الفصل التاسع والأربعون

1.4K 61 23
                                    

الفصل التاسع والأربعون

أحببتك مُرغماً ليس لأنكِ الأجمل
بل لأنكِ الأعمق.. 
فعاشق الجمال في العادة.. أحمق.. 

(محمود درويش) 

****

بعد مرور أيام.. 

يدور بعينيه حوله..
اشتاق للبيت ولسكانه..  منذ خرج من المشفى وهو لم يغادر البيت..  إحقاقاً للحق لم يسمح له أحد وأولهم أخاه الذي كان له بالمرصاد وشجعته زوجته بعد جفاء منها تبدد بعد رجوعه البيت وهذا أمر يسعده وهي فعلتها من أجله يدرك هذا جيدا.. 
رفع نظراته للذي أقبل تجاهه يحمل بين يديه أوراقاً ينظر بها.. ابتسم تمام لرؤيا أخيه الصغير.. العاق كما يُلقب نفسه.. 
جلس يونس بالكرسي المقابل لجلسة تمام بحديقة المنزل يعرض نفسه لشمس الظهيرة.. لم يشعر يونس بنظرات أخيه المدققة له حيث كان مستغرقا في قراءة الأوراق بين يديه.. 
" ألن تفكر في زيارة طبيب لتجميل أثر وجهك "
سأله تمام فأجاب يونس دون أن يرفع نظراته..
" لا "
ابتسامة صغيرة علت شفتي تمام فقد كان يعلم الإجابة مسبقا فلم تكن المرة الأولى التي يطلب منه هذا الطلب وكان الرد كما هو ككل مرة.. لا..
وبالنسبة ليده المصابة فقد تحسن أدائها كثيراً وخاصة مع العلاج الطبيعي الذي أجبره على تكملته تحت إلحاح منه شخصياً.. 
" علمت من حاتم ما تنازلت عنه واتفقت عليه مع الشرطة مقابل عودتي "
هذا ما علمه بالأمس فقط حين حضر حاتم ليُتما ما اتفقا عليه.. 
" ولو عاد بي الزمن لفعلتها مرة أخرى "
وأيضاً لم يرفع نظراته بل يغرق في أوراقه وكأن بها محياه.. 
ولا يعلم يونس أن ما نطقه بتلك السلاسة كانت كالبرد على نتوءات قلب المستمع والمحفورة به عمق عمره كله.. 
" يونس "
نداه تمام ليهمهم يونس دون أن يرفع نظراته.. 
" اممم "
ظل تمام على نظراته المدققة تجاه أخاه يتذكر ما قاله حاتم بعد عودته من المشفى بيومين حين أخبره بمعرفة يونس بأمر إرثه ومع ذلك لم يتحدث يونس للآن بهذا الموضوع غامساً نفسه بأمور العمل..
وتمام هو الآخر لا يريد فتح الموضوع إلا حين يبدأ يونس بهذه الخطوة..
ابتسم تمام متذكراً كلمات يونس بعد أن استفاق من غيبوبته أن حسابهما لم ينته.. لم يعلم معنى تلك الكلمات إلا حين أخبره حاتم بأمر معرفة يونس..   
" هناك مؤتمر عالمي لمهندسي الديكور هل علمت به "
قالها تمام ليخرج نفسه وأخاه من حال كل منهما ومازال يونس كما هو.. 
إجابة دون نظر.. 
" نعم " 
وتمام لم يعجبه الحال فسأل.. 
" وماذا ستفعل "
هنا رفع يونس وجهه لأخيه يناظره بعدم فهم.. 
" أفعل ماذا لا أفهم "
يميل تمام برأسه جانباً وسؤاله يخرج لئيما دون أن ينتبه يونس.. 
" ألن تسافر لحضوره "
عاد يونس بوجهه لأوراقه ثم أجاب أخاه بلامبالاة.. 
" لا سأرسل أحد من الشركة ينوب عني وانتهينا "
وهذا أيضاً لا يعجب تمام فأقر بواقع لا يرضيه.. 
" منذ فترة وأنت غائب عن عملك وهذا يضر بكَ "
رفع يونس رأسه عن الورق قائلا بابتسامة لا تكتمل.. 
" لا تقلق كله تحت السيطرة "
