الفصل الواحد والأربعون
قديما قيل لنا أن الشيطان يُحرق إذا استغفرت..
إذا سجدت..
إذا استقمت..
ولذلك دوره مع ضعيف الإيمان سهل.. متاح وغير منيع..
أما المؤمن فطريق الشيطان إليه معربد.. متعرج بالكثير وأولهم إيمانه..
الشيطان يهاب المؤمن لأنه استطاع فعل ما أُمر به والوسوسة إليه رغم صعوبتها إلا إن حدثت وانساق إليه المؤمن كانت للشيطان فرحة عارمة لا يعادلها فرحة فقد كسب ضمن حلفائه عاص جديد..****
رفع نظراته تجاه الباب الذي شعر عنده بحركة خفيضة ليتوقف الزمان به وهو يراقبها تدلف من الباب بعد أن فتحته..
نصف مستلقي.. ساعده الأيمن فوق رأسه.. أنزله يحاول أن يجلس معتدلا لتمنعه أثناء خطاها تجاهه..
" كما أنت لا تتحرك "
باستحياء.. بخجل زين وجنتيها بكرزات شامية المنشأ.. سُكرية المذاق.. تُشهي الناظر لقطفها..
" أحضرت لك هذا "
ثم أخرجت زجاجتين من العصير الطازج.. مدت يدها بإحداهم له..
نظر لها.. صامت.. جامد الملامح والجسد..
وألف لعنة ولعنة تُصب فوق رأسه لأنه في يوم من الأيام جرحها..
لأنه يوما ما هجرها.. أحزن قلبها بتعمد..
كيف رأى غيرها.. كيف حليت في عينيه من النساء دونها ..
" أتعلمين أنكِ جميلة جداً "
تتوتر بشكل عجيب.. توتر لذيذ زاد من فتنة خديها.. رفعت أصابع إحدى يديها تعدل من حجابها والذي لا يحتاج لتعديل..
" فلتشرب.. هذا "
فتحت إحدى الزجاجتين بتخبط أسر قلبه إليها دون أدنى مجهود منها..
رفع يده ممسكا بالزجاجة وبعفوية مقصودة لمس أصابعها..
وقبل أن تسحب يدها مد كفه الأخرى ممسكا بكفها يجذبها إليه..
فتميل بجذعها تجاهه لتهدي وجهه شهقة خافتة وكم ودّ أن يبتلعها بين شفتيه.. وكم يشتاق لاحتواء كل ما فيها إليه..
" ما رأيك أن تشاركيني مشروبي "
ازدردت لعابها تحت عينيه.. تتهرب بعينيها من سطوة نظراته..
" لا.. أريد "
أغمضت عيناها لرفة واحدة ثم فتحتهما تقول بعفوية صادقة..
" أنت أهم "
واااه لو تعلم ماذا فعلت به بحروفها العفوية..
" أتعلمين "
جذب انتباهها لترفع نظراتها بتساؤل.. فيجيب تساؤل عينيها بصدق مشاعره الجياشة تجاهها..
" أنتِ ست النساء في عيني "
وعلمت ماذا يقصد.. علمت.. ورغم عِلمها إلا أنها ملكتّه نبضها في هذه اللحظة..
اغرورقت عيناها بلمعان شفاف.. يميل برأسه جانبا ليستطيع النظر لها بشكل أكثر متعة.. ووضوحاً..
يرفع أصابعه يملس على وجنتها هامسا..
" هل ندمتِ على مجيئك معي "
سألها ويرغب حقا في إجابة ولم تتأخر عنه..
" بالتأكيد لا "
ثم أضافت لتعيد كَرة امتلاكها لقلبه مِراراً..
" لم أكن لأتركك بمفردك "
ساد الصمت بينهما للحظات والنظرات مازالت على اتصالها الشغوف.. المُصارح بكثير من الاعترافات التي لم تُنطق..
" أحتاج لعمر فوق عمري كي أوفيكِ حب تستحقيه "****
ساعات مرت وامتلأ خلالها الرواق بالرجال بعد أن أُذيع خبر إصابة الشيخ جاسم عثمان العمايري.. النائب المنتظر وشيخ لعشيرة من أكبر العشائر شرق البلاد وغربها..
" متى يمكننا استجوابه "
قالها ضابط الأمن المُكلف بمتابعة إفاقة المريض ليُبلغ الجهات المختصة والتي تتابع الأمر بنفسها..
" العملية كانت خطيرة والرصاصة مكانها كان عميقا للغاية ولذلك تم نقلة للعناية الفائقة ولن نستطيع الجزم بأي شيء إلا بعد إفاقته "
أومأ الضابط تحت أعين الجميع المراقب والمتابع لكلام الطبيب قبل أن يغادرهم الأخير ..
الجمع واقف حول الضابط الذي قال سارداً أول التحقيقات..
" تم العثور على جثة على بُعد عِدة أمتار من المكان الذي تواجد به الشيخ"
بحلق الجميع بالضابط منتظرين بقية السرد..
" وهذا ما سبب الاختلاف بين إدلاء كل من الشيخ عثمان والسيد حاتم "
ثم أوضح شارحا باستفاضة..
