراحة أنا أعلم أن وجودي هنا سيسبب أزمة ما "
قال كلماته باندفاع فقابله تمام بتقرير هادئ مغاير تماما للثورة بين أحرف أخيه .. 
" أزمة وجودها رأسك فقط "
وضع أحد كفيه بداخل بنطاله..  ملوحاً بالآخر.. 
" أي شيء مضى انتهى ودُفن "
أشار برأسه تجاه الواقف يحمل صغيره بين ذراعيه متابعا.. 
" التعامل حاليا أنكَ أخي.. وعم أولادي "
عم أولادي!!.. 
والوقع مبهج حد الألم..
النطق به يصاحبه موسيقى هادئة بإيقاع خافت يلامس شغاف القلب حتى وإن كان أصماً عن عمد.. 
التفت كلاهما لصوت يأتي من جهة الباب ليجدا كائن صغير وردي شكلا وموضوعا..  بخصلات شعر ناعم بلون سائل الشكولاتة وعينين رماديتين ..  بالنظرة الأولى إليها أدرك أنها تملك عينيّ والدها..
" بـ ـابـ ـا "
والكلمة حروفها متقطعة ولكنه فهمها.. 
" توق.. تعالي "
قالها تمام لتندفع الصغيرة تجاه والدها الذي تحرك يستقبلها.. 
تتدحرج بجسد طفولي مكتنز يؤكل بشهية مفتوحة ودون ذرة ندم..
  خطفت قلب الواقف يراقب تحركاتها.. 
خطواتها.. 
لمعة عينيها أثناء نظراتها لوالدها.. 
نغماتها الغير مفهومة والمصاحبة لابتسامة كنجمة في ظلام روحه.. 
يتابعها بشغف تستقر بين ذراعي والدها الذي حملها طابعا على وجنتها قبلة صباحية هامسا بأذنها.. 
" صباح الخير يا جنة قلبي "
وكأنها تنتظر كلمات والدها الهامسة فتميل تقبل وجنته..  
هل فهمت ما قال؟! 
تساءل يونس في نفسه وعيناه لا تبتعدان عنهما.. 
ينظر لهما بتعطش..  يتشرب ما يفعلاه بجوع غريب.. 
وكأنه ما رأى أطفالا من قبل..
وهو؟!
هو في الحقيقة ما عاش هذه المشاعر من قبل..
يونس النويري..  الابن العاق.. 
المطرود من جنته.. 
شيطان جحيمه الخاص.. 
وكل المسميات به تليق.. 
ابن النويري الذي زُلزل جحيمه بفرقعة إصبع ها هو يتابع طفلة لم تتم الثلاث سنوات بشغف محروم من النعمة.. 
حملها تمام وعاد بخطواته ليونس الواقف يحتله الذهول والذي  يعادله هذيانه بسبب تلك اللفة التي تقبع بين ذراعيه..
" أنت لم ترها سوى بالصور أليس كذلك.. أمي كانت تخبرني بذلك "
كلمات ألقاها تمّام مُخرجا الواقف من غرقه بصغيرة بيضاء البشرة مكتنزة الجسد.. وفيض من مشاعر بريئة تسكن عينيها.. 
" هذا عمو "
قالها تمام لابنته مشيراً للواقف كصنم أما داخله فيجري كطوفان يدمر كل جمود سكنه يوماً  .. 
" عـ ـمـ ـو "
والصغيرة رددتها بتلعثم غير واضح لا نطقا.. ولا له أي معالم من التعريف 
" نعم.. "
والتأكيد جاء من تمّام..  الذي فهم همستها؟!..
حقا؟!!..  والتساؤل كان أحمقا بداخله.. 
" عمو.. يونس "
الاضافة هذه المرة كانت للتكملة أو توضيحاً الصورة.. 
نطقها والدها ببشاشته وأريحيته المعهودة والمتوقعة..
