الفصل الثالث والثلاثون
واستلم بيت القصيد ليكوِّن نبرَته الشِعرية الخاصة..
فتكون قافيته وجعه..
وترتيب حروفه آلامها الساكنة والثائرة..
فتُغزل في النهاية قصيدة حارقة لكلا منهما..غادرت مندفعة للخارج يصلها صوت تكسير فقد أطاح بذراعه كل ما كان على سطح مكتبه..
لا تعلم لوجهتها مكان..
ولا تعلم لواقعها أساس..
كانت تتخبط في خطواتها غير واعية أمامها فاصطدمت بشاهر الذي خطى لداخل الشركة ولكنها لم تنطق.. بل تراجعت عدة خطوات إثر اصطدامها به ويده التي أمسكت بمرفقها كانت كفيلة لحمايتها من السقوط..
وليتها تسقط.. تسقط إلى الأبد..
" جود "
لم تنظر له بل سحبت مرفقها من بين أصابعه دون وعي منها فتركها يلاحظ حالتها الغريبة والعجيبة..
" جود "
ناداها ثانية ومازالت لا تعي لوجوده.. فتحركت تقف أمام المدخل الرئيسي للشركة تنظر حولها بتيه لا تقصده.. بل تشعر وكأنها على وشك الغرق في اللاوعي..
" جوووود "
وندائه هذه المرة زاعق بعد أن لاحظ اقترابها لتخطي الرصيف دون النظر للطريق أو السيارات المارة..
أمسك مرفقها بقوة متشبثا بها.. تتبادل معه نظرات مبهمة وكأنها لا تعي هوية الواقف فصرخت به..
" اتركني "
رفع يده عنها مستسلما عندما لاحظ تيهها وعنفها الذي وجهته نحوه..
" اهدئي جود.. "
راقب زيغ عيناها فتابع بقلق واضح بين نبراته..
" ماذا حدث "
وكأن سؤاله نشلها من حربها الداخلية فخرج اسمه ملتاعا من بين شفتيها وكأن اسمه تعويذة لرجوعها لواقعها..
" شاهر "
لاحظ همستها المختنقة وعبراتها المحبوسة وكأنها تمنعها الهطول بصعوبة بالغة..
" هيا تعالي معي "
استسلمت لسحبه لها تجر أذيال صفعتها.. صفعة لم تكن بالحسبان..
صفعة جاءتها من الوحيد الذي جعل سكونها يشتعل..
الذي جعل حربها سلاماً لتتولد داخلها تلك الهالة من الحياة..
غبية سلمت مقاليد روحها لرجل ليعيث بها فسادا.. ويا ليته أحياها..
دهسها بقدميه يميتها بمَرار كلمات كانت أقرب للطعنات..
" إلى أين "
سؤالها خرج متحشرجا مختنقا يلفظ أنفاسه الأخيرة..
" أي مكان تستطيعين فيه إلتقاط أنفاسك "
فتبعته مستسلمة.. موجوعة.. تجاهد للوقوف..
وبمقهى بأطراف المدينة..
هادئا.. يحاوطه الخَضار من عدة جهات.. مكان يبعث للنفس الهدوء والسكينة.. وهذا ما تحتاجه هي الآن..
" ألن تخبريني ماذا بكِ "
نشلها بسؤاله من ضياعها الواضح.. تراقب الوجود حولها بعينين لا تريان شيئا.. يكاد يقسم على ذلك..
" چود "
ناداها ثانية مراقبا عيناها اللتان تسلطتا عليه وكأنها تتساءل هل وجوده حقيقي أم مجرد هلاوس بصرية.. هي لا تراه.. وهذا واضح عليها كوضوح الشمس..
" چود "
نادها ثالثا منتظرا أي رد فعل ينبئه أنها بخير ولكن كل ما طاله كان الصمت.. الصمت الثقيل كثقل صخرة فوق صدر أحدهم.. تكاد تزهق روحه ولكنه يجاهد لخروج أنفاسه ليبقى على قيد الحياة ولو لمجرد دقائق أخرى..
" جود "
النداء الأخير صاحبه لمسة يد انتفضت دون إرادة منها ليسحب يده سريعا متعجبا من رد فعلها المبالغ فيه..
" ماذا بكِ "
السؤال لم يكن من فراغ فقد رأى انتفاضتها ورعشة جسدها وكأنها تحارب الوجود..
" لا شيء "
همستها بضعف تمرر كفيها على صفحة وجهها بقوة وكأنها تجلب ذاتها من هوة خيالها المسجون وراء قضبان لحظات مضت..
" ماذا حدث "
ثم أتبع سؤاله بتقرير..
" أنتِ لست بخير "
نظرت إليه للحظات صامتة وكأنها تستوعب حضوره وكلامه ثم فجأته برد فعل متأخر بعض الشيء..
غطت وجهها بكلا كفيها ثم انفجرت بالبكاء مما جعله يجفل للحظات..
مقتربا من الطاولة قليلا.. مواسيا..
" اهدئي جود.. ماذا حدث لكل هذا "
ولكنه لم يجد ردا فتركها تفرغ ما يجول داخلها..
تركها عاجزا فلم تسعفه خبرته التعامل مع مثل هذا الموقف..
حتى زوجته نفسها لحظات ضعفها كانت قليلة الحدوث..
كانت تحاول ألا تضعف أمامه.. تتدلل نعم لكن تبكي او تصرخ وهو غير موجود حتى لا تزيد فوق عذابه عذابا..
