الفصل الثالث والعشرون
" لأني أحتاج للتحدث إليك "
تبادل كل منهما النظرات للحظات كانت كفيلة لحسم كل منهما أمره تجاه الآخر..
فقد تيقن يونس أن لا غنى له عنها.. حتى و إن حاول..
حتى و إن أنكر..
حتى و إن كان ماضيه أسودا.. لا يُشرفه أبدا التحدث عنه..
أو التفاخر به..
أما هي..
فقد تيقنت من إحساسها..
أن الغرق في يونس النويري ليس سهل النجاة منه..
بل النجاة منه أمل لا تريد الوصول له..
أغمضت عيناها للحظات قبل أن تفتحهما قائلة بأمر أنعش روحه ..
" انتظرني بالداخل حتى أبدل ملابسي و نجلس في أقرب مقهى من البيت "
ابتعد عنها برأسه ثم ناظرها بعينيه و تلبسته العبثية كما هو مُتوقع..
" هذا القميص... اممم لا أعرف "
رغم عدم وضوح عبثيته إلا أنه استطاع أن يحفز أنوثتها بالإشارة لقميصها..
" ماذا به؟ "
قالتها بتحدٍ برقت معه عيناها كما تحفز جسدها بردة فعل عنيفة لانتظارها نقداً يخص قميصها البيتي المبجل..
ولكنه هدم كل توقعاتها حين مال تجاه وجهها قائلا..
" يُحفز للأكل "
و المعنى وصلها واضحا.. كاملاً..
عابثاً ..
جعل خداها يتلونان بحمرة إثارة لذيذة لا تشعر بها سوى معه..
و لم تشعرها قبله ..
يونس النويري هو الوحيد الذي أزاح عثرات روحها واحدة تلو الأخرى..
الوحيد الذي هدم كل ما حاولت بناءه خلال سنوات عمرها الماضية..
ازدرت ريقها بصعوبة ثم أزاحته عن طريقها بعد أن دفعته في كتفه ليساير حركتها مُبتسما و صوتها المتذمر يصله متبرما بأشياء لا يعلم ماهيتها..
و بعد أن ابتعدت هتفت دون أن تلتفت له..
" اذهب لتطمئن على صفا حتى انتهي "
ظل ينظر لها قليلا.. مُدركا خطورة الخطوة التي سيتخذها معها..
و لكنه لا يملك إلا أن يخطوها ..
كما هو مدرك تماماً أن أوان الرجوع للوراء أصبح من المستحيل..****
و داخل غرفة صفا كان يجلس أمامها.. على الكرسي الذي كانت تجلس عليه چود.. يناظر صفا بإشفاق..
" كيف حالك صفا ؟"
ابتسمت بامتنان فيونس حقا لم يتركهما منذ ما حدث..
حتى عملها اقترح عليها أن يقوم به و لكنها رفضت و أخبرته أنها من سيقوم به..
يونس الذي أرسل إليهما بعض من مستلزمات البيت في اليوم التالي لعودتهم دون أن يصعد ..
يونس الذي تكفل بعلاجها و لم يوافق بأن يأخذ ما صرفه من كشوفات و أدوية مخبراً إياها أنها كأخته و من غير الطبيعي أن يأخذ ما صرفه على كشف لأخته..
يونس الذي هاتفها في اليوم التالي يسألها إن كانت تحتاج لأي شيء آخر..
و كأن يونس بوجوده يعوضها عن كل شخص في حياتها كانت تحتاج إليه و لم تجده..
" بخير يا يونس "
لمعت عيناها بدموع لم تسمح لها بالظهور أكتر.. ثم تابعت..
" و شكراً لك على كل ما تفعله "
" لم أفعل شيئا.. هذا واجبي "
لا تعلم لماذا تشعر بمحاولته نكران أهمية ما يفعله.. و كأنه لا يطيق لصق صُنع جميل له..
" و القليل منك جميل يا يونس "
كلماتها التلقائية جعلته يتململ في جلسته غير راغب في سماع تلك الكلمات المادحة.. و كأنه!!..
و كأنه لم يتعود على سماعها.. و هو فعلا لم يتعود على سماعها..
يونس بما يفعله ليس مِنة منه.. بل هو في أشد احتياج لما يصنعه..
و كأنه في اشتياق ليونس آخر تمنى ظهوره طوال السنوات الماضية و لم تسمح له الظروف بذلك..
نبرة الشجن في رد صفا جعلته يستشعر وجود خطب ما..
" ألا تريدين قول شيء؟ "
و ارتباكها أكد له ظنه حيث هناك ما تداريه بالفعل.. و هو على يقين بأن مواجهتها مع الحكيم هي السبب في حزنها المرسوم على ملامحها..
