الفصل الواحد والخمسون.. الأخيروالنهاية كلمة
ولكن بين حروفها حياة
حياة هناك من يبدأها وهناك من ينهيها الفرق بينهما كيف تبدأ وإلى ماذا ستنتهي..
النهاية ليست بالضرورة تشبه البداية..
ولكن الأهم أن تكون مختلفة..
الأهم أن تحيا.. أن تنال فرصتك كاملة..
أن تستحق نهايتك أنت حين تأتي ..
عش بداية..
تعلم واغتنم
لتنال في آخر المطاف نهاية تستحقها..****
خطواته جنون.. والجنون الآن أشبه بالبركان الثائر لمجرد عودته من الخارج بعد ساعتين وسؤال الحارس عما حدث في غيابه ليخبره بكل ببساطة أن
(المهندسة غادرت)
ليجن ويفقد ما تبقى له من عقل على يدها.. ويد أخيه.. والحارس..
فيتوجه من فوره للبيت قاصداً أخاه..
" أين هي؟"
رمى سؤاله مباشراً.. حاداً.. ويجيبه تمام دون أن ينظر له..
" من تقصد؟"
يزيد يونس في خطواته.. وحِدته وجنونه..
" أين هي يا تمام؟"
يشير بأحد ذراعيه بغير هدى متابعاً.. ومشددا على حروفه..
" أخبروني أنها غادرت البيت فأخبرني بكل هدوء أين هي "
رفع تمام نظراته لأخيه بملامح غير مقروءة.. وقال بصوت شابه جمود..
" تعال يونس أريدك بأمرٍ هام!"
وجمود نبرات أخيه نبأه بأن الأمر جلل فاقترب بقلب يخفق خوفاً..
" ماذا هناك؟"
كان يخاف أن تكون رغبتها في البعد مرة أخرى.. خاف الموت بعد الحياة..
ولكن كلام تمام..
" لم نتحدث في شيء وهناك الكثير من الأمور العالقة بيننا "
علم أن الأمر لا يخصها.. بل يخصه هو وأخاه ليدرك أن خوف عن خوفٍ يفرق..
علم أن الخوف متفاوت.. كحاله بالضبط..
وكحال تجاهله لما بينه وبين أخيه متعمداً..
" لا أريد الحديث بشيء "
وهم ليغادر بحثاً عنها بنفسه.. ولكن كلمات أخيه
" لا يا يونس.. هذا حقك "
أوقفته ليلتفت لأخيه الذي تابع..
" وحقي أنا الآخر "
ضيق يونس ما بين حاجبيه بتساؤل غير منطوق.. تساؤل قرأه تمام جيداً فأجابه..
" إرثك لم ألمسه بناء على أمر والدنا "
والقلب يعلن العصيان.. والعقل يفرض التمرد منطقاً..
" مـ ـاذا تعـ ـني "
يائسًا يحاول نفي ما فهمه داخله ولكن هيهات.. فكلمات أخيه كانت كالصاعقة الكبرى فوق رأسه..
" أعني أن هذا كان اتفاقنا يونس..
أن أعطيك مالك بعد عودتك للوطن ومكوثك به واستقرار حالك "
ثم يضيف كمعلومة.. أو كتذكير..
" أنت لم تستلم مالك بعد "
" لا أريده.. لدي مالي "
والنفي كان مقصده.. لم يكن يقصد الحدة التي خرجت بها كلماته..
" لا يا يونس هذا حقك.. ولست أنا من يأخذ حقاً ليس له "
والتربيت فوق قلب يونس كانت مهمة تمام المدرك تماماً لما يجول داخل كيان أخيه..
" مالك أصبح ملكك وهذا لا خلاف فيه "
يقارب يواجهه الجسد بالجسد والعين بالعين والبينة على من تحمّل المسؤولية..
" ما يهمني الآن أن تعلم أن والدك لم يظلمك "
يلوح بكفه متابعاً والنية توضيح وإزهاق ما في النفوس من عتمة..
" كان يقسو عليك رغبة في صلاح حالك "
يدقق تمام النظر في ملامح يونس فينقبض قلبه مواساةً لأخ لم يعلم معنى الدعم يوماً..
" أخبرني قبل وفاته بأمر كتابة كل التركة باسمي..
رفضت ولكنه أخبرني أن الموضوع مؤقت لحين رجوعك وأُسلمك نصيبك"
يوكد مغزى الحوار لتخفيف عبئ عن أكتافه وإزالة ذنب عن كاهل والده
" لم يظلمك والدنا يا يونس "
رماها بهدوء حَذر ولكنه لم يحسب حساب تلك الحمم الخاملة وكانت تنتظر اللحظة المناسبة لفورانها..