دقائق مرت ثقيلة على كليهما.. قضتها هي في بكائها الصامت ذا النشيج الخفيض.. وقضاها هو في الاستماع إلى نشيجها دون أن يجرؤ على الاقتراب منها.. فحالتها أنبأته أنها ترغب بهذا الانفجار..
مرت تلك الدقائق محملة بالكثير مما مر بالأذهان..
عقله شارد في أميرة خرجت له من بين ظلمات حياته لتحيلها إلى سواد لا إنارة..
أغمض عيناه مستغلا سكون الجالسة أمامه فيغزو خياله طيفها..
يحتضنها.. يقبلها.. يتشممها..
زفر بحرارة ومازال مغمض العينين..
والطيف الخيالي ينظر لعينيه.. وهمسه تخرج من بين شفتيه هو مغازلا عيناها..
وفجأة كل هذا يتبدد كبعثرة سحابة دخانية وهمسها يعيد سماعه..
( أنا أحب مجد والزفاف نهاية الأسبوع)
خيال وخيالات لا يعلم أيهمها حقيقة وأيهما خيال بالفعل..
ولكن ما هو متأكد منه.. همستها..
همستها القوية التي جابهته بكل أحقية أنها لغيره..
فيسقط مرة أخرى بل مرات دون هوادة داخل ظلامه.. والسقطة هذه مرة ليست كسابقتها.. فالسقطة هذه المرة مصحوبة باعتراف قوي بحبها لآخر..
دقائق أخرى وكانت الجالسة قبالته قد انتهت من نحيبها وسلطت نظراتها للخارج تتابع الشارع المملوء بالمارين ذهابا وإيابا..
ثم أخيراً..
" لم اختياراتنا خاطئة "
انتفضت نظراته تجاهه متسائلا هل تقصده أم ماذا..
ولكنها لم تهمله التفكير في مغزى سؤالها فتابعت..
" نرى شخصا فنقول لأنفسنا هو ما سنستطيع تجاوز كل مُر بصحبته.. ولكن الأيام تهديك نتيجة اختيارك الخاطئ عن طريق صفعة قوية لتجبرك على الإفاقة "
تتابع نظراتها الشاردة للخارج ولسانها يتمتم بولولته..
" حتى الإفاقة صعبة.. مُرها لا يفرق عن مُر الاختيار.. "
تنظر له قليلا ثم تتبعها سؤال من كلمتين..
" أتعلم لماذا "
ولا تنتظر إجابته بالطبع فتابعت هي إجابتها من خالص خبرتها..
" لأن المُر هذه المرة يكون نتيجة وجع.. وجع لا يتحمله القلب "
استند بمرفقيه على الطاولة بينهما وعيناه تطوفان حولها بريب.. حالها أبدا لا ينم انها بخير..
" ألن تخبريني ماذا حدث لتكون حالتك بهذا الشكل؟! "
تنظر له بنظرات طويلة الأمد.. صامتة.. مغلفة بالكثير..
" لماذا لم تتزوج ثانية شاهر "
باغتته بسؤالها وخاصة في هذا الوقت من حديث نفسه..
ألقت سؤالها.. فاجأته لن ينكر وخاصة مع تبديل حالها من
من الثورة الى الهدوء..
" لم أجد من يحل مكان زوجتي "
وإجابته كانت صادقة حتى فترة ماضية ليست بالقصيرة..
إلى أن اعترف بوجود أخرى احتلت قلبه.. حتى وإن كانت لا تحبه..
" لماذا.. ألهذه الدرجة ليس لها بديل "
والسؤالان متداخلان بشكل غير منصف.. لا له ولا لقلبه ولا حتى للراحلة أو القابعة داخل قلبه حاليا..
" امم لا ليس هكذا ولكن أنا.. قلبي لم يتحمل دخوله أخرى "
إجابته وإن كان بها شيء من التضليل ولكنه أنصف كبريائه.. بل أنقذ رجولته التي هدرت تحت أقدام أخرى تملكت قلبه وتغنت بحبها لآخر..
" إذاً لو فكرت في الزواج مرة أخرى لن تُدخل قلبك في الحسبان "
كان سؤال أقرب لتوقع.. يلوي شفتيه مجيبا..
" إلى حدٍ ما "
مراوغ هو في كل ما يخصه..
سكنت لدقيقة.. ثانية.. والثالثة؟!..
في الثالثة كان تستدعي كل طاقة البكاء الخافت داخلها.. متصنعة قهراً ليس بصعبٍ.. قهراً لم تفق منه بل تشعب داخلها..
أفعى هي الأنثى حين تريد الانتقام ..
" هل يمكن أن تهدئي وتخبريني ما الذي يحدث "
انفجارها بالبكاء ثانية أربكه.. لتتابع بمسكنة أجادتها..
" سأخبرك.. ولكن "
أمال رأسه منتظرا متابعتها..
فتتحدث من بين شهقاتها..
" إن اخبرتك تعدني أن تساعدني "
حرك كفيه بلا معنى..
" إن كان باستطاعتي بالتأكيد لن أتأخر "
تتصنع.. تتمسكن.. يخفت صوتها.. تجيد التلاعب عن قصد..
" ليس باستطاعة أحد مثلك مساعدتي "
تهاجم حميته فيتأهب مدركا أنها لن تصل لحالتها هذه إلا إن كان الأمر خطراً..
غير مدركا أن عرضها فخاً.. فخ سيسقط في هوته..
خطة خلفها ثأر سيتحقق.. ولكن السؤال الأحق هنا..
من سيدفع ثمن هذا الثأر فالحب الحرب.. وفي الحب؟!..
كل الوسائل مباحة