#الفصل_السادس_والثلاثون
الأمل
الأمل هو ذلك الشعور المتسرب بين كومة كبيرة من الأحزان فتجد نفسك دون إرادة تقول " لا إن شاء الله خير "
تغالط نفسك وتكابر كل ما يحدث بهذا القول متمسكا بنطفة من الأمل تتمنى يقينها
وهناك من ينطق ذلك الأمل بيقين ليأتي بالنهاية ويجد اسمه مُدونا في خانة الرابحين متوجا بتاج اليقين وتحقيق عبادة.
ما الفارق..
الفارق عزيزي القارئ أنك بالأمل تتمنى وباليقين تُنفذ..
وبكليهما تربح والربح حتى وإن كان مؤجلا ولكنه مضمون..****
يدور بالغرفة..
الغرفة الصغيرة الخاصة بخزين البيت الغذائي وأدوات التصليح تحولت بفعل العمال الذين أتوا بعد فرمان أخيه بالتوسع وتوصيل المرافق..
لتصبح في النهاية أقرب لشقة من غرفة واحدة يطلق عليها (أستوديو) مرفقة بدورة مياة ومطبخ بالتصميم الأمريكي..
نظر حوله مرة أخرى للأثاث الذي مازال ملفوفاً بورق حماية.. أثاث أصر أخاه أيضاً على شرائه من أجل راحته..
وكم أراد التمنع.. الممانعة.. ولكن!! ..
( فقط عليكَ أن تسمح له بالتعبير عن فرحته بوجودك)
كلماتها هي من منعته فترك نفسه لأخيه يعبر عن حبه له كما قالت.
ولم يندم..
وداخله شعور لا يعلم من أين أتى بأنه لن يندم أيضاً ..
رنين هاتفه أخرجه من شروده وتأملاته..
هاتفه الذي أعطاه له أخيه برقم دولي ليستطيع متابعة العمل.. العمل الذي لم يهاتفهم به إلا مرة واحدة وكانت موجهة للسكرتارية بشركته..
" كيف حالك يونس "
سؤال من عابد وأجابه يونس بنبرة مرتاحة لاحظها عابد جيدا..
" بخير عابد.. وأنت ولقى.. والصغيرة ؟! "
" جميعنا بخير "
ثم أتبعه بسؤال..
" ألن تأتي لأراك "
أبعد يونس الهاتف عن أذنه للحظات زافرا أنفاسا ثقيلة.. يشعر بالضغط لشعوره أن الجميع من حوله ينتظر إفصاحه عن أسباب رجوعه بهذا الشكل الذي عاد به..
أمه سألته.. أخته.. وابن عمه أيضا..
الوحيد الذي لم يسأل هو تمام..
تمام تقبل عودته دون انتظار أسباب وكأنه يكفيه عودته..
أعاد الهاتف لأذنه ثانية..
" أعلم أن هناك أسئلة كثيرة تدور ببالك ولكني لن أقوى على
الحديث الآن "
والصمت قابله للحظات وكأنه يتقبل هروب صديقه.. المؤقت..
" ومتى إذاً "
" لا أعلم عابد "
نفاذ الصبر ظهر جلياً على صوته فعاد الصمت يلف كليهما حتى قطعه عابد مرة أخرى قائلا بصدق داعم لا يخلو منه..
" حسنا أنتَ تعلم أني موجود متى احتجتني "
ابتسم يونس وابتسامته حياة.. أو عودة للحياة..
" أعلم يا صديقي.. شكرا لكَ "
أنهى الاتصال ثم عاد بنظراته للكثير من الأمور المكومة أمامه.. من أثاث وفرعيات وترتيبات كثيرة يحتاج لفعلها وقد صمم أنه من سيقوم بهذا الدور.. فهذا عمله في النهاية..
طرق على الباب أوقف تحركه الذي لم يبدأ.. فتح الباب ليجد أخاه أمامه..
" تمام تعال "
قالها بعفوية مريحة لكليهما وغير مخططة..
دخل تمام ينظر للغرفة من حوله بعدم رضا فالمكان رغم التجهيزات التي حدثت إلا أنه يحتاج للترتيب فلا يوجد مكان صغير للتحرك فيه بأريحية..
" لا أعلم لمَ اصرارك على المكوث هنا "
" أنا هنا أكثر راحة "
أجابه يونس وهو ينقل بعض الأغراض يضعها جانبا.. لم ير نظرة عينيّ أخيه المرتاحة.. والسعيدة..
" حسنا هذا ما يهم "
وشعر يونس بتلك النبرة التي تغلغلت قلبه لتتوقف يداه عن العمل لثلاث ثوان فقط ثم يعود للعمل مرة أخرى..
" حاتم ورقية سيصلان بعد قليل ما رأيك أن تأت لتجلس معنا "
الجلوس وسط العائلة دفء يرهقه.. يُضعفه..
ليس الضعف المتعارف عليه ولكن ضعفه هو حنين..
حنين لكل شيء وهو يخشى التعود.. يهابه.. لإدراكه أنه سيأتي يوم ويضطر للعودة وهذا أيضا لا يريده وتلك سابقة تكبر داخله كل لحظة مرت عليه هنا..
" هل الأمر يحتاج لكل هذا التفكير "
ونبضة قلبه الخائنة بعد اهتمام أخيه أعلنت تمرده على كل ضعفه ليترك ما بين يديه بعصبية ملتفتا لأخيه مهاجما دون مبرر.. والمبرر لنفسه واضح.. هو بوضوح يقلب الطاولة على أخيه حتى لا يدرك ضعفه الذي بدأ يظهر على تصرفاته..
" أنا لا أفهمك صراحةً "
" لماذا "
أجابه تمام معتقدا أن هجومه يخص عرضه للجلوس معهم.. لا يعلم أنها قنبلة وستنفجر بهما وليس فيهما..
" لا أفهم من أين تأتي بكل هذا التسامح والبساطة في تعاملك معي "
يدور حول نفسه متابعا يتعمد الضغط على أخيه..
" وإن كان ليس من أجل أني كنت زوجا لزوجتك فمن أجل معاملتي لكَ طول سنوات عمرنا معا "
والتحفز الذي أراده رآه حقيقة في ملامح غاضبة تشي بالكثير من الانفعال الذي قد يطيح به..
" يونس لا تأت بذكر هذا الأمر بيننا إن كنت ترغب ألا ترى مني سوى هذا التسامح "
يبتسم بتهكم منفعل وصوته يكسوه الانتصار للحظات وهو يقول.
" أرأيت.. هذا ما أقصده "
ليفاجئه تمام بثباته وعدم تأثره بتهكمه.. بل ظل شامخا مدافعا..
" وأنا أقصده أيضاً "
ثم ذيّل كلماته بتوضيح..
" تغاضيت عن الأمر لكونك أخي لحمي ودمي.. أما الآن فالأمر تخطى
سوء تفاهم حدث منك "
والمفاجأة هذه المرة لتمام الذي استقبل كلمات يونس الصريحة.. وفي هذا التوقيت بالتحديد..
" ولكنه لم يكن سوء تفاهم يا تمام..
أنــا قصــدت كســرك "
شدد على حروف كلماته الأخيرة متعمدا ليصل لأخيه مدى حقارته علّه يخرج من ثوب هذا المثالي الذي يغيظه..
ويزيده من الهِجاء بيتاً..
" تزوجتها من أجل أن أكسر صورتك وهيبتك وسط الناس..
أليس هذا سببا كافيا لجعلك ترميني خارج هذا البيت "
رفع تمام عيناه يناظر أخاه بصلابة ولم يهتز فيه شعرة..
" ولإدراكي أنك فعلت هذا من أجلي لا من أجلها يجعلني أتخطى الأمر.. إذ كونها خارج حساباتك من البداية "
والاستفهام رسم ملامح يونس.. وتوضيح الكلمات لم تتأخر..
" لو كنت أرى أنكَ تُكِن لها أي شيء ما فعلت وتزوجتها.. ولكن يقيني أنها خارج مدارك من البداية هذا ما جعلني أُقدم على تلك الخطوة "
والمنطق بكلامه أغاظه بل أشعله ليجعل عيناه تغميان عن جرحه..
" حسنا تمام لديك حق.. ولكن ما رأيك فيما مضى "
" ما هو "
وبساطة النطق جعلت شياطين الآخر تحضر ليمسك أقرب شيء بجانبه وبقوة يرميه تجاه الحائط فيتهشم صارخا بكل عزم..
" أنا أكرهك تمام اللعنة عليك "
والكلمة وإن كان تعوّد على سماعها ولكن هذه المرة كانت أشدّ وجعا.. أكثر قسوة.. وأقوى ألما..
" ظننت الأيام غيرت هذا الكره يا يونس "
همسها تمام بتخاذل وقلب بين ضلوعه يتوجع.. لوى شفتيه غير مبالي ظاهريا.. مفضوح التأثير..
" أو خفت على الاقل "
والآن.. في هذه اللحظة ولأول مرة في حياة المنبوذ يشعر بأنه حقير لم يتغير
" تمام.. لم أقصد.. أانا.. "
" أتعلم يا يونس "
قاطعه تمام متنهدا والثقل داخل قلبه يزداد وهو يرى جروح الماضي تعود للانشقاق كجرح جائش.. فائر الدم..
" لم أعلم معنى أن يكون للمرء أصدقاء إلا معكَ ومع حاتم فقط "
يدور خطوة واحدة واضعا إحدى يديه داخل جيبه..
" أنت كُنت أخي الصغير الذي تمنيت أن يكبر ليكون صديقي "
ونظرات يونس استحلفته ألا يتابع ولكنه تجاهل هذه النظرة المعتذرة وتابع..
" ولكني لم أرقَ لطموحاتك "
لينفعل يونس قائلا ملوحا بكلتا يديه..
" لأني كنت أكرهك يا تمام "
والكلمة لثان مرة كطعنة غائرة لروحه..
" منذ صغري كبرت على كرهك لأنه لم يريدني أنا وأختي..
فقط أنت.. فقط أرادك أنت "
يدور حول نفسه لعصبية متابعا..
" لم يكن يريد أبناء سواك.. وهذا ما سمعته منه وبعدها ضرب أمي لأنها واجهته تخبره أنها تريدنا إن لم يردنا هو "
يرتبك تمام للحظة وما سمعه من أخيه لم يكن يتخيله..
" أنا.. أنا لم أكن أعلم هذا "
والحقد تجلّى للحظة على ملامح يونس ومشهد الماضي يُصوَّر بخياله..
" أنا لا أصدقك "
يهز تمام رأسه قائلا..
" لست مُضطرا لتصديقي ولكني لا أكذب.. وأنت تعلم هذا "
يعلم.. يعلم ويدرك ويبصم بالعشرة على هذا..
" ولكن أتعلم أين الاختلاف يونس "
قالها تمام بجمود يتحلى به حتى لا يعود لرحى الزمن مرة أخرى..
" الاختلاف بيننا أني تصالحت مع تفسي منذ زمن طويل..
تصالحت بما معي وليس بما ينقصني.. تصالحت بكوني خارج إطار الصورة "
والانفعال هذه المرة كان من الأصغر صاحبه مهاجمة منه ممسكا بتلابيب قميص تمام..
" أي صورة أيها الأحمق "
دفعه تمام بكلتا يديه صائحا بغضب ودون إرادة منه يجد نفس يعود بالزمن..
" صورة الأسرة.. الصورة المتكاملة..
أب.. زوجة وأولاد.. أنا الدخيل يا يونس أفق لنفسك "
والمذكور تسمّر مكانه لا يتحرك بينما أخيه يسرد الأمر الواقع من وجهة نظره كطفل كبر قبل أوانه..
" أنا الخانة الزائدة والمُهدد بالخروج خارج ذلك الإطار المتكامل "
يدور حول نفسه بتيه ومازال عقله يأخذ الريادة في معايشة الوجع..
" كنت أرتعب كل ليلة أن يأتي صباح أحد الأيام وأجد نفسي خارج هذا البيت لكوني عددا زائداً "
يضيق الصغير ما بين حاجبيه والصورة تبدأ في وضع أولى خطوطها..