" فلترحبي به إذاً .. ما رأيك "
كان ينظر لها مبهوتا.. كيف لحروف مكسرة ونطق مبهم للسمع أن يكون له هذا الوقع على قلبه الجامد فيتخلله مُزيحا كل غشاوة.. وكل جمود.. مُنبتاً بين حناياه كل دفء.. 
كل حاجة..
وكل اشتياق.. اشتياق للارتماء بين ذراعيها الصغيرين..
وكأنها سمعت نداء قلبه فمالت بغتة وهي بين ذراعي والدها..
تحاوط (عمو يونس) بكلا ذراعيها الطفوليين ثم تميل برأسها طابعة بشفتيها الناعمتين قبلة على وجنته وهمسها يترك بصمته على روحه..
" أنـ ـا أحـ ـبك عـ ـمـ ـو يـ ـونس "
وكأنها أصابت قلبه بلعنة الغرق في عشقها..
نظر لها بعينين منكسرتين وهمسه المتعثر.. اللا إرادي يخرج ليصيب قلب المتابع للموقف..
" وأنـ ـا أحـ ـبك أيضاً " 
يتابعه تمام دون النطق بشيء حفاظا على هذه اللحظة التي لم ير مثلها قبلاً..  وبالتأكيد لن يخبره أن هذه طريقة ترحيبها وتعاملها مع كل أحد حولها فلينعم يونس بهذا التفضيل وهذه المعاملة التي أصابت روحه كما يتضح عليه.. 
" هيا بالتأكيد ستجن والدتك بالأسفل لتأخرنا "
تابع واضعا الصغيرة بالأسفل ثم مد يده للصغير النائم براحة بين ذراعيّ عمه.. 
" لقد أخبرتهم ألا يصعد إليك أحد لتكون على راحتك وحين تستيقظ سننزل إليهم "
وكم كان يرغب بالرفض..  كم ود كثيرا في الحقيقة.. 
ولكن كل رفضه تبدد حين شعر بأصابع الصغيرة تلتف حول أصابع يده التي بالكاد تطالها.. 
أصابع صغيرة دافئة بالكاد تلتف حول إصبعين من أصابعه بصعوبة.. 
مال ينظر لها مضيقاً ما بين حاجبيه بعدم رضا لغرقه الذي لم يحسب له حساباً..  ولكن!! 
ولكن كل تلك المشاعر السلبية تبددت حين قابلته ابتسامتها الناعمة..  الداعمة لشيء لا تعلم هي كهنه.. 
وعيناها تلمعان بشيء من بريق خطف قلبه توالياً..  ليصبح الوقوع في حب هذه الصغيرة قسم على قلبه المهزوز.. 
لعنة رمتها عليه تبدد كل ضعف..  ألم..  فقد.. 
" الفطور جاهز "
قيلت ليُفاجئ بوجوده بالأسفل ..  كيف نزل للطابق السفلي.. 
كيف كان مسحوبا ببساطة بفعل كف يد يتكون من خمسة أصابع صغيرة من السهل أكلهم في قضمة واحدة.. 
" تعال يا حبيبي تعال "
قالتها أمه التي اقتربت تضمه..  تقبله..  عيناها تبكيان بضعف الاشتياق.. 
وخزة شعر بها داخله حين شعر بالصغيرة تترك يده..  
" اشتقت لك يا يونس "
قالتها تسحبه من ذراعه تُجلسه قسرا.. راضيا..
" وأنا أيضاً أمي "
يشعر بنفسه داخل فقاعة زمنية عادت به لكثير من الزمن.. 
سنة أو اثنتين..  ربما ثلاث أو أكثر..  لا يدري.. 
كل ما يعلمه أنه عاش هذه اللحظة قبلا لكن هناك ما اختلف.. 
والاختلاف تجسد في خيال لاحظه جالسا بجوار أخيه تحمل صغيرها.. 
هذا الصغير الذي يحمل اسمه.. 
" كيف عملك "
سألته أمه تُخرجه من هذيان عقله فيلتفت مجيبا بشرود.. 
" بخير "
والسؤال التالي خرج ملهوفا..  مبتورا.. 