" الهاتف الذي كان مع القتيل تم تبديله في استقبال المشفى بهاتف الشيخ ولذلك حين اتصل السيد حاتم بهاتف الشيخ أبلغوه أنه توفى ..
وتم تدارك هذا الخطأ مع اتصال الشيخ عثمان فيجيبه المُسعف بأنه تم اطلاق النار عليه "
" هل أفاد البحث الجنائي بشيء "
سأله يونس ليجيبه الضابط..
" هوية الجثة أفادت بكونه أجنبي الجنسية "
لوح بيده قائلا..
" السلطات المختصة مهتمة بشكل شخصي بهذه القضية "
نظر للجميع قائلا..
" هل هناك ما ترغبون بقوله "
ساد الصمت على وجوه الجميع وكأن على رؤوسهم الطير رافضين البوح بأي شيء ..
وحين لمح الضابط صمتهم قال قبل أن يغادر..
" سننظر إذاً إفاقة الشيخ لأخذ إفادته "
غادر تحت أعين الجميع الساكن قلوبهم رهبة العجز وقلة الحيلة سواء تجاه الغائب تحت وطأة تخدير دون عن إرادته.. أو تجاه الغائب لا يعلون لوجوده أرض ..
تفرق الجميع كلٌ إلى اتجاه داخل المشفى مُقسمين أن لا يغادرونها قبل أن يستفيق الشيخ.. ولم يظل مكانه سوى دلال.. فداء .. الشيخ عثمان.. جابر.. وقاسم الذي حضر فور أن عَلِم بما حدث والذي يناظر جابر بشيء من لهيب اشتعل داخله فور رؤيته..
" عمي فلتعد للبيت وأنا سأظل إلى أن يستفيق "
بان الرفض على ملامحه ثم نطق برفضه ..
" ولكن اا.. "
" لا مجال لـ لكن يا عمي صحتك لا تتحمل كل هذا الضغط "
ثم لوح للجميع متابعاً..
" هيا سأوصلكم "
ثم التفت لزوجته الواقفة بجواره يخبرها مُقراً ..
" سأوصلك لبيتنا "
ولكنها عاندته..
" سأظل معك "
نفى برأسه ثم قال..
" لن ترتاحي كما أني سأكون مُشتت بتوفير الراحة لكِ ومتابعة جاسم لذلك هيا وبعد أن يفيق سأحدثك لتأتي حتى نعود "
حوار هادئ.. شيق جذب العيون للمراقبة بشيء من راحة.. تعجُب.. ولكنه لم يهتم كما لم يهتم عمه حين هَدَم كل هذا التخطيط بأمره واجب النفاذ..
" فداء ستأتي معي "
التفت له جميع أعين الواقفين فتابع متكئا على عصاه داعما نفسه ليقف..
" غرفتك القديمة مازالت موجودة ويتم تنظيفها باستمرار "
ووقوف الشيخ أنبأهم باستعداده للرحيل كما أنبأهم أن أمره لم يُطرح للجدال.. بل طُرح للتنفيذ.. ولذلك آثر جابر الإذعان مسيطرا على سروره اللحظي والذي سببته معلومة قالها عمه وسط ما رمى به من أمر..
" ما رأيك "
قالها مُلتفتا لزوجته يسألها وهذا حقها ولكن ضربة من عصا الشيخ صاحبت لومه المكسو بحزمه..
" وهل بعد أمري رأي "
أُحرجت فداء مطرقة برأسها..
" العفو يا شيخ.. فقط اا.. "
ولكن الشيخ ابتسم بود بدد إحراجها وتوترها..
" هيا يا ابنتي البيت ليس بغريب عنكِ "
" هيا يا دلال "
قالتها قاسم الواقف بجوارها يناظر ما يحدث بعينين ثاقبتين..
نظرت له ليتابع مترفقاً..
" سنذهب لدار اليماني "
فكر وأقر دون الرجوع لها مبعدا عنها أي حرج من وجود أخرى في دار العمايرية.. ومن الواضح أن دلال لا تعي لمنطق أخيها فهتفت..
" لن أستطيع تركه فقد يستيقظ في أي لحظة "
وبفطنة الشيخ علم ما يدور وما كان مقصد قاسم والمغاير تماماً لمنطقه وهو تبديد بقايا من توتر خلًفه تبعيات ماض طالت الجميع..
" هيا يا ابنتي لا لزوم لجلوسك وخاصة بوضعك هذا "
قاصداً حملها فتلقائيا مدت يدها تضعها على بطنها تبتهل داخلها أن يحفظ ولده ووالده..
همت لتتحرك يتبعها قاسم ليوقفهما كلمات الشيخ..
" زوجة ابني ستعود لبيتها يا قاسم "
أمر قاطع ولا تبديل لحروفه..
" كما تأمر يا شيخ "
تحرك الجميع فتبعهم جابر ولكن الشيخ أوقفه قاصداً..
" لا داع لمجيئك.. فالسائق بالأسفل "
ثم تحرك مشيراً لزوجتي ولديه..
" هيا يا غاليات الشيخ "
وكلمته أصابت دواخل واحدة منهما.. واحدة تبعته بحذر وكم ودت البقاء جوار زوجها حتى وإن قضت طوال الليلة واقفة لا تجد لراحتها مكان سوى بجواره..