" بل ظلمني "
والجنون أصبح سمة الحضور ليتابع يونس هائجاً..
" ظلمني حين أحبك أكثر مني..
ظلمني حين كان يقسو عليّ ..
ظلمني حين وبّخني بكل مرة كنت أخطئ بها وليس مجرد توبيخ للتعلم بل كان توبيخ للمقارنة بكَ "
سبابته تشير تجاه أخاه ليس للإشارة بل كان للتأكيد..
" أنتَ كنت له كل شيء "
يتألم من نفسه قبل تألمه من غائب تحت الثرى..
" كل شيء يا تمام فلا تأتي الآن وتقول لم يظلمني
لم يظلمني لمجرد أنه ترك لي نصيبي.. ما أقره الدين لي "
يلوح بذراعيه كمجنون فقد أهليته..
" هذا ليس تفضلا منه "
والقصد هنا تركة قد تسبب بحور من دم بين الأبناء..
" ها أنا الآن لا أحتاج ماله وانظر ما ترك داخلي "
يضرب صدره بقبضته المشدودة متمتماً بهمس مشدود..
" لم يترك سوى كُرهي له "
وتضييق عيني تمام جعله يؤكد..
" نعم أنا أكره أبي "
يدور حول نفسه متابعاً..
" أكرهه لمجرد أنه لم يستطع أن يحبني مثلما أحبك..
أكرهه الآن أكثر لأنه حرمني وجودك جواري..
أكرهه لأني أدركت كم كنت أحمق وأضعت الكثير والكثير في ترهات لا صدق لها "
تغيم عيناه بتأثر يحاربه.. ومواجهة يعلم حتميتها..
" كرهته لأني كرهتك في يومٍ ما "
وتسكت الأحرف مهددة بطعن ثنائي الطرف..
طعن كان ضحيته رجلين عاشا طفولة، مراهقة، رجولة مهددة..
" والآن؟! "
ليس سؤال بس كان حبل نجاة.. قشة يتعلق فيها غريقان..
" الآن أنت أخي.. سندي يا تمام "
والإجابة كانت طوق حياة.. طوق من روح رُدت لجسد ميت..
" الآن أنا لا أتخيل حياتي أو حياتنا جميعا دون وجودك فيها "
والتأثر سمة لملامحهما.. بينما الأصغر يتابع اعترافاته..
" الآن أنا أحمق كبير أضاع من عمره سنوات وسنوات "
والمسافة بينهما مترين يقف كل منهما على أولهما..
كلُ في طرف..
والرغبة الآن أن يتحرك كلاهما للاندساس في أحضان الآخر..
في تذيل الاعترافات بفعل يجعل من الإقرار عهد..
التفت تمام يحارب نفسه.. ومشاعره، ونصرته المتأخرة كثيراً..
" لقد أخبرت العمال أن يتوقفوا عن إتمام البناء "
رمى تمام قراره متماسكاً للنهاية.. راغباً في إزالة كل السدود أو راغباً في جعل أخاه يتخطى كل ما أعاقهما يوماً..
" لماذا؟"
سؤال مُزين بتعجب ليزداد تعجبه سؤال أخيه..
" هل تعلم لماذا بدأت فيه من الأساس؟"
ولم ينتظر تمام الإجابة.. ليجيب نفسه بنفسه..
" من أجلك "
ثم يضيف موضحاً..
" بيتك الذي ستتزوج وتعيش فيه "
ثم يقر بخطئه الذي لطالما كان سبب في بُعد يونس عن حياتهم سابقاً..
أن يفرض أحدهم عليه قرار فيعاقبهم بالهجر..
" تصرفت دون الرجوع لكَ وهذا خطأ مني.. "
يلوح بذراعه متابعاً..
" كنت أريد مفاجأتك وفي خضم فرحتي بكَ نسيت أنه ربما يكون لكَ رغبة أخرى.. "
يتابع مقراً الوجه الآخر للحدوتة..
" أن تعيش بعيداً عن هنا مثلا "
يلوح بيده مشيراً للغرفة من حوله نكايةً عن المكان الأكبر..
" بعيداً عن البيت الذي طالما كرهته و.. "
" كنت "
قاطعه يونس ليصمت تمام منتظراً توضيح لمقاطعته.. ولم يتأخر يونس..
" كنت أكرهه.. والآن لا أستطيع التخيل أن أبتعد عن هنا "
يدور حول نفسه دون ابتعاد وعيناه تحومان على كل ما حوله..
يهدي تمام قبس الراحة الأخير..
" لا أتخيل أن لا أرى توق.. يونس الصغير..
أمي ورقيه وحاتم..
وزوجتك "
ثم يضيف مشيرا بسبابته مصاحباً لتغضن ملامحه..
