الفصل السابع عشر
" و لماذا أعاقبه وأنا من أخطأت؟.. "
تقترب دلال خطوة أخرى..
" لمَ أعاقبه و من الرحمة الرفق بمن أخطأ..
فما بالك بمن لم يُخطئ ؟"
تقترب والدتها تلك المرة قائلة بعدم فهم..
" ماذا تقصدين؟ "
تطالعها دلال بسكون قليلا ثم تفصح أخيراً..
" قاسم و تسنيم "
لتتجعد ملامح والدتها بنفور قائلة..
" لا تذكري هذا الموضوع "
تتابع و هي تخطو لداخل الغرفة..
" لن أُزوج ابني لفتاة والدها سارق "
فتنهرها ابنتها..
" أمي.. اتقي الله.. "
فتتجعد ملامح الأم بغضب.. وتعنفها..
" أتقولين لي أنا اتقي الله؟.. أكل هذا من أجل
خوفي على أخيك "
ثم رفعت سبابتها في وجه ابنتها قائلة..
" أخبريني لو رزقه الله بأولاد منها ماذا سيخبرهم عن جدهم "
لم تجبها دلال للحظات متسلحة ببرود.. و هدوء علها تمتص نقمة والدتها.. و أخيراً واجهتها دلال بثبات..
" سأخبرك أمي.. و لكن أخبريني قبلا.. ماذا سيكون رأيك لو كنت أنا مكانها ؟"
تتقهقر الأم قليلا و كأنها لا تفهم وجه المقارنة.. ثم تقول ببديهية مقررة..
" و لكنك لست مكانها "
فتجابهها دلال بتوضيح أكبر..
" حسنا أمي.. فلنأخذها من محمل آخر.. ماذا سيكون رأيك لو حاسبني جاسم على خطأ قاسم؟ "
ثم تزيد..
" على خطأ جابر "
و تزيد أكثر..
" على خطأ أبي و خطأك في دلالكما لقاسم و عدم حسن تربيته و توجيهه "
فتقاطعها أمها برد قاطع..
" و ما ذنبك في كل هذا؟.. لمَ يعاقبك ؟"
فتقاطعها دلال
" و ما ذنب تسنيم يا أمي؟.. لمَ تحاسبينها على شيء ليس لها يد فيه؟ "
فتعاند والدتها أكثر قائلة..
" و لكنه والدها "
زفرت دلال أنفاسها بيأس ثم قالت..
" ستؤلمين قلب ابنك يا أمي "
تقترب خطوة أخرى من والدتها ثم تتابع..
" لم نكد نسعد بعودته لنا حتى تقفي الآن في وجه ما يريد "
تراقب زيغ عيني والدتها فتدرك أنها تقارن بين ما مضى و ما عليه قاسم الآن..
" تسنيم لها الجهد الأكبر لعودة قاسم لما هو عليه الآن يا أمي.. فلا تقفي في وجه سعادته ثانية حتى لا تخسريه مرة أخرى "
****
عودة للخارج
وصلت الحافلة لمكان التخييم.. كانوا يظنون أن المكان لا يتعدى كونه غابة و لكنهم فوجئوا بكونه شبه جزيرة غنّاء..
و كأنها قطعة من الجنة..
و يتوسط شبه الجزيرة فندق فخم.. حديث الطراز.. دافئ العطاء..
حميمي الإحساس..و بعد وقت قضوه في التنسيق مع الفندق من حيث الأوراق و الإقامات..
لم يلحظوا يونس الذي اتجه لموظف الاستقبال و الذي سيقوم بتوزيع الغرف و همس له بشي ما في أذنه جعل ملامحه تبتهج.. و يرفع له علامة تنم عن
( تم )..
عرفوا أثناء توزيعهم على الغرف أن هذا الفندق تم تصميمه من قبل شركة أندرو و الذي كان سَبْقا فريدا من نوعه إقامة فندق في مكان لا يصلح سوى للتخييم.
فهذه هي الفكرة.. بديل الاستقرار في خيم سيستقرون في فندق في نفس المكان مع كامل الرفاهيات..
فذيع صيت الفندق من هذا المنطلق..
و أصبح أشهر مكان للسياحة في تلك البلد..
تحرك شاهر بصحبة يونس و من أمامهما چود و صفا يصحبهما موظف ليدلهما على غرفتيهما..
و أمام غرفة معينة وقف الجميع ليقول الموظف مشيرا لچود ببطاقة ممغنطة قائلا بأجنبية.. مبتسما مما أثار غيظ أحدهم..
" تلك غرفتك آنسة چود "
مدت چود يدها تبادله ابتسامتها و قالت ببديهية لصفا..
" بالتأكيد تلك ستكون غرفتك "
و أشارت للغرفة المجاورة.. ليفاجئهم الموظف جميعا ( ماعدا واحد)..
قائلا..
" للأسف تلك ليست غرفة الآنسة صفا.. هذه ستكون للسيد يونس "
ليبتسم بانتصار تحت نظرات چود المغتاظة..
و لكن هناك آخر يقف بترقب منتظرا لدوره.. و لم يتأخر الموظف قائلا و مشيرا لغرفتين بنهاية الرواق..
" و تلك غرفة الآنسة صفا.. "
ثم زاد توضيحا أربك إثنين..
" بجوار غرفة السيد شاهر "
ظل كلاهما ينظران لبعضهما للحظتين.. أو ربما دقيقة قطعها شاهر قائلا بفظاظة كارها كل الظروف التي تضعه دائما بجوارها وكأن كل الدنيا متحالفة ضده و مقسمة أن تذيقه جحيم القرب المُحرم..
" أين مفتاح غرفتي؟ "
أخرجه الموظف من حاوية مطبقة و مطبوع عليها إسم الفندق ثم وجهه لشاهر الذي اختطفه و سار تجاه غرفته متمتما بكلمات غير مفهومة لأذن الواقفين..
أخذت صفا مفتاح غرفتها ثم ودعت چود مؤقتاً على وعد بالالتقاء بالأسفل بعد نيل قسط من الراحة ..
" ما رأيك ؟"
همسها يونس ليقاطع التفاتها قبل أن تدلف لغرفتها.. فنظرت له ببساطة و كأنها تنتظر أمرا جديا سيقوله.. و لكنها مخطئة للمرة الألف حين مال مستندا بكتفه على جدار غرفتها بشقاوة قائلا بعبث..
" ما رأيك أن نضم الغرفتين لبعضهما؟ "
رفعت أحد حاجبيها بعدم اقتناع و تجاهد في عدم خروج ابتسامتها..