" هل اا.. "
تجذب انتباهه بسؤالها الذي لم يكتمل فيسألها بفضول.. 
" ماذا هناك "
" هل ستتركنا ثانية "
والسؤال خرج مندفعا لا يطيق الاستقرار بحلقها..  شوقاً لإجابة تنتظرها بفارغ الصبر..  ينظر لطبقه الذي لم يمسه.. 
" أعلم أنكَ ستتركنا.. فهل حددت موعد سفرك.. أم ستفاجئنا به "
وأعطت لنفسها حق الإجابة من منطلق وقوع البلاء ولا انتظاره.. 
فتأتيها الإجابة مهزوزة.. مُنغمة بهروب هو سِمة به.. 
" لا أعلم يا أمي.. أعتقد أني سأظل هنا قليلا "
وهروبه هذه المرة لم يكن من ماضٍ يخص الطفولة وجرحها.. 
الهرب هذه المرة يخص قلبه..  عشق استوطنه وخسره ولن يكون بقادر على مواجهة صاحبته يوما ما..  فالهرب مؤقتا هو الحل الأمثل ليستطيع لملمة شتات فقده.. 
" أو كثيراً يا حبيبي.. فلتبق في عيني "
وعرضها حاتمي للغاية..  كريماً وإن كان أمومي الصفة والإلقاء.. 
" شكراً على الفطور "
قالها يقف وعيناه لا تطلعان لجهة أخيه أو لمن تجلس بجواره.. 
" سأتمشى بالحديقة قليلاً "
قالها مغادرا كرسيه فيتوقف يأتي من ورائه سؤال بصوت من تجاهل وجوده خلال الفطور.. 
" هل آتي معك "
بلع غصته وقال دون أن يلتفت.. 
" لا.. سأتمشى بمفردي "
.
.
وبالحديقة خرج.. 
عيناه تدوران في كل جهة..  يرى بعين خياله طفل ينزوي باكيا عند جذع الشجرة الكبيرة.. الصامدة كصمود الزمن في نهاية الحديقة.. 
طفل شكى همه ورفض والده له لذلك الجذع يوما.. 
دارت عيناه قليلا ليرى لقطة أخرى من الزمن لفتى على أعتاب المراهقة انزوى في جانب الحديقة بعيدا عن مرمى الأنظار ليجرب أول لفافة تبغ في حياته..  وبوسط الخيال رأى بكاء.. 
صراخ غاضب.. 
وصفعة نالها.. 
ليعاند ويعاند ويصبح الدخان الرمادي برائحة النيكوتين صديقه الذي لم يغادره يوما.. 
وبذكر الدخان أخرج أحد سجائره يشعلها..  ينظر لنارها مراقبا جريان الشعلة تأكل اللفافة بنهم متمهل.. 
رفع نظراته عن الشعلة الصغيرة ثم أخذته خطواته متجولا في الحديقة معيدا.. متخيلا ذكريات لا تغادره.. 
توقفت خطواته مقابلا لغرفة صغيرة جانبية في نهاية الحديقة يعلم أنها للخزين الغذائي وأدوات الصيانة للبيت.. 
ظل واقفا للحظات منهيا لفافته ثم دقيقة مرت مخرجا أخرى يشعلها وعقله لا ينفك مفكرا وبعقله تختمر فكرة يراها الأصلح والأنسب.. 
..
وقبل أن يصل لمنتصف لفافة تبغه وجد الصغيرة الشقية صاحبة الساقين المكتنزين تهرول تجاهه بذراعين مفتوحين..
وهمسها المبهم.. لولا أن سمعه من أخيه لما علم أنها تقصده بندائها..
" عمو يونس "
وعمو يونس سلم راياته.. وآمن أن هناك أساليب أخرى لتربية الكبير كأن يحبه صغيرة جميلة شقية فيخاف على مظهره أمامها وكـ عم مطيع محبوب رمى لفافته خِلسة قبل أن تلمحه..
