الفصل الرابع والأربعون

1.1K 64 17
                                    


الفصل الرابع والأربعون

بعض الأشياء إذا قيلت فسدت.. 
وبعض من الأشياء إذا كُتمت خربت.. 
وهنا يكون دور المرء في التمييز بين ما يُقال،
وبين ما يُصمت عنه.. 
فللسان ميزان رمانته هي الحكمة

***

وصل بخطواته مهرولاً لا يدري أين تخط قدماه.. 
وقف أمام مكتب الاستقبال ينهت بأنفاسه يسأل بأجنبية..
" من فضلك هناك مصابان لحادث انقلاب سيارة أتيا لهنا "
أبعدت الموظفة نظراتها عنه تقوم بعدة ضغطات على لوحة المفاتيح أمامها للحاسب الآلي.. نظرة وأخرى ثم عادت إليه.. 
" نعم المصاب الأول حالته نزيف بالمخ نتيجة رضة دماغية وحاليا بغرفة العمليات أما الثانية فالتشخيص كان اختراق لقطعة حديدية الظهر فأصابت العمود الفقري "
كان ينظر لها ببلاهة لا يعي مما قالته حرفاً.. 
" عـ ـذراً ..  ولكـ ـن بالتأكيد هناك خطأ "
تلعثمت حروفه فوق لسانه والقلب ينكر والعقل يصرخ ألا تتقبل ما قيل.. 
ناظرته بلا معنى ثم عادت بنظراتها للشاشة وبعد نصف دقيقة رجعت إليه تقول بعملية..
" هذا ما هو مُقيد أمامي سيدي "
ثم تابعت لم تمهله فرصة للاستيعاب.. 
" وجرح وجهك يحتاج للتقطيب "
ولم ترَ جرح يده الذي لم يتوقف نزيفه منذ ما حدث.. 
يشعر بالدوار يلف رأسه ولكنه أبعد ما يكون عن فقدان الوعي رغم أنه يتمنى أن يفقده حقاً..
يتمنى أن يكون كل هذا كابوس وسيستيقظ منه.. 
ناظرها دون وعي.. زائغ النظرات.. متجهم..  جامد ومشوش.. 
بل مفقود.. 
رفع نظراته لتحط على الواقف على بُعد قليل منه يناظره دون معنى ولكن ألمه المرسوم قادر على كشف سِتره.. 
" يونس..  يجب أن يراك طبيباً حالتك خطِرة أنتَ الآخر "
ناظره يونس بتيه فقَد توقف عقله عند ما هتفت به الموظفة.. 
عاد بنظراته لها علّها تُكذِّب ما قالته ولكنه وجدها تتابع عملها بآلية غافلة عن نفسٍ تحطمت بما هتفت به .. 
" يونس "
رفع نظراته لأنطوان لا يقوى على الإجابة عن ندائه.. 
" هل سمعتني.. يجب أن يراك الطبيب "
لم يجب..  بل ترنح للحظات قبل أن يلحق به أنطوان ممسكاً بذراعه قبل أن يتهاوى مُدركاً ما به من إنهاك نفسي قبل أن يكون جسدي.. 
" يونس "
والنداء خرج جزعاً..  ملهوفاً وكنجدة للآخر.. 
نادى أنطوان للموظفة آمراً دون لُطف.. 
" أريد طبيباً في الحال "
أسرعت الموظفة باستدعاء الطبيب حين رأت بعينيها النزف المتسرب من يد المتهاوي أمامها.. 
وعلى وجه السرعة كان يقف جواره أحد الممرضين لمساعدته لدخول إحدى غرف الكشف قبل أن يأتي الطبيب ويصرح بمهنية بعد أن قام بالكشف على يده ووجه.. 
" الجرح عميق ويحتاج لتقطيب، ولابد من الدخول لعمل الاشاعات وبعدها سنقرر إذا كان سيحتاج لغرفة العمليات أم لمجرد تقطيب بتخدير موضعي"
لوى شفتيه بتقدير لحالة الوجه متابعاً.. 
" أما الوجه، فجراحة تجميلية ستنهي الأمر وتعيد الوجه كما كان لا تقلق "
" لا "
وقوة النطق جعلت الطبيب يرتد للحظات قبل أن يهتف بعدم فهم.. 
" ماذا "
ليتابع صاحب الشأن بكامل إرادته.. 
" لا أريدها جراحة تجميلية "
تدخل انطوان هذه المرة بعد أن تولى موقف المتفرج لحين انتهاء الطبيب..
" ماذا تعني "
يرفع يونس نظراته للمتسائل مجيباً بثبات.. 
" كما سمعت "
" لا تعاند يونس كيف ستتعايش بجرح بهذا الشكل "
والتدخل كان من حقه كصديق ولكنه لا يعلم ماذا كُسر بداخل المجروح أمامه والذي قال بنبرة تشابه انكساره.. 
" سأتعايش أنطوان لا تقلق "
ولكن الصديق يحاول مرة أخرى.. 
" اسمع سيـ .. "
ولكن يونس قاطعه بشكل نهائي.. 
" الأمر منتهي انطوان "
ثم استدار للطبيب يسأله بجمود يسطر الموقف.. 
" هل أمر دخولي العمليات ضروري "
يعدل الطبيب من وضع يده التي أنهى الكشف علها بالفعل ثم وقف قائلا.. 
" بالتأكيد لو أسفرت الأشعة عن تضرر كبير بالكف لابد أن تدخل العمليات وخاصة بوجود هذا النزيف "
ولكن يونس وكأنه لم يسمع بل أصر قاسياً على نفسه.. 
" هل يمكنك التعامل مع الجرحين وتأجيل أمر الأشعة والعملية إن كانت ضرورية "
يضيق الطبيب ما بين حاجبيه بعدم رضا لهذه المناقشة التي لن تجدي نفعا كما يريدها المريض.. 
" لا أعلم سبب ما تطلبه هذا، ولكن بكل تأكيد التأخير سيزيد الضرر ووقتها قد يتفاقم  سوئه وقد يصل لبتر وبكل تأكيد  لا تريد هذا "
حضر ممرض من قسم التمريض بعد أن استدعاه الطبيب ليصحب يونس..
" سيد يونس هلا تحركنا "
وإصرار يونس على عدم التحرك دفع الطبيب للتدخل قائلا.. 
" أخبرني لمَ تريد تأجيل الأمر "
تنهد يونس بثقل..  وغصة داخله تتوغل متآكلة روحه.. 
" أخي بغرفة العمليات ولا أريد التغيب عن فرصة خروجه وأنا غير موجود "
صمت مهيب ظلل الجميع ليتداركه الطبيب متسائلا بمواساة.. 
" ما العملية التي يخوضها "
أطرق يونس برأسه مدارياً وخزات بين جفنيه قائلاً بصوت يفضح عما يعتمل داخله.. 
" لا أعلم.. ولكن الموظفة أخبرتني بأن التشخيص الأوّلي للحالة نزيف بالمخ نتيجة رضة دماغية "
أشار الطبيب للممرض برأسه بمعنى أن يبدأ عمله قبل أن يوجه حديثه ليونس.. 
" حسنا سأخرج للاستفسار عن ماهية العملية وأعود لك، وخلال هذا الوقت سأتركك للممرض يقوم بتجهيزك من أجل الأشعة وإن كانت النتيجة تستلزم دخولك العمليات فهذا أمر لن يكون هناك نقاش فيه "
وغادر الطبيب تاركاً يونس يخوض حربه الداخلية..  يواجه نفسه ومعترفاً بأشياء لم يكن ليعترف بها يوماً من قبل.. 
اقترب منه أنطوان الواقف بين نارين..  ناره على الراقدة بأحد غرف العمليات تجري إحدى العمليات الخطيرة، وناره على الجالس أمامه لا يعرف ماذا يفعل له.. 
" يونس "
ناداه ولكن لم يظهر على يونس أية بوادر لكونه سيستجيب ندائه فتابع أنطوان ناصحاً بصدق.. 
"  أنا أعذرك يونس ولكن عليكَ الانصياع للطبيب هذا من أجل مصلحتك ومصلحة أخيك حتى تستطيع الوقوف جواره "
والجالس أمامه كما هو لم يبد عليه رد فعل..  فصمت أنطوان تاركاً له مساحة هدوء يحظى بها..  وبعد أقل من دقيقتين فاجأه يونس قائلا بصوت مرتعش وكأنه يجاهد للخروج.. 
" أنـ ـا خـ ـائف "
لم يعارضه أنطوان بالحديث تاركاً له حرية التعبير.. 
" كل ما يحدث له بسببي.. أنا لم أسبب له سوى الحزن والقهر طوال العمر" 
رفع نظراته لأنطوان ليهاله كم العذاب الذي يكبته صديقه.. 
" أنا.. لا.. أريد.. أن.. أفقده.."
ازدرد أنطوان لعابه بصعوبة لا يعلم ما يقوله يبدد به القهر المرتسم داخل عينيه.. 
" أنـ ـا خـ ـائف أن أفـ ـقده أنطـ ـوان "
وتلعثم حروفه أنبأت المستمع بالانهيار الذي سيحدث.. اقترب منه يربت على كتفه بمؤازرة يعلم أنها لن تجدي نفعاً مع حالته.. 
" سيكون بخير "
دقائق مرت وحضر الطبيب واضعاً كفيه بداخل إزاره الطبي بلونه الأبيض..  فانتبه له يونس بكل جوارحه.. 
" أخاك لن يغادر العمليات قبل سِت ساعات وعمليتك لن تُكمل ساعة وبعدها ستكون بخير وفي استقباله.. فلا تقلق "
وإن أراد بألا يقلق فقد أخطأ فزادت نيرانه ثورة..  حارقة تأكل روحه بلا هوادة فالمعنى الأول والأخير لما قاله الطبيب هو خطورة عملية أخيه لطول مدتها..
" هيا بنا " 
قالها الممرض يساعد يونس على النهوض ثم الجلوس على كرسي متحرك يقود به إلى غرفة الأشعة.. 
والأشعة أسفرت عن وجوب عملية فوراً.. 
وخلال دقائق مضت بعد الانتهاء من الأشعة كان قد تم تجهيزه لدخول غرفة العمليات.
استلقى على الفراش المتحرك والمتجه لغرفة العمليات يشعر بمن سار جواره فيرفع نظراته ليجده انطوان الذي مال عليه مُطمئناً.. 
" ستخرج وتكون بخير "
والمعني بالأمر لا يهتم بخروجه ولا يهتم بكونه سيكون بخير..  اهتمامه شيء آخر..  أو تحديداً أحد آخر.. 
" أخي انطوان "
يوصيه.. أو يأتمنه لا يعلم..  كل ما بباله الآن هو القابع بين الحياة والموت بغرفة ليست ببعيدة.. 
كان الفراش قد وصل لباب غرفة العمليات.. ليتابع يونس راجيا..  مطالبا.. متوسلا.. 
" أخي يا أنطوان أخي "
يُذكره أنه الأهم.. 
كل ما يعلمه أنه يتمزق بما يحدث مع أخيه بسببه هو.. 

قلب بين شقيّ رحى ج٣ من سلسلة والعمر يحكي بقلمي راندا عادل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن