الفصل الخامس والعشرون
بعد عدة أيام
كانت تقتحم مكتبه حاملة فنجانين من القهوة السريعة قد اشترتهما من مقهى قريب قبل أن تدخل الشركة .. فيستقبلها يونس متأففا بعد دوام اتصاله بها على مر الساعة الماضية و لكنها لم تجب..
" لمَ تأخرتِ ؟ .. "
قالها بحنق أثناء قيامه من وراء مكتبه ليخطو تجاهها فتفاجئه بابتسامتها العذبة و هي تجيبه..
" لدي مفاجأة.. "
وابتسامتها مُعدية.. وباء.. و لكنه وباء حميد يشفي و لا يضر..
" امم أهذه رِشوة حتى لا أعاقبك على تأخرك؟.. "
فتقترب هي منه أقل من خطوة كاملة تهز رأسها بشقاوة و عيناها تدوران يمينا و يسارا..
" حسناً إذاً.. هناك رشوتان "
يقطب ما بين حاجبيه فتتابع بلؤم شقي..
" أولهما هذه القهوة.. "
تضع كوب القهوة المُغطى في يده غير مُدركة لِحبسه لأنفاسه و هي تتابع..
" أعلم أنك تحبها "
نعم يحب القهوة .. و لكنه يحبها هي أكثر من هذه القهوة..
طالعها صامتاً و كل ما تفعله بعفوية يصيب قلب الطفل بداخله..
تدارك نفسه سريعا قائلا بشجن و صوت متحشرج..
" شكراً على القهوة "
ثم يتابع مستعيدا مرحه..
" و ثاني رشوة؟!.. "
" هذه "
ثم تحركت لتفتح الباب لتطل منه صفا بكامل أنوثتها و حُسنها ليهمس متفاجئا.. مذهولا..
" صفا "
و الذهول رافقه استنكار..
" لمَ جئتِ؟.. قدمك لم تشف بعد "
و بنظرة لقدمها الظاهرة من تحت تنورتها الواصلة لركبتيها..
لتزداد دهشته متسائلا..
" هل فككتها؟.. متى؟ "
لتبتسم صفا مجيبة
" بالأمس.. "
فيجيبها قائلا باستنكار..
" و نزلتِ للعمل اليوم؟.. أتمزحين؟.. ثم أخبراني "
قلّب نظراته بين الاثنتين قائلاً بعتاب ..
" لماذا لم تخبراني فكنت جئت معكما و لم أترككما في مثل هذا الموقف؟ "
لتجيبه صفا قائلة..
" الأمر لا يستدعي مجيئك يا يونس.. لقد مرت على خير..
و جئت للعمل لأني مللت من البيت و جلسته "
ليجابهها قائلا بعدم رضى..
" و لكن كان عليك الراحة عدة أيام أخرى على الأقل.. "
لتبتئس ملامحها كطفل صغير و هي تقول..
" أرجوك يا يونس.. صِدقا وجودي بالمنزل طوال ساعات اليوم بمفردي و تحمل ثرثرة چود عند عودتها كانت فوق احتمالي "
قالت آخر كلماتها بمزاح مع صديقتها التي كانت خير سند لها..
" هكذا إذاً ؟!.. "
قالتها چود باستنكار لتعلو ضحكات صفا و هي تقول ممتنة..
" أمازحك.. أنتِ هونتِ عليّ الأيام الماضية "
ثم أضافت و هي تتحرك باتجاه الباب..
" و الآن سأترككما و أذهب إلى مكتبي "
كما أضافت بنبرة لم تخل من الأمر..
" و أرجو أن تطلعاني على المطلوب مني سريعا.. "
فتوقفها چود قائلة..
" انتظري سآتي معك و أوصلك "
لتجيبها صفا دون أن تلتفت..
" چود لقد كان مجرد كسر بالقدم و ليس عجزا حبيبتي..
سأذهب بمفردي و أنتِ اشربي القهوة بصحبة يونس ثم اتبعيني.. "
قبل أن تخرج تماماً التفتت لها نصف التفاتة ملوحة بكوب القهوة..
" شكرا على القهوة "
و بعد أن غادرت استدار يونس لها متسائلا..
" لم أتت؟ "
تلوي شفتيها بلا معنى و هي تقول..
" أخبرتك أنها قد ملت.. "
يسكت للحظة يستشعر أمراً ما في مرح صفا الزائد..
افتعالها البساطة في الحوار.. أو ربما تتعايش مع وجع ما..
و لكنه نحى كل تفكيره هذا جانبا و الذي أكدته چود بقولها..
" كان الله في عونها..كنت ألاحظ اكتئابها الأيام الماضية و حين أسألها عما بها تخبرني أنها ملت الجلوس و النوم و قلة الحركة..
ففكرت أنه لا مانع من قدومها إلى الشركة ما دام الطبيب سمح لها بالتحرك.. و سنأخذ بعين الاعتبار ألا تجهد نفسها.. "
فيقترب من وقفتها القريبة من مكتبه.. قائلا بإغواء لذيذ.. مشاغب..
" امم أعتقد أن الرشوتين قد تجعلانني أتغاضى عن تأخرك.. "
فتبتسم مدركة اقترابه..
" لم تُهدم الدنيا بغيابي.. مجرد ساعتين "
ليعيد ابتسامته اللعوب.. الجميلة و الخاطفة لقلبها..
" نعم لم تُهدم الدنيا.. و لكن أنا من هُدِم .. "
مع وشوك اقترابه.. بل التصاقه بها تحركت جانبا بخفة قبل أن يصل إليها.. و هي تقول مُتهربة..
" ااا.. أعتقد أن لدي عملاً كثيراً و لابدّ أن أتحرك "
هم ليجيبها و لكن قاطعه الهاتف الأرضي للمكتب..
أشار لها بيده أن تنتظر فتوقفت تشعر بارتباك لذيذ.. و ترقب لنتيجة انتظارها له..
و حين رفع السماعة جاءه صوت موظفة الاستقبال تقول
" سيد يونس.. هناك امرأة تريد رؤيتك.. "
قطب يونس ما بين حاجبيه متسائلا..
" امرأة!!.. ألم تخبرك بهويتها؟.. "
غير واع لسؤاله الذي أشعل التحفز بأخرى تقف في الجوار
و إجابة الموظفة وصلته ..
" لا و لكنها قالت أن الأمر شخصي.. "
ردد متعجبا ..
" شخصي!! "
متسائلاً داخله أي امرأة بينه و بينها أمر شخصي؟!..
لتمنحه الموظفة إجابة و سؤالا ..
" نعم.. هل أصرفها؟.. "
" لا.. دعيها تصعد "
وضع السماعة مكانها ثم التفت للواقفة ورائه فتسأله بتوتر لم يلاحظه..
" ماذا هناك؟.. "
ليجيبها صادقا بسلاسة غير واع لحروفه المنطوقة..
" الاستقبال يخبرني بوجود امرأة تريد رؤيتي "
و صراحته أغاظتها لترفع أحد حاجبيها قائلة..
" امرأة "
و نبرة صوتها المُحذرة كانت كالضوء الذي اشتعل داخله ليدرك ما نطق كما أدرك حالتها.. فيضحك مقهقها و هو يقول أثناء اقترابه منها ..
" نعم امرأة.. "
ليتبع إجابته قائلا بزهو متفاخر مرح..
" غِيرتك أصبحت مفضوحة "
لتلاحظ اقترابه فتتراجع بتوتر و هي تقول كاذبة مدافعة عن نفسها..
" غيرة .. و على من؟.. و من أجل ماذا؟ "
ثم تحاول الرجوع الخطوة الفاصلة بينها و بين الباب و لكنه يوقفها بحزم..