" كنت أفعل ما يُطلب مني قبل أن يُطلب فقط لأحافظ على مكاني داخل هذا الإطار اللعين "
ينظر له ملياً ثم يرفع أحد كفيه كقبضة ثم يفتح أصابعه تِباعا يُعدد ..
" كلمة حاضر.. نعم.. التنازل عن كل شيء.. السماح دوما للأخ الأصغر لفعل ما يريد.. وتقبل كل ما يفعله وما يقوله حتى وإن كان يصرح بكرهه لي..
فقط من أجل أن يظل مكاني موجود بينكم "
يراقب اتساع أعين الصغير بإدراك من الواضح أنه لم يخطر بباله يوماً.. ليوكد تمام على حديثه..
" هذا ما عشته أنا يا يونس بينما أنت تمردت "
يفرد كلا ذراعيه بأداء مسرحي ساخر..
" بينما أنت تمردت وفعلت ما كنت دوماً أُتوق لفعله..
ولكن ببساطة لم أقو على فعلها لأني وجدت نفسي في مواجهة مع أولويات هي أهم "
ونظرة التساؤل كانت نصيب الأصغر ليهديه الأكبر ضحكة هازئة متابعا ومدركا أن اولوياته هذه لم تخطر على بال الأصغر يوما..
" العمل والحفاظ على كيان كبير كان مُهدداً بالانهيار..
الحفاظ على مكانة الابن الاكبر والأصغر فكان عليّ القيام بالدورين لإتاحة الفرصة لكَ لفعل ما تريده "
وملامح الآخر تشحب وما جال بخاطره لا يريحه..
فأخيه ترك له حرية العيش.. حرية لم يعشها الأكبر يوما..
" الحفاظ على هذا البيت حتى لا نجد أنفسنا يوماً ملقون بالشارع أو بمكان لا يليق بنا "
كان يونس يناظر أخاه بخزي من نفسه.. خجل ربما أنه حتى في انتقامه من أخيه لم يكن يمتلك الحق..
" تمام.. اا "
ازدرد لعابه محاولا بلع غصة خزيه..
" أانا لم أنظر لها بهذا الشكل "
لوح تمام بكفه مستخفا..
" وأبداً لم تكن ستنظر لها إلا بهذا الشكل.. "
ثم هاجمه بواقع حاد بالفعل..
" أنت لم تكن تنظر أبعد من أنفك يا يونس "
وكلمات تمام أوجعت الآخر ليدافع مبررا.. غاضباً صارخا ..
" والدك هو من زرع كرهك داخلي لا تلومني "
ليجابهه تمام بصوت عال.. أشد غضبا..
" ولماذا تحاسبني على خطأ فعله هو "
ليصرخ الآخر بدوره..
" ماذا كنت تنتظر مني وأنا أعلم أنك المفضل دائما سواء بقوله أو بفعله "
وبنهاية كلماته صمت.. ليصمت العالم حوله فجأة وكأن العاصفة التي احتلتهما لدقائق انتهت..
صلب تمام طوله قائلا بصدق..
" لم أندم على تقاربنا يوماً يا يونس.. أنت أخي وستظل
مسؤولاً مني وحمايتك والحفاظ عليك مسؤوليتي.. سأظل أفعلها بطيب خاطر.. تتقبلها أم لا.. هذا يعود لك "
رمى كلماته دفعة واحدة ثم ختم قراره وإقراره بشكل قطعي لا سبيل للخلاص منه..
" ما تريد فعله أيضاً راجع لك.. تظل أو تغادر هذا راجع لك..
لن أجبرك.. فقط عليك أن تعلم أنكَ دوماً تحت عيني "
أنهى كلامه بصلابة ثم خرج دون إضافة حرفاً آخر..
خرج تاركاً الأصغر واقفا مكانه لم يتحرك..
خرج ولم يلحظ أو يرى تلك الابتسامة المرتعشة.. المتعطشة لضعف رائع.. ضعف يُحيي لا يميت..