ثم عاد لأوراقه ثانيا فناداه تمام بفراغ صبر.. 
" يـــونس "
فينفعل يونس دون مبالغة.. 
" انتهينا تمام.. الصفقة التي نعمل عليها حاليا مهمة ولا أستطيع السفر "
ولكن تمام يعرض البديل..  
" الصفقة لن تهرب وحاتم هنا "
ويجيب يونس بعناد لا يدرك تمام سببه.. 
" الموضوع من بالبداية وهو فكرتي ولن أستطيع تركه والسفر لسبب تافه مثل حضور مؤتمر "
وحديثه بهذا الشكل تجاه عمله جعل تمام يصر على موقفه.. 
حديث يونس نفسه يثير ريبة تمام.. الضغط الذي يمارسه على نفسه طوال الوقت لتعلم أساسيات  العمل.. 
وكل ما يفعله يونس الآن يجعل تمام يفكر في احتمالين،  أولهما أن يونس يرغب برد الدين له بوقوفه جواره على أكمل وجه.. 
الثاني أن يثبت له أنه يستحق ثقته.. 
وفي كلا الحالتين هو سعيد به .. 
الآن يمكن لتمام أن يستريح مطمئن القلب.. 
" تعلم أن السبب غير تافه بالعكس حضورك المؤتمر وتعزيز علاقاتك بالموجودين سيفتح لكَ سوقا مُهماً بالتعاملات والعلاقات "
" لن أستطيع "
يجيبه يونس بشكل قاطع ممنياً نفسه بانتهاء النقاش لهنا.. 
ولكنه لا يعلم أن تمام النويري حين يريد أمراً فإنه يسعى إليه بكل الطرق.. 
" وإن أخبرتك أني سأتابع الصفقة بنفسي "
رفع يونس رأسه ينظر لأخيه.. 
" أنت لم تسترد صحتك كاملة وأنا لن أجازف بتركك والسفر "
ولكن عناد ابن النويري الأصغر لا يقارن بعناد الأكبر.. 
" أنا بخير يونس.. فترة وكل الأعراض الموجودة ستزول أنا لست
عاجزاً " 
نظر يونس لأخيه وقال آسفاً.. 
" أعتذر تمام لم أقصد ولكني لن أستطيع السفر "
" وأنا أخبرتك أن هذا طلبي "
عِناد بعِناد والبادي أظلم.. 
" لمَ هذا الاصرار على السفر "
سأله بتجهم ثم أشرقت ملامحه بمشاكسة كعادته..
  " هل وجودي أصبح ثقيلاً لهذه الدرجة وتريد التخلص مني "
ضحك تمام ثم جاراه في مشاكسته.. 
" نعم ولكني كنت مُحرجاً كيف أوصلها لكَ "
اتسعت عينا يونس بذهول مبتسم ولم يمهله تمام الحديث أو التفكير بأي شيء..  أخرج من جواره ورقا ما يمده ليونس قائلا بسيطرة وتسلط .. 
" هذه تذكرة السفر.. وهذه دعوة للمؤتمر "
وضعهما أمام يونس على الطاولة ثم دفع بورق آخر متابعاً.. 
" وهذا حجز الفندق باسمك..
ثلاثة أيام طوال مدة المؤتمر.. واليوم الرابع هو يوم عودتك لا تتأخر اكثر من هذا حتى تحضر أول أيام رمضان معنا "
ثم أضاف مبتسما بمغزى لا يعرفه سواه.. 
" وإن حدث أي شيء يجعلك تُطيل المدة لا تفعلها "
" ماذا تقصد "
يهز تمام رأسه يمينا ويسارا متخابثا بشكل مريب للجالس أمامه.. فقال مراوغاً  
" أقصد قد يلفت نظرك فاتنة شقراء فتجد نفسك غارق فيها فتنسانا بل من الممكن أن تنسى نفسك وتنسى العودة من أساسها "
تجهمت ملامح يونس بشكل مفاجئ جعلت تمام يندم للحظات على ما تفوه به ولكنه قال ما قال قاصداً ليرى رد فعله ليعلم هل ما يخطط له يستحق أم لا.. ولم يتأخر يونس في رد فعله.. 
" لم يعد يبهرني هذا الأمر "
صادق.. فتوبته تمنعه التطرق لهذا الأمر مجدداً.. ولكنه سيكون صادقاً بشكل أكبر لأن عقله وقلبه لن يقبلان بغير ساكنتهما بديلا.. 