" رغم معاملتها السيئة لي ولكني أعذرها "
مازالت سبابته على إشارتها.
" وأنت "
يصمت للحظة ثم يتابع.. والنظرات بينهما بانتظار مضني لأكبر الطرفين..
" أنت يا تمام لا أتخيل أن يمر اليوم دون رؤيتك
لا أتخيل أن أعيش سنوات أخرى من حياتي أهدرها في بُعد لا لزوم له "
يميل برأسه مشاغباً متابعا..
" إلا إن كنت أنت من لا يريدني هنا "
يلوح تمام بكفه باستخفاف مناقضا كلمات أخيه..
" أنت أحمق بكل تأكيد.. كيف لا أريد وأنا من جلب العمال لبدأ العمل "
ابتسم يونس بمغزى فها هو سمعها بأذنيه ونطقها أخوه بنفسه..
" إذاً أنت بكامل وعيك وكامل قواك العقلية تختار الإقامة هنا "
يومئ يونس برأسه مؤكداً على كلام أخيه..
" نعم أختار الإقامة هنا بكامل إرادتي "
يضيف ماحيا الماضي بممحاة حاضر لم يكن الوصول له سهلاً..
" كما تركت هنا يوماً بكامل إرادتي.. أختار الحياة هنا بكل إرادتي "
تصمت الأفواه بينما القلوب لها رأي آخر..
رأي القلوب عزف لتراتيل الماضي..
وصراخ قلب بهوى الأحباب..
وبعد تراتيل وصراخ، لم يعد القلب بين شقيّ رحى، بل أصبح جُنةً عن الأنين..
أخفض يونس نظراته بعيداً عن نظرات أخيه الثاقبة والمدققة لكامل خجلاته..
" والآن.. أخبرني أين چود حتى لا أرتكب جناية "
يشاغب أخاه فيضحك مقهقها شارحاً ما يخطط له..
" اهدأ واسمعني.. ظروف چود لقد عرفتها "
يعدد مآسيها واحد تلو الآخر..
" لا أهل ولا حياة طبيعية عاشتها يوماً.. ولن يجوز إتمام الزواج هكذا فجأة "
والآخر لا يعجبه الحديث فلو عليه لسحبها في التو واللحظة عاقداً قرانه عليها دون اعتبارات لأي شيء آخر ..
" بمعنى "
والتأفف بين حروف كلمته واضح للمستمع الذي قال منهياً الحوار..
" لا زواج إلا بعد شهر رمضان "
وعدم الرضى وعدم الاقتناع ظهرا جليان على ملامح يونس الذي هتف معترضاً..
" ولكن اا.. "
فيقاطعه تمام فارضاً العقل..
" دون لكن يونس.. هذا حقها عليك "
ثم أشار بسبابته تجاه يونس متابعاً حديثه..
" أن تكون لها العوض الذي تستحقه.. "
يتأفف الواقف بغير رضا حتى لاح التذمر بين حروفه..
" ولكن.. أنا أريد رؤيتها "
ثم يضيف مؤكداً..
" لابد أن أراها "
يصمت لبرهة ثم يتساءل يائساً..
" لماذا أبعدتها؟"
يبتسم تمام بهدوء ثم يجيبه مهدهداً إياه كطفل صغير يتذمر لإبعاد حلواه..
" لأنه لا يصح بقائها هنا بعد أن طلبتها وخاصة أنه لا يمكنني إبعادك أنت عن هنا لأنك من سيشرف على إتمام البناء وإنهاء كل شيء "
ثم يضيف ملوحاً بكفيه..
" ليس هناك وقت "
واليأس مازال سمة طفله الأكبر..
" ولكن.. كنا سنتصرف "
" هكذا ستتشجع لإنهاء المطلوب.. كما أني أريدها في ضيافة
الشيخ عثمان "
يتذكر اهتزازها وضعفها وإن كانت تداريه ولكن لعيني خبير كتمام كانت مكشوفة كلياً..
" جود تفتقد للكثير في حياتها وبقاءها في القرية سيساعدها على استعادة قوتها وتوازنها "
" على الأقل يمكنني زيارتها.. أليس كذلك؟!"
تساءل يونس حانقاً.. زافراً بحنق.. ليزيد تمام من ضغطه عليه.. متلاعباً به..
" إن وافق الشيخ عثمان "
وقبل أن يتحرك أوقفه يونس متسائلا من بين أسنانه..
" ماذا تعني؟"
يبتسم تمام بتصنع مقصود.. ملاعباً حاجبيه..
" أعني أنها أصبحت في ضيافته هو لا ضيافتي "
ثم غادر تاركا العاشق يغلي اشتياقا مضنياً..
" سامحك الله يا تمام.. "
****
بقرية العمايرية