" ليس هناك شيء لأقوله "
صمت قليلا مستشعرا تهربها و لذلك كان حديثه المقصود..
" أتعلمين.. لم يأت شاهر للشركة بعد عودتنا و حاولت الاتصال به خلال اليومين الماضيين و لكنه لم يرد..
حتى مساء أمس أجاب اتصالي و أخبرني باقتضاب أنه مشغول "
انسحاب الدماء من وجهها كان كفيلا بتوضيح الصورة بأن العلاقة بينها و بين الحكيم لا تتسم بالهدوء..
لا يعلم سبباً لذلك.. و لكنه كان يرجح ذلك لطبيعة الحكيم المنفرة للبعض رغم هشاشة روحه التي استشعرها بنفسه في عدة مواقف..
قد لا يكون على وفاق مع صفا.. و قد تكون صفا لا تستسيغ التعامل معه خارج حدود العمل.. هو حقا لا يعلم..
لم تجب على كلامه إذ كان لا رد لديها تجاه اختفائه..
فلقد اكتفت من الخذلان و علمت مقدار نفسها في نظره.. و هي لن تتحمل تحقيرا لها منه.. منه هو بالذات..
لقد اكتفت..
و ستكتفي بلحظات قليلة جمعتهما.. تعتقد أنها لن تنساها..
" صفا "
ناداها لينتشلها من شرودها و حين رفعت وجهها إليه وجدته يميل بجسده مستندا بمرفقيه على الطاولة بينهما..
" لو أساء لكِ الحكيم بأي شكل أستطيع التحدث معه "
انتفضت في جلستها متوترة..
" لالا يا يونس.. أرجوك.. لا تتحدث معه "
و نظرة واحدة لوجه يونس جعلتها تتيقن من الفخ الذي وضعها به يونس بسؤاله..
فتنهدت منكمشة في جلستها..
" أرجوك يا يونس.. لا تتحدث معه في شيء.. الأمر لا يستحق صدقا "
نظر لها بعمق للحظات و قبل أن ينطق.. كانت چود تدلف للغرفة هاتفة..
" لقد انتهيت "
نظر لها زوجان من العيون أحدهما بلا معنى.. قبل أن تعود و تنظر ليونس الذي كان ينظر لچود بتوق لها.. و إثارة من شكلها الرائع و الجذاب ببنطال من الجينز و سترة أنثوية باللون الأحمر.. و تحتها قميص بلون أبيض بفتحة صدر مثلثة الشكل و يزينها عقد من اللؤلؤ تتدلى منه قلادة باللون الأحمر الناري..
كل ما فيها من تفاصيل قادر على الإطاحة به بكل سهولة..
عاد بنظره إلى صفا قائلاً.. مُنهيا الحديث قبل أن يغادر بصحبة النارية..
" صفا.. أنا موجود متى احتجت شيئا"
أهدته ابتسامة باهتة.. ممتنة.. قبل أن يصلها صوت صديقتها..
" لن أتأخر.. "
ابتسمت لها صفا هي الأخرى ممتنة حقا لوجودهما بحياتها..
فإن خسرت الحكيم.. و معه قلبها..
فبالتأكيد كسبت يونس كصديق رائع.. و جود صديقتها منذ سنوات..
و رغم هذا.. و رغم الوجود..
و رغم المكابرة..
فإنها حقا وحيدة.. الوحدة ليست مادية.. ملموسة..
بل هي داخلها.. معنوية.. و يا ليتها ملموسة لتستطيع مد أصابعها لنثرها كحبات رمل ملوثة.. تبعدها عن روحها.. و لكن ما يزيد عذابها حقا أنها لا تستطيع إبعاد تلك الوحشة من داخلها..
أغمضت عيناها للحظات ثم فتحتهما متنهدة بغير راحة فالأيام أصبحت ثقيلة..
دارت بعينيها يمينا و يسارا لتقعا على مُسجل إذاعي بسيط كانت قد جلبته معها من الوطن.. فتمد يديها ناحيته تتلمسه بكلتي يديها.. تحاول تشمم ماضيها عبره.. ليس كل ماضيها بالطبع فهناك ماضٍ و أشخاص أسقطتهم من حساباتها.. دار سبابتها حول المؤشر لتديره فيصدح بعض التذبذب السمعي متسائلة داخلها هل ستجد إذاعة عربية تعمل هنا بهذه البلد أم لا..
ظلت تحاول بغير جدوى.. حتى صدحت موسيقى ناعمة جذبت انتباهها.. بل جذبت روحها لأي شيء متعلق بكينونتها..