فأضاف شارداً بنظراته كشرود صوته بخيال أخرى...
" كما أني لا يلفت نظري إلا خمريات البشرة ذوات الشعر الداكن كلون القهوة مثلا  "
لا يعلم يونس أن شروده تحول لحالمية أثناء وصفه.. وابتسامة صغيرة علت جانب فمه وكأنه يتذكر موقف بعينه عاشه متنعماً بهذا الوصف الذي حاكاه لسانه.. 
" اممم "
همهم بها تمام مبتسما بسماجة مقصودة فنشل يونس من شروده عائداً للواقع حيث لا خمرية بشرة ولا شعر داكن بلون القهوة أمامه.. 
" نعم "
قالها يونس بغلظة ليلوي تمام شفتيه مبتسماً واللؤم يزين محياه المبتسم والمرتاح.. 
" ولا شيء "
اغتاظ يونس من مظهر تمام ليلوح له بيده بلا معنى ثم يعود بناظريه للأوراق فيلتقط تمام الأوراق سريعاً مُلقياً آخر تعليماته.. 
" المؤتمر بعد يومين والسفر غداً "
ليشتعل يونس بغيظه من أخيه وسماجته التي لا يعلم لها سبباً اليوم..  ثم يقف ملوحاً بذراعيه..  
" أنا ضِقت ذرعاً من تسلطك لعلمك وإن سافرت ولم أعد فلا تلومني حينها" 
ضحك تمام مقهقها تحت أنظار أخيه.. فيقف يونس ناظراً له للحظات سعيداً بما يراه مفكراً أن أخاه يضحك وضحكاته بالبيت حياة..
" عمو "
ينشله من تدقيقه بأخيه ذلك النداء الناعم فيلتفت لها فاتحاً ذراعيه لاستقبالها.. 
" قلب عمو "
يميل مقبلاً لوجنتيها متنعما بتلك اللحظات من الصفاء والطفولة التي لا يشعر بهما سوى مع أبناء أخيه،  يونس الأصغر بل كما يلقبه
بـ (يونس چونيور) وبين ذراعي الأميرة توق كما يحب مناداتها.. 
" أميرتي الغالية.. من اشتقت لها بحجم المجرة الكونية "
بينما تمام يناظرهما وقلبه ينبض محبة لهذا المنظر الذي تخيله وتمناه كثيراً ولكنه تصنع الغيظ قائلا.. 
" الله "
صوته لفت انتباه الصغيرة لتنسل من بين ذراعي عمها منادية.. 
" بابا "
فيفتح تمام ذراعيه ملتقطاً صغيرته مقبلاً لوجنتيها قائلا بشكل مقلد لمشهد سبقه بلحظات.. 
" قلب بابا "
رفع يونس أحد حاجبيه واضعاً كفيه بخصره بشكل يوحي بعدم رضاه عما يرى..  فيراه تمام بعبوس مصطنع معترفاً.. 
" لا تنظر إليّ هكذا.. نعم أنا أغار من علاقتكما سوياً "
ينظر لطفلته ثم لأخيه متابعاً.. 
" كانت فاتن تحسدنا على علاقتنا وكنت أغيظها وها هو اليوم أتى لأكون في نفس موقفها "
ابتسم يونس وعيناه تحيدان للصغيرة التي ملكت القلب دون رادع.. ثم يشاكس أخيه يغيظه أكثر.. 
" الدنيا دوارة أخي لا تنسى هذا "
ضحك كلاً منهما وبعد أن خفتت ضحكاتهما حاصر تمام أخاه مرة أخرى.. 
" متى ستجهز نفسك لتسافر "
ليجز يونس على أسنانه قائلا من بينها.. 
" أنا لا أريد السفر أصلاً "
ثم يستقيم متوجهاً للملحق هرباً من أخيه الذي أخبره بصوت مشاكس عالٍ.. 
" ستسافر "
يلوح يونس بكفه دون أن يلتفت.. 
" أحمق "
ينعت أخيه بغيظ ولكن الأخير تابع مؤكدا بشكل أكبر.. 
" ميعاد سفرك غداً "  

قلب بين شقيّ رحى ج٣ من سلسلة والعمر يحكي بقلمي راندا عادل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن