الفصل الحادي عشر
قبل السباق بيومين
" كيف حالك أمي؟ "
قالها بقلب مشتاق.. قلب يحن.. بل يخر صريعا لاشتياقه..
لأمه..
لروحه..
لـ...
حتى وطنه اشتاق له..
رغم أنه لم يظل بالوطن كثيرا.. فمنذ مراهقته و هو شريد بين سفر و آخر.. حتى كان استقراره بالخارج بحجة دراسته الجامعية..
و رغم كل هذا البُعد فإن داخله جزء صغير يشتاق..
يهفو..
و هذا ما يتعجب له في نفسه مؤخرا..
متسائلا ماذا حدث ليجعل داخله ينبض بهذا الشكل..
تنهد و صوت والدته يصله مشتاقا..
" بخير يا حبيبي. طمئني عنك "
يبتسم و صوتها الحنون يطبطب روحه ثم يجيب معبرا..
" اشتقت إليك أمي "
" تعال إذاً .. "
يهز رأسه يمينا و يسارا و كأنها تراه.. و صوته يخرج مشحونا بالكثير مما يعتمل داخله..
" ليتني أستطيع يا أمي "
فيأتيه صوتها الراجي ..
" و ما الذي يمنعك بني؟ "
يغلق عينيه بقوة معتصرا جفنيه محاولا السيطرة على داخله عبثا..
" لم أجد نفسي للآن يا أمي "
يفتح جفنيه وعيناه تتجولان حوله بشيء من التيه بينما يخرج صوته شاردا و كأنه يحادث روحه..
" رغم البداية إلا أنني ما زلت تائها "
و يتابع مؤكدا و كأنه يواجه نفسه..
" هناك شيء مفقود داخلي"
يسمع شهقة أمه الباكية فيتدارك نفسه..
" أمي أرجوك لا تبكي.. ما أصعب علي من صوت بكائك.. "
ثم يتابع متوسلا و داخله يصرخ ألما..
" أتوسل إليك أمي لا تبكي "
فيأتيه صوتها المطمئن..
" لن أبكي يا حبيبي و لكن قلبي ينخلع من أجلك "
يبتسم ثم يطمئنها كذبا..
" أنا بخير.. سلامة قلبك حبيبتي "
ثم يتابع و صوته يخرج مرتاحا..
" و الآن أخبريني.. كيف حالكم؟.. و كيف هي الشقية رقية؟ "
تبتسم والدته ثم تجيبه..
" ستجعل ابن عمك يجن قريبا.. "
يضحك مشتاقا.. متخيلا.. وصوته يخرج متشفيا ..
" يستحق.. هو من تباهى بحبه لها أمام الجميع حتى تزوجها.. فليتحمل "
تشاركه والدته الضحك ثم تقول..
" العقبى لقلبك يا ولدي "
و داخله ينبض مع دعائها..
متمنيا قول (آمين)..
و لكن لسانه لا يستطيع نطقها..
و إن كان لسانه متواطئا معه فخياله خانه و تراءى له طيف يعذبه في صحوه و نومه..
طيف تنأى صاحبته بعيدا عن واقعه متمسكة بقسوة و ثبات مغيظين..
ازدرد ريقه محاولا التركيز مع والدته ثم قال بتلعثم..
" كيف حال.. "
سكت للحظة مستجمعا شجاعته ثم قال ناطقا بسرعة و كأنه يرهب الاسم..
أم صاحبه..
" تمام "
يصله صوت والدته المبتهج..
" بخير يا ولدي.. يطمئن عليك مني دوما.. "
لا تعلم أن ما قالته رغم أنه أسعده فقد أثقل روحه أكثر.. ثم يأتيه صوتها مُكملا بسعادة أثلجت روحه حتى وإن كانت مؤقتة .
" سيرزقه الله بطفلة.. لقد علمنا جنس الجنين منذ أيام أخيرا "
" حقا "
و همسته خرجت مبتهجة.. فقط من أجل أخـ.. أخيه
وجد نفسه مبتسما بدون وعي متخيلا طفلة صغيرة شقية تلهو حول الجميع..
و الهمسة خرجت صادقة.. من كل قلبه..
بكل الخير..
" مبارك له يا أمي "
و الصمت دام للحظتين قطعتهما والدته متسائلة بتوجس..
" هل.. هل تضايقت يا يونس؟.. "
سؤاله لمح لجهله بمقصدها..
" من ماذا يا أمي؟ "
فتتلعثم والدته موضحة..
" أنت تعلم حساسية الموقف.. أقصد زوجة أخيك و أنت.. يعني "
الآن علم ما تقصد.. فيزفر نفسا ثقيلا.. ثم يوضح..
" أبدا أمي.. أنا أعترف لقد ظلمتها بما فعلته معها.. لم يكن لها ذنب بما بيني و بين أخي.. أردت اِحراجه أمام الناس إنتقاما منه و لم يكن لها
ذنب.. بل قمت باستغلالها بخسة.. و تستحق مني اعتذاراً "
ثم يؤكد لها مُطمئنا..
" هي كرقية الآن "
" الحمد لله "
و كانت تلك همسة والدته المرتاحة و التي توضح كم كانت قلقة من أجله..
و دعائها المتمم لهذا الإتصال يأتيه كالبَرد على ناره..
" جمعكم الله قريبا يا حبيبي و أراح قلبك و روحك "
و كم كان يحتاج هذا الدعاء