" و لمَ سنفعل ذلك؟ "
يلاعب مفتاح غرفته بين أصابعه ثم يقول بتمنن و كأنه يعرض خدمات فائقة..
" حتى أشعرك بالونس و لا تشعرين بالغربة "
و هنا لم تتمالك نفسها لتضحك فتسلب ضحكاتها لبه و تجعله يريد كتم ضحكاتها الرنانة بطريقة فعالة.. فعالة للغاية..
هدأت ضحكاتها ثم مدت يدها للباب فتحته و قبل أن تدلف كليةً قالت و مازالت ابتسامتها عالقة على شفتيها..
" اكتشفت أنك خدوم للغاية يا يونس "
ليقترب منها أكثر قائلا.. و مضيقا عينيه بعبث واضح و مقروء بسهولة..
" أنا في الخدمة دوما "
صدحت ضحكاتها ثانية ثم دلفت للغرفة و قبل أن تغلق الباب همست من بين ضحكاتها..
" أنت غير معقول يا يونس "
ثم أغلقت ليهمس هو ضاربا الحائط بقبضته..
" اللعنة عليك يا يونس.. "
ثم يضيف عاضا على شفته السفلى بمغزى وقح..
" ستطير عقلك بكل تأكيد "
*****
دلف شاهر لغرفته.. و بعد دقيقتين وصلت حقيبته..
سرعان ما أفرغها ثم بدأ في الشروع بنزع ملابسه و أثناء ذلك تلمست يده فراشتها..
( فراشة الفراشة )..
تنهد بثقل يجثم فوق صدره شاعرا بكل بؤس العالم..
ظل يتطلع للفراشة بين أصابعه طويلا و كأنه يستجديها النطق بأي حل لمعضلته..
ابتسامة باهتة ظللت جانب شفتيه بمجرد مرور خاطر كونه سرق فراشتها..
شاهر دويدار العظيم سارق فراشات..
يا لها من نكتة حمقاء كحمقه لم يكن يصدقها طوال حياته..
و لكن ها هو يصبح و بكل بساطة سارق فراشات..
قطب ما بين حاجبيه بضيق و مرور خاطر مشابه إلى حد ما بباله..
متسائلا داخله بتهكم..
( ألم تسرق قبلا يا شاهر؟)
و لأن السؤال مزعج لنفسه و لكرامته و الإجابة عليه مؤلمة حد الموت أغمض عينيه صارفا هذا الخاطر و لو مؤقتا..
فتح عينيه ثم مد أصابعه تجاه مرآة غرفته واضعا الفراشة عليها لكي يناظرها في كل وقت..
توجه لحمام الغرفة لينال حماما هانئا عله ينعش روحه.. و يترك كل الأفكار المتخبطة التي تدك رأسه كطول حرب منذرة ..
وقف تحت شلال المياه المتدفق من الصنبور العالي..
وجهه مستند على الجدار اللامع.. البارد..
يلتمس البرود من أي شيء.. و كل شيء..
علّ ناره تنطفئ..
أو تهدأ..
و لكنها لا تنطفئ..
ولا تهدأ..
أغمض عيناه و عقله يأبى له السكون ليعود به لنفس الخاطر الذي نحاه جانبا منذ قليل مقسما له ألا ينعم براحة..
و ذكرى مريرة.. ذكرى أصابت رجولته في مقتل ترفرف بين حنايا عقله لتذكرة بأبشع ما مر به..
كان في أوائل الثلاثينات.. و رغم دراسته و رغم عمله الذي يعمل به بالصباح كمهندس في شركة صغيرة.. و لكن للأسف لم تكن تكفي احتياجاته ماديا..
و خاصة مع ظروفه التي تمثلت في علاج زوجته المُكلف للغاية..
و من أجل ذلك كان يعمل ليلا في أحد المطاعم الكبيرة و الفخمة.. و كان في تلك الليلة تقام حفلة لكبار رجال الأعمال.. و لفيف من رجال الدولة..
شعر بهاتفه يهتز بجيب ملابسه كنادل في المكان..
فأخرجه بلهفة ناظرا يمينا و يسارا ليرى هل لمحه أحد رؤساء المكان أم لا.. و حين تأكد من انشغال الجميع..
توجه لأقرب ركن منعزل ثم فتح الاتصال بلهفة.. قائلا..
" حبيبتي هل أنت بخير ؟"
ثم أضاف متابعا لهفته..
" هل تشعرين بشيء؟ "
فيأتيه صوتها المتعب قائلاً..
" أشعر بالجوع الشديد يا شاهر.. متى ستأتي؟ "
فيرق قلبه و يتفتت من أجلها ثم يهمس مواسيا..
" تحملي قليلا حبيبتي.. سأحصل على مرتبي اليوم و سآتيك بالطعام الذي تريدين "
فتبتسم و كأنه يراها ثم تقول..
" لا تنسى مثلجات الفانيليا "
يغمض عينيه داعيا الله أن يشفيها له.. و من أجله.. فلم يعد له سواها..
بعد أن توفيا والداه فلم يعد له غيرها..
هي و فقط.. زوجته و حبيبة عمره..
" لن أنسى حبيبتي.. لن أنسى.. "
ثم يضيف متعجلا..
" سأتركك الآن لأن لدي عمل "
فيأتيه صوتها المعلول.. و لكن لأذنيه كان أحلى و أرق الأصوات التي سمعها بحياته..
" حسنا حبيبي.. سأنتظرك "
أغلق الاتصال ثم ذهب لعمله يؤديه بتفانِ.. و كل كيانه مترقب للحظة التي سيتحصل فيها على راتبه حتى يعود إليها بالطعام و كل ما تطلبه و تريده ..
ليس مهما أبدا أنه يعمل كنادل حتى و هو حاصل على شهادة عُليا فالأهم من هذا.. أن يلبي ما تحتاج هي إليه..
بعد مرور أربع ساعات كان هو و زملائه يقفون مصطفين أمام مدير المطعم الذي يقف بعنجهية.. و غرور يملآنه بكل تبجح..
" سنؤجل الراتب لغدٍ.. أما اليوم فستنتهون من التنظيف الكامل.. "
ليقترب شاهر خطوة قائلا برجاء لم يخل منه صوته..
" و لكن.. أنا.. أحتاج للراتب اليوم.. الأمر ضروري "
ليقترب مدير المطعم منه وقد استبدت به صلافته..
" هل تعارضني أيها الأحمق؟ "
يجز شاهر على أسنانه مبتلعا غضبه فقط ليحصل على مراده..
من أجلها..
" العفو.. و لكن.. أحتاج الراتب من أجـ "
و لم يكمل شاهر كلامه فيقاطعه الرجل صائحا..
" قلت ما عندي.. فالراتب ستستلمونه غدا "
ثم تحرك من أمام الرجال المتطأطئين لرؤوسهم بعجز.. بحاجة.. بقلة حيلة..
و ألف سؤال يدور برأسه.. و أولهم..
(من أين سيطعمها الليلة؟ )
(وهل ستنام دون طعام إن لم يتحصل على مال ليشتري لها ما تريد؟)
أغلق عينيه مستغفرا ثم توجه لصالة المطعم مع زملائه..
قاموا بتنظيفها و بعدها توجهوا للمطبخ لتنظيفه كما أمر صاحب المكان..
و حين التفت.. حطت عيناه على ما تبقى من طعام الحفل و الذي سيكون مصيره القمامة..
التفت حوله يمينا و يسارا.. ثم توجه للطاولة المرصوص عليها الأطباق مقررا بلحظة واحدة ..
فمد يده ملتقطا بعض من الطعام الموضوع و عقله يعطيه الحل بأنه سيخبئه بين ملابسه حتى لا يراه أحد..
و لكن كل هذا ذهب هباءً حين سمع صوت صاحب المكان من خلفه..
" أترك ما بيدك و غادر المكان أيها السارق "
تسمر مكانه للحظات محاولا استيعاب الموقف الذي وقع به..
ازدرد ريقه مُقررا الحديث باللين و توضيح الموقف.. فالتفت بهدوء ظاهري بعد أن ترك ما بيده..
" أنا لم أتعمد السرقة.. "
ليأتيه الرد الساخر مكابرا..
" حقا "
ثم يضيف بعد أن أشار للطعام ورائه..
" و هذا الذي كان بيدك و خبأته بين طيات ملابسك .. ماذا كنت ستفعل به ؟"
والتتمة المستهزئة جعلت قرار الهدوء يخبو..
" أم انها خبأت نفسها بمفردها ؟"
ليتحرك شاهر بهجوم غير مدروس تجاه مدير المطعم قائلا من بين أسنانه..
" أخبرتك لم أقصد.. كنت أريد طعاما لزوجتي المريضة و أنت من أخبرنا أن الراتب سنستلمه غدا.. فماذا كنت سأفعل؟ "
كان شاهر يضغط على رقبة الرجل بدون وعي..
و دون سيطرة حتى أنه لم يشعر بجحوظ عيني الرجل الذي بدأ صوته في الضعف و لكن شهقة هواء قوية أبادت هذا الضعف حين وجد شاهر نفسه بين أياد كثير من رجال أمن المطعم و الحرس الشخصي للمدير..
و أخذت تتقاذفه الأيادي بتجبر.. دون أخذهم رحمة به أو شفقة عليه.. و بلحظة فاصلة شعر بنفسه يُحمل بين تلك الأيادي مرميا بقسوة على الأرض الصلبة أمام المطعم..
و ضربات من أقدام لا يرى أصحابها تضرب جسده بقوة..
و فجأة خفتت الأصوات لتختفي كلية
و بعد دقائق قضاها شاهر في محاولة ألا يموت.. فحافظ على تنفسه..
سمع صوت باب المطعم يُفتح و وقع أقدام تقترب من موضعه..
ثم أجفل و شخص ما يجثو تجاهه و صوت خشن يقول بعد أن ربت على كتفه..
" لو أردت تعال لهذا العنوان "
ثم وضع بداخل جيب قميصه بطاقة تعريفية.. و التي لم تكن سوى لصاحب الملهى..
و تلك كانت البداية لخسائر أكبر..
فرغم المال الكثير الذي كان مردود عمله في الملهى لمدة سنتين كحارس أمن و لكن في المقابل كانت حالة زوجته الصحية في تدهور أعنف..
عند هذا الحد من التفكير وجد نفسه يضرب جدار الحمام بقبضته ضربات متتالية و لم يدر بالدم الذي نفر عن جرح أصاب ظاهر كفه دون أن يعي..
****
خطت لداخل منزلها بتحفز سرعان ما تبدد حين وجدت زينب ترتمي بين أحضانها شاهقة ببكاء قائلة من بين شهقاتها..
" يا الهي كنت سأموت قلقا عليك يا سِت دلال.. "
ربتت دلال على ظهرها بمودة و عينين دامعتين..
" إهدأي يا زينب.. أنا بخير كما ترين "
ابتعدت زينب عن ذراعي دلال معتذرة بحرج..
" آسفة لانفعالي.. و لكن منذ مرضك و سقوطك أمام أعيننا و أنا سأجن و أطمئن عليك "
ابتسمت لها دلال و داخلها يشعر بالخري من تلك اللحظة التي لن تنساها ما حيت..
" لا تأسفي يا زينب.. أنا الآسفة لقلقكم هذا "
و كأنها نسيت للحظة أن لا أحد هنا يعلم سبب ما حدث فتداركت نفسها سريعا موضحة بارتباك..
" أعني إهمالي بطعامي "
و بالتأكيد هناك من لم تنطل عليهما تلك المحاولة.. و اللذان كانا..
الشيخ جاسم.. و العاملة التي كانت سببا مباشرا لما حدث لها..
قلبت نظراتها بين الموجودين حتى وجدتها في جنب للصالة تقف و تتبادل معها النظرات الآسفة فابتسمت لها متسامحة فرغم كل هذا كان يجب على دلال.. هي.. المتعلمة..
أن تحكم عقلها لا أن تنساق وراء تجارب عقيمة ..
أجفلت عندما شعرت بيد جاسم تفرد على ظهرها بدعم لها قائلا بصوت ثابت رغم تأثره بالموقف الذي حدث تحت نظراته منذ دقائق..
" هيا.. فلتسلمي على أبي و بعدها تنالين قسطا من الراحة "
ابتسمت مع ذكره لوالده..
فهي حقا تعشق هذا الرجل كعشقها لوالدها..
و صوت جاسم يأتي و كأنه قرأ حديثها لنفسها..
" أبي يحبك و دائما يقول لو كان لدي ابنة لما كنت أحببتها كما أحب دلال "
ابتسمت تجيبه هامسة..
" و أنا أيضا أحبه "
ابتسم لها بدعم ثم خطى بصحبتها لداخل الغرفة التي تضيء بإضاءة هادئة..
و الدفء يتخللها..
و صوت حماها الهامس بتلاوة القرآن يجعل الغرفة تمتلئ بنور الكلمات التي تتلى..
طمأنينة .. دفء..
راحة غريبة تشعرها هنا بين جدران تلك الغرفة..
احقاقا للحق ليست الغرفة فقط..
بل البيت كله..
" أهلا بالمشاغبة؟! "
لم تشعر بتوقف حماها عن القراءة إلا حين شاكسها بكلمتها..
و من نظرة عينيه أدركت أنه يعلم ما حدث..
يعلم سرها الذي لا يعلمه أهلها..
اغرورقت عيناها ثم خطت أكثر لداخل الغرفة ثم خطوتين سريعتين آخرتين تصل بهما لحماها الجالس متربعا فوق أريكة عربية و أمامه المصحف مفتوح على حامله الخشبي..
انحنت تقبل رأس الرجل بتوقير.. ثم ظهر أحد كفيه و بالكف الآخر ربت على رأسها بأبوة خالصة قائلا بصوت أجش..
" أنرتِ بيتك يا ابنتي "
تبتسم من بين دموعها قائلة..
" أدام عزك و وجودك لنا يا أبي.. كيف حالك و حال صحتك ؟"
فيشاكسها متذمرا بتصنع..
" و هل تهمك صحتي حقا؟.. و ها أنتِ تغيبين عن البيت كل تلك الفترة مدركة أني لا أتناول دوائي إلا منك و لا طعامي إلا بصحبتك "
تبتسم من بين دموعها و تقول معتذرة..
" سامحني يا أبي.. و لا تقسو عليّ بعتابك هكذا لا أقوى على حزنك مني "
يعيد تربيته على رأسها قائلا بتسامح.. و حكمة..
" لست حزينا منك يا دلال.. بل حزينا لضعف تسرب لقلبك فجعلك تخطئين و تنكرين ما تملكينه معرضة عن تقبل ما يعطيه لنا الله "
للمرة التي لا تعلم عددها تشعر بالخزي من نفسها.. فكلمات حماها ليست سوى تأنيب لطيف رغم قوته و شدته على قلبها إلا أنه أصاب هدفه جيدا..
" لا أعلم إن كان كلامي سيشكل فارقاً معك أم لا و لكن دعيني أخبرك أن البيت لم يكن له روح بغيابك "
زادت دموعها داخل مقلتيها تأثرا بما قال و شاركها بالتأثر الواقف مستندا على حافة باب الغرفة و الذي قال متذمرا بتصنع..
" لقد قلت كل الكلام الحلو الذي من المفترض أن أقوله أنا لزوجتي يا أبي.. أين سأجد مثل كلامك أخبرني؟ "
ثم أضاف ملوحا بيده..
" و هل ستصدق هي أي كلام لي بعد تغزلك بها ؟"
ضحك ثلاثتهم بينما قال والده بشقاوة..
" و هل تساوي بين كلامي و كلامك يا ولد ؟"
ضحك جاسم عاليا قائلا من بين ضحكاته..
" يا شقاوتك يا أبي.. بالتأكيد كنت تمطر والدتي بتلك الكلمات فلم تتحمل عذوبتها فتوفيت من فرط الجمال "
ضحك الجميع بينما الشيخ عثمان قال موبخا..
" تهذب يا ولد.. و هيا خذ زوجتك لترتاح قبل أن أدع الحديث لعصاي تلك المرة "
فيتصنع جاسم الذعر قائلا و هو يرفع يديه باستسلام ..
" السماح يا حاج.. هيا دلال قبل أن يتهور الشيخ و تضيع هيبتي على كبر بين الناس "
استقامت مبتسمة بينما داخلها يشعر بشيء من الحزن
عما كادت تفرط به..
****
دخلت لغرفتها بشوق لم تكن تتخيله..
لم تكن تعتقد أن تلك الغرفة ستحبها بهذه الطريقة..
لم تتخيل أن تكون ملاذها.. و موضع راحتها..
شعرت بدخوله فالتفتت له لتراه يضع حقيبتها على الأرض..
ظلت النظرات بينهما للحظات و كل منهما يبلغ الآخر بما قاساه في بعد حبيبه..
راقبته يتحرك لداخل الغرفة مغلقا الباب ورائه و لم ينبس ببنت شفة...
فلم تتأخر هي ..
هذه ثاني مرة تغيب عن غرفتها بسبب غبائها..
كم مرة قضتها في بيت أهلها و لكنها لم تغب أكثر من يومين.. لأن جاسم لا يسمح بغيابها أكثر من ذلك..
أما هذه المرة فهو من أرسلها راغبا في عدم وجودها..
و أيضا بسبب خطأ منها..
دمعت عيناها و هي تراقب وقفته الجامدة.. مدركة بزوال القناع الذي رسمه أمام والده..
تعلم أن مواجهتهما ببيت والدها لها بقية..
فمازالت ترى لمحة الألم داخل عينيه..
لقد اشتاقت..
اشتاقت له حد الجنون..
" ألن.. تقول شيئا ؟"
همستها بتبعثر كتبعثر قلبها و روحها في حضرته.. تحرك خطوة و من اتجاهه علمت أنه سيتجاهل وقفتها.. و بالفعل توجه ليجلس على أريكتها الأثيرة.. و التي كانت رفيقتها لأيام في بداية زواجهما حتى صدر فرمانه الملكي بعدم النوم على تلك الأريكة التي تبعدها عنه..
ليعاتبها صوته ثابتا..
" ألديك أنت ما تقوليه؟! "
اقتربت لتجلس بجواره متمسكة به.. و قد بدأت دموعها بخزلانها..
" ألن تسامحني؟ "
لم يجبها و لم تنتظر هي ردا.. فتتابع..
" أريد تعويضك عن كل شيء.. أريد أن أكون لك كل شيء.. "
ظل يتابع انهيارها بقلب يتألم و لكنه لم يفصح عن ألمه هذا..
أفلتت يديها تبتعد عنه و قالت متذمرة.. و البؤس يطبع ملامحها..
" أريدك أن تشعر بي.. بحاجتي.. برغبتي التي سعيت لتحقيقها "
فانتفض ملسوعا من جوارها.. ينظر لها من علو.. و قال ملوحا بيديه بلا معنى..
" رغبتك.. "
نطقها بذهول.. ثم تابع..
" ألا تدركِين أنها رغبتي أيضاً ؟"
و كانت جملة خاطئة في غير موضعها لا مقاماً ولا مقالاً ..
طالعته بروح ميتة.. و تابع كلامه دون أن يلاحظ ما سببته جملته..
" سعيتِ بطرق خاطئة يا دلال.. زرنا طبيبا و أخبرنا أن ليس هناك شيء خطأ و علينا الانتظار فترة و إن لم يحدث سنلجأ للمحاولات الطبية.. إذا لم العجلة.. لم الخطأ إذا كنا سندفع ثمنا لوقوعنا به؟ "
قال جميع كلامه بحرقة.. ودفعة واحدة..
مما جعلها تندفع واقفة لتتمسك به و دموعها تحكي معاناتها..
" أقسم لك أنني لم أفكر.. أنا فقط تعلقت بقشة المُريد.. "
اندست أكثر بين ذراعيه هامسة برجاء..
" سامحني أرجوك.. "
تتمسك بوجهه بإحدى يديها قائلة..
" اشتقت لك فلا تقسو عليّ.. يكفي ما عشته ببعدك "
فيتقهقر عتابه..
و يتقهقر غضبه..
و يتفتت جموده أمام بهاءها.. حُسنها.. و دلالها..
يحتوي وجهها بين كفيه هامسا لعينيها..
" لم يكن هناك قسوة أشد من بُعدك عني..
من نومي وحيدا على فراش كنت أنعم فيه بك..
من دوراني بكل مكان احتواك لأتلمس أثرا لك من هنا أو هناك..
من شوووووق يفتك بي فتكا رغبة في وصالك "
تترقرق دموعها حبا.. و شوقا.. فتقترب هي من شفتيه تطبع قبلتها قائلة..
" أحبك حبيبي.. أقسم أني أحبك و على استعداد لفعل أي شيء لإسعادك "
جملة عابرة قيلت.. و لكنهما لا يعلمان أن تنفيذها مازال داخل حيز التفكير..
****
قبيل الفجر
استيقظ جاسم على رنين هاتفه بشكل مزعج..
مد يده ممسكا به من على الطاولة الصغيرة الموضوعة بجوار الفراش..
و لكن كل انزعاجه تبخر حين قرأ اسم تمام النويري.. فتح الاتصال هاتفا بذهول مدركاً أن تمام لن يهاتفه في هذا الوقت إلا لأمر جلل ..
" تمام.. ماذا هناك؟ .. هل أنتم بخير؟ "
فأتاه صوت تمام القلق.. و الآمر بشكل قطعي..
" فاتن تعاني آلام الولادة.. و سنذهب حالا للمشفى.. وافني إلى هناك أنت و زوجتك فهذا هو طلبها "
تملك القلق منه.. و لكنه هدأه متحركا بالفعل..
" سنكون عندك بأسرع وقت "
هم لينهي الاتصال و لكنه نادى بوجل..
" تمام "
لم يصله رد.. عالما بشعور صديقه الآن فتابع مطمئنا..
" ستكون بخير.. ثق بالله "
و تمتمة خافتة.. متحشرجة وصلته قبل أن يغلق..
" و نعم بالله "
تحرك تجاه النائمة بكسل و كأنها لم تكن تنام ببيت أهلها..
همس مناديا..
" دلال "
همهمة خافتة.. ناعسة وصلته ليبتسم متذكرا ما حدث بينهما بعد اعترافها بحبه بهذا الشكل الذي ملك قلبه.. الغبية لو تدرك كيف تستحوذ عليه و على كيانه لم تكن لتتعب نفسها في التفكير في هذه الترهات العقيمة و التي لا جدوى لها..
" دلال استيقظي "
قالها بصوت أعلى قليلا جعلها تفتح عينيها مدركة وضعها.. و ندائه..
و صوتها المتسائل.. الناعس يهتف..
" جاسم.. ماذا هناك؟ .. كم الساعة؟"
ليجيبها و هو يتناول منشفته دالفا للحمام و هو يقول..
" لم يؤذن الفجر بعد.. و لكن تمام هاتفني و أخبرني أن فاتن داهمتها ألآم الولادة و سيذهبان للمشفى و طلب حضورنا بناء على رغبة فاتن "
" يا الهي "
همستها ببكاء.. جعلته يتسمر مكانه ثم التفت لها و داخله يكاد يموت قلقا من أجل خوضها لتلك التجربة و هي بهذا الضعف..
اقترب منها ثم جلس بجوارها..
" لماذا تبكين ؟"
لتنظر له و عيناها تغرقان بدموعهما..
" خائفة عليها "
ليتنهد داخله شاعرا بالراحة أنها أول ما فكرت فيه كان صديقتها..
ليبتسم ممسكا بكفي يديها..
" ستكون بخير.. "
ثم يقف ساحبا لها معه.. متابعا حديثه..
" و الآن هيا حتى لا نتأخر عليهما "
و خلال ساعة كان يقف بصحبة تمام أمام غرفة العمليات منتظرين خروج فاتن و جنينها..
و في ركن أبعد قليلا تقف دلال تحاول التماسك رغم أن لسانها يبتهل من أجل صديقتها..
و تشارك عيناها بدموع صامتة خوفا على الصديقة الوحيد التي تملكها..
و تمام كان حاله غير الجميع.. فالجميع يدعي..
و هو يبتهل..
يكاد يخر راكعا لله الآن و في هذه الردهة داعيا أن يردها له..
لن ينسى مظهرها ما حيى..
صراخها من الوجع..
سمع صوتا مؤازرا جواره ..
" اهدأ يا تمام.. ستكون بخير "
لم يستجب تمام لتلك الكلمات .. و قلبه يكاد ينخلع على من ترقد بالداخل تلد طفلته..
يا الله.. أي رعب يعيشه..
لقد استيقظت تصرخ من الألم.. و لم يكن أمامه سوى أن يأتي بها للمشفى..
بعد وقت أخبروه أنها حالة ولادة..
و ها هو ينتظرها و لم توافق على دخول العمليات قبل أن تؤكد على طلبها بان يهاتف صديقتها لتكون موجودة..
يعلم أن تعلقها بصديقتها زاد في الفترة الماضية خاصة بعد تأخر حمل الأخرى و تعبها..
و لذلك جاراها فيما طلبت..
و ها هو الشيخ جاسم يثبت وجوده.. و شهامته.. و لم يتأخر..
جاءه صوت الشيخ مطمئنا..
" بإذن الله ستطمئن عليها.. و ستكون بخير.. "
أومأ له تمام بشرود..
و عقله ليس مع (سواها)..
خاصة و هو يتذكر شحوب وجهها قبل الدخول للعمليات.. و عيناها باكيتان..
تنظران له باستجداء.. تخبرانه العديد و العديد من الكلمات الغير منطوقة..
و قبل أن تدلف كليةً لداخل الغرفة.. أوقفته قائلة..
" إذا أصابني مكروه تذكر دائما أنني أحبك.. "
ثم تضيف..
" لم أحب سواك "
فينتفض قلبه ملتاعا.. ثم يميل على جبينها يقبله.. هامسا بنبرة صوت مرتعشة.. مرتجفة.. متوسلة لها البقاء له..
" و أنا.. أنا لم أعرف الحب سوى بين يديك.. "
ثم يبتعد ناظرا لعينيها.. متمتما بإيمان..
" ستعودين.. و سأنتظرك "
و ها هو يموت انتظارا..
صوت بكاء منمنم آتي من جهة الباب جعل الواقفين يتحفزون بأجسادهم و تفكيرهم..
و رهبة الموقف وحدها قادرة على زيادة نبضات القلوب المنتظرة.. و المشتاقة!!..
تصلب تمام في وقفته يناظر اللفة الوردية بين ذراعي الممرضة التي وقفت تناظرهم بابتسامة قائلة..
" أين السيدة دلال "
نظرات الجميع تسلطت بذهول على الواقفة ترتعش حرفيا.. ثم قالت معرفة عن نفسها بغير فهم..
" أنا.. أنا دلال "
اقتربت الممرضة منها ببشاشتها.. تمد يدها باللفة الوردية قائلة..
" قبل أن تغرق المريضة بالتخدير أوصتنا أن نعطي المولودة لسيدة تسمى دلال "
شهقت دلال من المفاجأة.. واضعة كف يدها على فمها.. و عيناها تقيضان بدموع ساخنة.. حية.. تُذيب قلب الواقف أمامها يناظرها بعجز.. عجز ليس له يد فيه.. عجز لتأخير أمر الله..
دوما في دعائه لا يدعو سوى تلك الدعوة..
( اللهم ازرع ابني برحمها.. و اجعله العوض منك يا كريم)
أغمض عينيه بسكينة بعد ترديد دعائه بسره.. و أصابعه تتابع حركته الرتيبة على مسبحته.. حركة اعتادها مؤخرا.. و أصبحت من سمات شخصيته الوقورة..
بجلبابه الأبيض.. و عباءته السوداء..
صوت الممرضة يصله و هي تحث سبب شقائه...
" افتحي ذراعيك.. و سمي الله "
أطاعتها دلال بقلب يصرخ اشتياقا.. و حبا لتلك الغمامة الوردية الشكل و الملامح..
تنظر لها بعينين تلمعان.. تناظرها كيف تحرك فمها الصغير.. و كيف تحرك أصابعها الرفيعة.. المنمنمة..
مرددة بانبهار..
" ما شاء الله.. تبارك الله "
رفعت عينيها بلحظة وصال مع شريك الحلم.. فوجدته يناظرها بابتسامة جميلة.. داعمة.. و كأنه يخبرها..
( سيحدث.. ثقي بالله )
أما تمام فكم دق قلبه من أجل تلك الوردية التي أعلنت عن وصولها بصخب.. مثيرة هذا الصخب داخل قلبه..
كان ينظر لها بشوق و هي بين ذراعي دلال.. أو..
( خالتو دلال) كما كانت فاتن تحكي
انتشله من مشاعره صوت الممرضة التي وجهت له حديثها..
" المريضة ستخرج بعد دقائق "
أومأ لها تمام دون كلام.. و قلبه يقفز بفرحة لم الشمل أخيرا..
بعد وقت..
كان يحمل ابنته بين ذراعيه.. ينظر لها بعينين تلمعان بدموع أبية ..
دمعات فرحة.. دمعات حلاوة النعمة من الله..
يميل لها يقبل جبينها.. و يهمس لها..
" كم اشتقت.. اشتقت لرؤياكِ .. "
ثم يميل مقبلا وجنتها.. ينعم بالملمس الناعم.. فيتشممها بزخم مشاعر من فاز بالنعيم..
نعم هي النعيم.. نعيم راحته مع فاتنته..
حب كلل بها.. بوجودها..
باشتياق لا ينتهي لأمها..
كما تاق لوجود صغيرته التي تربعت على قلبه..
" لقد أفاقت فاتن "
انتشله صوت دلال من مغازلة ابنته.. فينظر لها مبتسما بتهذيب.. ثم يلتفت ليضع ابنته في فراشها الطبي.. فتزداد ابتسامته دون أن تراه الواقفة..
واثقا أنها تريد رميه خارج الغرفة حتى تنفرد مع طفلته على راحتها.. فلم تترك جانب الطفلة طوال الساعتين المنصرمتين سوى في الوقت الذي كان يأتي ليراها فيه..
و بالتأكيد ليس متضايقا بالعكس.. بل يدعو للشيخ من كل قلبه أن يرزقه و زوجته بالذرية الصالحة..
يجلس بجوار فاتن.. يقبل جبينها.. هامسا بلوعة..
" حمدا لله على سلامتك حبيبتي"
ابتسمت له من بين إغماض و صحوة.. و مازالت آثار التخدير تلعب بعقلها بين الفينة و الأخرى..
و تمام يُحدثها و كأنه غير مصدق عودتها لوعيها.. لن ينسى هذا الخوف مهما عاش..
" جاءتنا غمامة وردية بملامح منمنمة "
يقبل كف يدها قائلا بتذمر..
" صديقتك دلال بالغرفة الملحقة لا تتركها.. لقد تركتني أراها بصعوبة "
يضحك قليلا ثم يتابع..
" وضعتها بفراشها الصغير و تقف متشبثة بالفراش و كأنها تفرض حولها حمايتها "
تبتسم فاتن متمتمة بدعاء واهن..
" اللهم ارزقها عاجلا ليس آجل.. هي و كل مشتاق "
يؤمن تمام وراء دعائها... ثم يقترب من أذنها قائلا بحشرجة ..
" كنت.. سأموت.. قلقا عليك "
ابتسمت من بين نعاسها.. هامسة له..
" بعيد.. الشر.. عنك.. حبيبي "
فتسأله بلهفة..
" ماذا ستسميها "
فيغمض عينيه مستلذا بما سيقوله..
" توق "
فتنظر إليه مرددة الإسم و كأنها تحاول نطقه..
" توق "
فيجيبها و عيناه تغيمان بمشاعره التي لا يدخر جهدا في نطقها..
" نعم.. أي اشتياقي الذي لا ينضب تجاهك.. و توقي لها لأنها منك "
متطرف هو في اختياره..
كما تطرف يوما في حبه لها..
و كما سيتطرف دوما في تملكه لهما..
أما هي فأغمضت عينيها بسلام..
سلام من ارتاح.. سلام من استسلم.. سلام من نال ما تمنى ..
نعم هي نالت..
نالت العوض من الله بعد مرور أعوام مضنية..
****
أما بجانب الطفلة ..
تقف دلال مبهورة تنظر للصغيرة بقلب خافق.. و عينين تدمعان فرحة..
لم تصدق نفسها حين خرجت فاتن من غرفة العمليات.. مالت عليها تقبل وجنتها تحمد الله على سلامتها.. و تهمس بجوار أذنها..
" شكرا "
لا تعلم هل سمعتها أم لا.. الأهم أنها شكرتها حقا..
فما فعلته معها فاتن اليوم جعلها تمحو الانتظار المضني طوال الأشهر المنصرمة..
تنهدت ناظرة للطفلة الوردية.. و لسانها ينطق بهجة..
" يا الهي أنها جميلة حقا.. وجنتاها ورديتان.. و شفتاها كحبتي كرز شهيتين.. أُنظر إليها أرغب في إلتهامها .. "
كانت تهذر بالكلام المنساب من بين شفتيها غير واعية بقلب الواقف مستندا على الجدار يراقبها بقلب يتألم لوعة أن يعطيها ما تتمنى.. و لكن ماذا بيده..
أخفى لوعته ببراعة حين إلتفتت إليه تتحدث بانبهارها..
" شهية.. تؤكل أكـ.. "
قطعت حروفها و هي تلتقط تلك النظر التي لن تنساها أبدا..
_و ستفعل المستحيل لتحقيقها_
تركت مكانها تقترب منه.. تقترب.. تقترب حتى ارتمت بين ذراعيه.. رافعة وجهها إليه.. ناظرة بعمق عينيه الحادتين..
" مشتاقة لرؤيتك أبا.. مشتاقة لأجعلك أبا.. مشتاقة لقطعة منك بين حضن رحمي.. مشتاقة لأكون أما لابن لك "
يهدهدها بالقول.. وذراعاه يحاوطان جسدها.. و لمعان عينيه ينطق ثقة.. و لسانه يردد إيمانا.. و ليس أي إيمان..
إنه الإيمان بالله..
" ستكونين.. ستكونين حبيبتي "
يسند رأسها على صدره.. متمتما..
" ضاقت.. فلما استحكمت حلقاتها فرجت.. و كنت اظنها لا تُفرج "
****
تجلس على الأرض وبجوارها ابنها يطعمان بعض الدجاجات الصغيرة..
و صوت ضحكاتها ترن داخل من يقف على بُعد منهما.. و لم يشعرا به بعد.. تُحييه..
تنعشه..
تجعله في حالة من السُكر الحلال و كأنه لم يكن سِكيرا من قبل..
" أمي "
ناداها ولدها لتنتبه له مجيبة..
" نعم حبيبي "
فيقول الطفل ببراءة..
" لماذا ينام أبي بالغرفة بالطابق الأرضي "
صُعقت من السؤال البريء.. و لكنها لم تجد رداً ..
ظلت صامتة لثوان و لكنها التفتت منتفضة على صوت زوجها الذي يخطو لمكان جلستهما على الأرض..
" أرى أن هناك من هو مهتم لمعرفتي "
تطلعت له.. منحها ابتسامة داعمة لا تعرف معناها..
أما طفله فهتف بفرحة..
" أبي "
لم ينتظر جابر تحرك طفله.. بل مال تجاهه محتضنا إياه ..
مغمضا عينيه متشمما عبير ولده.. باحثا فيه عن عبير أخرى..
أخرى أخفضت عينيها تأثرا من تلك اللحظة التي تمنتها سنوات و سنوات..
و صوت جابر يصلها بعد أن رفعت وجهها تنظر له.. تراقبه و هو يجلس قبالة طفلها..
" ما رأيك أن أجيبك أنا على سؤالك .. و تنفذ أمرا ما من أجلي "
هز الصغير رأسه بانفعال جعل الابتسامة تزحف على شفتي الجالسة جوارهما..
" أنا أنام بالغرفة بالطابق السفلي من أجل ساقي "
داعب وجنة الصغير متمما حديثه..
" تعلم أنها تؤلمني.. أليس كذلك؟ "
والكلمة و إن كانت عفوية فقد اخترقت قلب الأخرى دون أن تُظهر شيئا..
و كلامه يأتي تمامه..
" لذلك لا أستطيع صعود السلالم للطابق الأعلى "
و لكن الطفل يناطح أباه بعفوية..
" و لكنك تمشي بها.. "
يبتسم جابر متصنعا الدهشة..
" حقا!.. "
يومئ الطفل بتعجب و كأن والده لا يلاحظ أنه يمشي بها..
فيبعثر جابر شعر الطفل و الذي يشبه شعر والدته.. الجالسة جواره.. و التي لا يجرؤ على رفع عينه إليها.. و لا يعلم لمَ يتملكه هذا الإحساس أمامها..
فالنظرة أصبحت ثقيلة..
الإسم لا يجرؤ على نطقه..
أما بمفرده.. فينطق..
و يهمس..
و ينادي..
و ينظر..
و يتخيل..
و خياله لا يعينه على بُعده أبدا..
بل يعذبه و يجلده مذكراً إياه بما ملكه يوما و خسره بالباطل..
استجلب ولده انتباهه قائلا..
" ما الأمر الذي تريد مني أن انفذه؟ "
ابتسم جابر بصفاء لم يشعر به قبلا.. مد يده بجيب جلبابه مخرجا قطعتين من الشكولاتة فلمعت عينا الطفل بظفر مهللا.. فمد يده معتقدا أن القطعتان من أجله و لكن جابر أبعد يده و مازال على ابتسامته قائلا..
" انتظر "
فتسمر الطفل في حركته منتظرا مكافأته.. فلم يتأخر جابر فمد يده ممسكا بقطعة واحدة لطفله قائلا..
" هذه من أجلك "
ثم مد له الأخرى قائلا و قد تغيرت نبرة صوته دون إرادة منه..
" و هذه من أجل والدتك.. إعطها لها من أجلي "
قطب الطفل ما بين حاجبيه و نطق بسؤال دون مواربة..
" و لمَ لا تعطيها إياها أنت ؟"
و كأن السؤال باغته و لا يجد ما يجيب طفله.. و لكنه قال بأول ما خطر على باله..
" هي تحبك.. لذلك ستحب أن تعطيها أنت "
انشرح وجه الطفل ببراءة يشعر بالتميز بين والد و والدة..
فمد يده ممسكا بالقطعة من بين أصابع والده ثم وقف مكانه قاطعا الخطوة بينه و بين والدته.. وصل إليها مادا يده بالقطعة قائلا..
" خذي أمي.. أبي أخبرني أن أعطيك هذه "
ثم يتابع همسا دون إدراك ما تفعله كلماته..
" جلبها من أجلك و طلب أن أعطيك إياها لأنك تحبينني "
و كأنها لم تسمع حديثه مع والده.. مدت يدها و أمسكت القطعة تجلب ابتسامة على شفتيها تراضي بها طفلها..
ثم مالت تطبع قبلة على وجنة طفلها هامسة بـ
" شكرا حبيبي "
و المقصود بالتأكيد طفلها و تأكيدا منها همست له تتابع تكملة الحديث المقصود به طفلها..
" هيا قل لوالدك شكرا "
ابتسم الطفل متوجها لمكان جلسة والده ثم مال طابعا قبلته على وجنة الجالس بذهول.. مخطوف القلب و الروح بفعلة طفله..
و الهمسة الطفولية تسكنه سكناً..
" شكرا أبي "
و الشكر رغم أنه من طفله و لكنه شعرها منها.. و للغرابة شعر داخله أن واجب الشكر عليه تجاهها هي .. و لكنه آثر الصمت مراقبا ابتعاد طفله يجري وراء دجاجات تلاعبه راقب ابتعاده كلية ثم قال موجها الحديث للصامتة بالقرب منه دون أن ينظر إليها يراقبها تقلب قطعة الشكولاتة بين أصابعها..
يرغب في طمأنتها..
" اطمئني فثمنها حلال "
ثم استقام متوجها لغرفته و لكن ندائها باسمه..
" جابر "
أوقفه.. بل سمّره..
لا تعلم أن نداءها الذي نطقته شعره و كأنه أول طريق الغفران له..
ازدرد ريقه متمالكا نفسه ثم إلتفت لها ببطء ليجدها وقفت تقطع خطوة باتجاهه قائلة مباشرة ..
" سأقوم بمشروع صغير بالباحة الخلفية "
قطب ما بين حاجبيه فتابعت..
" وجب عليّ أن تعلم "
الرحمة على قلبك الذي انقشع عنه كل سواده أمام هذا النقاء يا جابر ..
اضطرب تنفسه بتأثر.. فقال بصوت متحشرج يمنح نفس مزيدا من.. الغفران..
غفرانها..
" أي مشروع.. ماذا سيكون ؟"
لوحت بكفها تجاه الباحة الخلفية للبيت ثم أوضحت..
" سأشتري عدة كراس صغيرة مناسبة للأطفال و بعض الألعاب .. سأستقبل أطفال الحي الذين تعمل أمهاتهم.. "
سكتت لحظة ثم تابعت تزدرد ريقها..
" كنت بغيابك أقوم بتنظيف الخضراوات و تقطيعها و بيعها.. "
راقبت الألم الذي ارتسم على ملامحه.. و لكن لابد له أن يعلم..
" سأداوم على فعلها "
فحاول الاعتراض..
" و لكن اا.. "
فتقاطعه قائلة..
" أنا أحب هذا.. أحب المطبخ و أعماله و ما سأفعله سيكون لأني أريد هذا "
رغم أنه فقد صلاحياته في الاعتراض.. و أنها غير مضطرة لإخباره من الأصل.. و لكنه ممتن لها و لتلك الخطوات المتأخرة و المتعثرة التي يخطوها معها ..
فرسم الارتياح على ملامحه ليبثه إياها..
" مبارك مقدما "
مال برأسه جانبا.. و يده تلوح تجاه المكان المنشود لمشروعها..
" كيف يمكنني مساعدتك ؟"
فتقاطعه برد فعل رآه مبالغا فيه بعد تلك الهدنة التي كانت بينهما خلال دقائق..
" لا شكرا "
ورد فعلها القاطع فسره كما يرغب نقصه..
نظر لها للحظات و قلبه يغص بألم لا يمكن وصفه..
راقب انفراج شفتيها و كأنها تجاهد للنطق.. لا يعلم ما ترغب قوله.. و لكنه بالتأكيد يشعر و كأن ما ستقوله استكمالا لرفضه.. فآثر الابتعاد محتفظا بلحظات أحيت قلبه العليل في قربه..
فخطى خطوة للوراء و قبل أن يلتفت عنها يخطو لداخل البيت قال..
" أنا موجود متى احتجت شيئا "
وكأن الجملة التي سمعتها مشابهة لأخرى!!..
و داخلها تعترف أن جابر في طريقه للتغير.. و لكن هذا الطريق مازال طويييييلا.. و لن تتنازل عن تخطيه كاملا..
أما هو فخطى لداخل غرفته يحمل بقلبه ثقلا و لكن هذا الثقل و لغرابته يشعره يطفو يمينا و يسارا مذكرا إياه بما فقده.. و ما عاشه و يعيشه..
مذكرا إياه بما سيكسبه اذا خف هذا الثقل..
و مذكرا إياه بما سيخسره اذا خر هذا الثقل و أطبق فوق قلبه.. و كله..
و لأول مرة منذ زمن مضى.. يهمس..
" يا رب "
مدلكا فوق قلبه.. متعجبا للحظات من فعلته..
شاعرا بالحزن تجاه ما قصر به.. و أول تقصيره كان تجاه ما همس به..
( يا رب)
و الآن فقط.. الآن..
علم أي الخطوات يبدأ..
توجه للحمام مغتسلا.. و متوضئا..
ثم جالسا على مصليته و التي وجدها بالغرفة عند مجيئهم و لكنه أبداً لم يفكر في استخدامها قبل الآن..
بسملة..
ثم تكبير..
فاتحة الكتاب تليها سورة قصيرة..
و ركوع فسجود..
فانهيار لم يكن يتوقعه في أقصى تخيلاته جموحا..
استغفار يليه استغفارات كثييييرة..
و شهقات تزين الخشوع..
و القلب يرتج طالبا الغفران الحقيقي و الأوحد..
يبكي و هو الذي لم يبك منذ زمن .. لم يبتهل.. لم يخشع.. لم يقف تلك الوقفة بين يدي خالقه..
بل لم يضع حسابا لخالقه من قبل وعاث فسادا متبعا شيطانا رجيما زين له الحرام..
و لكن الآن..
الآن و هو يتذوق حلاوة القرب..
حلاوة الخشوع
حلاوة اللجوء..
فيشعر لأول مرة..
معنى أن يكون المرء حيا..
***
أما خارج البلاد..