" انتظري "
فتنفذ أمره طواعيةً ليستغل هو سكونها فيقترب أكثر حتى أصبح لا يفرق بينهما شيء.. بينما يده تسللت لتحط على خصرها كاحتضان أول..
" لم غضبتِ؟"
فتتلعثم من حرارة يده فوق قماش بلوزتها..
" لـ.. لم .. أغضب "
و بهالة جسده المحيطة به و بها كان يدفعها لتتراجع قليلا لتصبح بينه و بين الحائط..
كاحتضان ثانِ..
و قوله المتكاسل يخترق حصونها..
" لم.. أعهدك.. كاذبة.. يا چود "
تحاول التركيز.. حقاً تحاول الخروج من تشوشها حتى لا تفعل كارثة في حق نفسها الآن فتعترف صراحة بحبه..
لتغمض عينيها تحجب عنه و عنها تأثير نظراته التي تصيبها في مقتل..
و قولها المهزوز يخرج يائسا..
"أنت أخبرتني أنك لست خامة جيدة للعطاء..
و لذلك دعني أحتفظ بإجابتي لنفسي.. "
ليدرك حقا كل ما يحدث لها و معها و معه..
معه هو بشكل خاص.. يونس لم يستطع قبلاً البوح بمشاعره.. فالبوح الآن لن يكون بحق عظمة ما يختلجه..
ستخرج الكلمات مشوشة.. ممزوجة بضعفه واحتياجه..
هو يحتاج أن يكون قويا حتى يستطيع البوح بكل قوته..
" چود.. أريد أن أنطق بكل ما أحتاج نطقه.. و لكن.. "
يسكت للحظة مُدققا النظر لعينيها اللتين فتحتهما.. و قوله الضعيف خرج من أعماق قلبه
" لم أعهد نفسي بهذا الشكل.. "
شعرت بيده تحتضن وجنتها برقة دغدغت أنوثتها.. ليُعلَّن الاحتضان الثالث..
و قوله الصادق يخرج من بين حنايا قلبه ليصيب قلبها هي..
" أنا لا أتخيل حياتي دونك .. ثقي بذلك.. "
بإبهامه يملس على وجنتها يحاول تشتيت نفسه بكل قوته حتى لا يُبلغها كلماته أفعالا لا كلاما ..
" أنا أحب ما أكونه معك و بجوارك يا چود لا تُقللي من هذا الأمر.. "
و عيناه تنتقلان بين شفتيها المنفرجتين و عينيها المتسعتين بإدراك لما يريده.. و كأنها تخبره صامتة باستعدادها لِغزوه..
و قوله المتمم جاء ناعما..
كسولا..
مُفعماً بالوعود..
" فكان من المستحيل أن أمنح روحي لأحد.. و كان هذا عهدي لنفسي.. و لكن أنتِ.. معك أنتِ.. نسفتُ كُل عهودي.. "
طالت النظرات بينهما.. و نظرات كل منهما تبوح بما يعجز عنه اللسان..
" هل أُقاطع حديثاً ما؟ "
انتفض كل منهما على الصوت الذي قاطع لحظتهما الخاصة..
و الذي يحفظه عن ظهر قلب.. التفت برأسه تجاه صاحبة الصوت بجمود آلي.. هامساً دون وعي ..
" ريتا "
لتخترق همسته قلب أخرى بوجع لا يُحتمل..
لتتقدم ريتا خطوة و عيناها لا تبارحان چود الواقفة و كأنها تنتظر نفيا لوجود تلك الدخيلة و لكن صوتها الناعم..
" كيف حالك يونس؟.. "
أكد لها وجودها..
" أعتذر عن دخولي و لكن الموظفة أخبرتني أنك في انتظاري.. لم أكن أعلم أنك مشغول "
و التهكم في صوتها جعل الأخرى تفيق فتتحرك بتوتر قائلة ..
" ااا.. سأذهب إلى مكتبي "
و خرجت تحت أنظار الواقفة..
أما يونس فلم تنزح نظراته عن ريتا الواقفة بارتباك..