وبرد فعل لم يكن يوقعه من نفسه انحني لها فاتحاً ذراعيه يستقبلها ثم يعتدل في وقفته والقبلة هذه المرة كانت منه لتهديه أجمل ابتسامة قد يراها في حياته..
" أرى أنكما انسجمتما معا "
نظر لها يونس ولمعان عينيه يتلألأ تحت نظرات أخيه الذي ابتهج داخله شاكرا ابنته على هذه الحرارة الذي شعرها تسري داخل أخيه. 
" يعني إلى حد ما "
ابتسم تمّام منتعشا.. مرتاحا.. 
" بداية مبشرة "
ربت بكفه فوق كتف يونس متعجبا وقفته هنا.. 
" ماذا تفعل هنا؟!  "
والسؤال ليونس القديم قد يفسره بشكل مخالف عن المقصود..  وتأخره في الرد جعل تمام يتابع غير واعيا لمقارنة يونس لنفسه بين الماضي والحاضر.. 
"هل تحتاج لتصليح شيء بغرفتك بالأعلى؟!  "
وهذا بالضبط التفسير الأول الذي فكر فيه يونس الذي اصبح يرى الأمور بمنظور مختلف.. غير متكلف وغير متجني.. 
دليل آخر على تغيير لمسه في روحه.. 
" لم أكد أرى إن كان بها شيء يحتاج لتصليح "
قالها يونس متهربا من عيني أخيه الذي ناظره بتساؤل منتظرا إجابة أخرى لسبب وقفته هنا.. 
" أنا سأظل هنا "
والإجابة لم تتأخر بل خرجت دفعة واحدة ليهديه الأكبر نظرة عدم فهم فسرها بسؤال.. 
" ماذا تعني "
" أعني أنكَ أصريت أن أظلّ بالبيت ولكني سأختار ما يريحني.. "
نظر للغرف من ورائه متابعا..
"  وراحتي هنا "
عاد بنظراته لأخيه الذي تغيرت كامل ملامحه لعدم رضا واضح..  مستاء.. 
" ولكن اا..  "
وهم ليبرر عدم قبوله لتلك الفكرة الحمقاء ولكن يونس أوقفه.. 
" تمام أرجوك.. أنا أُقدر جيداً ما تفعله ولكن دعني على راحتي "
خيم الصمت فوقهما للحظات قد تصل لدقيقة أو دقيقتين.. 
الصغير يقف ناظرا للأكبر بانتظار الموافقة وهذا أمر تعجبه أيضاً في نفسه.. 
والأكبر وقف يتدارك ويقلب طلب أخيه داخل رأسه يحاول الوصل لحل يرضيه ويرضي صغيره.. 
" حسنا سأتركك على راحتك..  ولكن دعني أفعل لك ما يريحني
أنا الآخر "
أهداه الأصغر نظرة متسائلة.. 
" ماذا تقصد "
ربتة أخرى أهداها تمام لكتف يونس ثم ابتسامة نصر..  وملاعبة لحاجبيه.. 
" ستعلم  ولكن بعد أن أقوم بهذا الاتصال "
ليدرك أن النظرة لم تكن نصراً كاملاً بل كانت تواطئاً .. 
ابتعد تمام يفعل ما أخبره ثم التفت هو للصغيرة يتقبل ابتساماتها البشوشة واحتضانها له كل فينة وأخرى..
يستقبل كل هذا بخفة.. بجوع لا مثيل له..
وبالحديث عن الجوع انتفض في وقفته حين وصل لمركز حاسة شمه رائحة يعرفها جيدا..
لم يدر كيف انسلت الصغيرة من بين ذراعيه ولا كيف سار تجاه الرائحة التي زلزلت كيانه في لحظة..
رائحة فطائر محلاة..
فطائره.. فطائرها.. فطائرهما معا..
رمز الالتقاء والراحة.. رمز للسكينة التي كانا يلجئان إليها وقت الحاجة..
وصل للمطبخ ليلمح جسد ما يعطيه ظهره..
وطبق الفطائر موضوع باستقبال مهيب على الطاولة وكأنه في انتظاره..
دون وعي مد يده ممسكا بأحد الفطائر يلتهمها بتلذذ أرعب الواقفة لتنتفض
في وقفتها.. تلتفت لهه..  تشهق بذعر ظنا منها أنها بمفردها فتجده واقفا بنظرة عين رأتها طفولية وكأن أُماً ضبطت طفلها يسرق
طعامه المفضل..
" آسف "
نطقها بارتباك معتقدا ذعرها خوفاً منه شخصيا..
يزداد ارتباكها مع اعتذاره الغير متوقع فتعدل من حجابها البسيط.. 
أما هو فحاول التبرير مشيرا للفطائر وسبب وجوده هنا.. 
" الرائحة اا..  "
" أعجبتك؟!  "
أوقفت تبريره متسائلة بفضول ليجيبها متلذذا..  مغمضا عيناه وخياله يحضر صورة أخرى.. صورة هو فيها جالساً على طاولة خشبية مستديرة وهي.. الغائبة.. الحاضرة بقلبه وروحه يتناولان نفس هذه الفطائر ولكن بمكان مختلف.. 
فتح عيناه.. ابتسامة شاردة داعبت جانب شفتيه..  متمتما بشرود.. 
" للغاية "
ورأت ابتسامته لتدرك أنه غاب في ذكرى تخصه هو.. 
" أكلتي المفضلة "
أتمّ ذكراه باعتراف صغير فيأتيه همستها البسيطة..  البشوشة.. 
" هنيئا لكَ "
لم يجبها سوى بابتسامة لتفاجئه قائلة..
" تستطيع أخذ الطبق تأكل ما تشاء "
تتسع عيناه ومازالت الفطيرة بين شفتيها يقضمها..  أبعدها متسائلا بدهشة.. 
" حقا!!  "
هزت رأسها بنعم ثم أكدتها.. 
" نعم بكل تأكيد "
مد يده ولكنه توقف للحظة مع اتمامها لعرضها.. 
" وإن أردت أكثر أخبرني "
نفى سريعا بلهفة.. 
" لالا شكرا لكِ "
أمسك الطبق بلهفة تعجبت لها.. راقبته يتحرك تجاه الباب ولكنه توقف قبل
أن يخرج.. التفت لها.. 
يناظرها بصمت للحظات قطعته هي متسائلة.. 
" هل هناك شيئاً "
" أنا آسف "
قالها صادقا وبنبرة أجشة جعلتها تضيق ما بين حاجبيها تبرر بصدق هي الأخرى.. 
" لا عليك سأصنع غيره "
" لا أقصد الطبق "
أوقفها نافيا.. ثم قالها.. 
" أقصد اا.. "
تلعثم بخزي ولأول مرة بحياته يخشى المواجهة.. 
" مـ ـا حـ ـدث قبلا "
توترت تحت عيناه فتابع دون اقتراب.. 
" لقد أدخلتك حربا لا علاقة لكِ بها "
أخفضت عيناها عنه ولكنه لم يتراجع..  تابع متأسفا..  معتذرا..  الأهم صادقا.. 
" أذيتك عن قصد ودون وعي "
بلعت غصتها وتلك الأيام تعاد بخيال ماضيها.. 
" أعلم أن كلامي لا فائدة منه الآن وقد أصبحتِ زوجة أخي مما يعني أنكِ كرقية منذ خَطّ اسمك جوار اسمه ولكن الاعتذار لكِ واجب عليّ ومنذ زمن طويل "
سكت للحظات يبتلع هو غصته هذه المرة ثم تابع.. 
" كما أتمنى أن لا يكون وجودي هنا مؤذي لكِ.. وإن طلبتِ مني المغادرة الآن.. سأفعلها "
وكان على حق..  عرضه لم يكن جزافا فالأمر بيدها الآن..  هي من يستطيع أن يخبره البقاء من عدمه..  فإن كان أخيه يطالبه بالمكوث من منطلق الأخوة والواجب..  فهي..  هي المتضررة البريئة من حربه لن تخادعه ولن تماطله..  ولن تتقبل وجوده إن لم ترد ذلك.. 
" بالتأكيد لا "
ونفيها أصاب روحه ليدرك أنه كان الخاسر الأكبر والوحيد في حربة.. 
" البيت هنا بيتك.. والجميع هنا بحاجة إليكَ ويحبونك "
تشبهه!! 
تشبه أخاه حقا فتسامح أخاه لا يليق به سواها.. 
" وتمام أيضا "
هل قرأت خياله أم أنها تقصد أمراً آخر.. 
" تمام يحبك للغاية "
قالتها لتنثر غبار سحري فوق قلبه فتخرج منه تنهيدة..
تنهيدة جمعت كل الأوطان بلحظة واحدة.. 
" فقط عليكَ أن تسمح له بالتعبير عن فرحته بوجودك ووقتها ستدرك كم وجودك هنا أحدثَ فارقا مع الجميع "
توترت أصابعه الممسكة بالطبق..  اهتزت حدقتيه..  والكلمات منها لم تكن مهزوزة..  ولا خادعة..  كانت مفعمة بصدق لم يظن سيسمعه منها هي بالتحديد.. 
" شـ ـكراً لكِ "
همسها بتلعثم دون أن يرفع عيناه فيها..  ثم أوضح ناظراً إليها.. 
" ليس من أجل الطبق هذه المرة ولكن من أجل كلامك ومسامحتك لي "
أهدته ابتسامة تشبه ابتسامة طفلتها.. 
" على الرحب والسعة "
ثم خرج من المطبخ تشيعه نظراتها للحظات سُرعان ما التفتت لما كانت تفعله.. 
دقيقة أخرى لتشهق هذه المرة ولكن بين أحضان من كانت تتغنى بحبه لأخيه منذ لحظات وهمسته جوار أذنها تصلها مفعمة بصدقه المُشاغب.. 
" أنا أحبك.. أتعلمين هذا "
ترتكن برأسها لكتفه دون أن تلتفت..
وطن هو وكل التنهيدات تلخصت به.. 
" نعم أعلم " 
والفرحة في صوته جعلتها تدرك أنه سمع الحديث الذي دار هنا قبل دقيقة مضت..
.

أما يونس فخرج من باب البيت يناظر الطبق بين يديه ككنز ثمين..
جلس على أول درجات السلم الخارجية لباب البيت..
ومرت دقيقة انضمت له بعدها صغيرة أخاه جذبها واجلسها على ساقه..
بين أحضانه..  وذراعه يحاوطها ومازال الطبق بين يديه لتصبح الطفلة بين الطبق وجذعه..
تنظر له بريب فيضحك مقهقها بصوت عالٍ لأول مرة منذ وصوله..
احقاقا للحق يضحك لأول مرة منذ فترة مضت ليس بالقصيرة ..
ناول الصغيرة قطعة وهمسه الغير مفهوم لها يصلها..
" تذوقي هذه وحين ننتهي سأخبرك حكايتي مع هذه الفطائر "
.
.

" كان ياما كان.. 
كان هناك وحشا.. وحش كان سيئاً ..  قبيحا.. 
يمشي بين البرية ضرير القلب
مشاعر لا يمتلك منها درب..
والعواء أصبح له  ضرب.. 
وحياته كانت بين حرب وحرب.. 
حتى جاءت الأميرة التي ألقت به داخل دوامة الحب
فبدلت قبحه لِحُسنٍ .. 
والقلب فاض كبركانٍ. 
والوحش تحول لأمير تعصف به
العاطفة.. 
الشعور.. 
الإحساس.. 
ليكون في النهاية إنساناً يعترف بمجريات القلب.. 
والانسان خطاء
وهو أخطأ في حق الأميرة فعاقبته.. 
تركته ثانية وسط البرية.. 
وكل مآله ألا يتحول وحشا ثانيةً..  "

****

قلب بين شقيّ رحى ج٣ من سلسلة والعمر يحكي بقلمي راندا عادل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن