الفصل الرابع والثلاثون..

67.8K 2.3K 480
                                    

أيّتها البحريّة العينين والشّمعية اليدين
والرّائعة الحضور
أيّتها البيضاء كالفضّة
والملساء كالبلّور
أشهد ألّا امرأةً على محيط خصرها
تجتمع العصور
وألف ألف كوكب يدور.

-نزار قباني.

لطالما آمن أن مفهوم الوطن لا يقتصر على ذلك المكان الفسيح بحدوده الواسعة الذي نولد فيه ونستقر به وندفن تحت ثراه إذا حان الموعد، فكم من موحشًا على أرضه، وكم من مأنوسًا في هجرته، وبالنسبة إليه فقد كان وطنه بعد تراب أرضه وجذور أجداده، هو حيث استراح هانئًا فوق كتفها جبينه، وتربع ساكنًا داخل ضلوعها قلبه، وبهذا الانتماء تنهد مطولًا وقت شعوره بتسلل خيوط الشمس الأولى تصاحبها نسائم الخريف من نافذة الغرفة المفتوحة إلى الداخل، معلنة عن نهاية ليلة ستظل محفورة داخل ذاكرته حتى يواري جسده التراب، ليلة ظل ساهرًا حتى أخرها يتأمل الغافية بين ذراعيه في مزيج من السعادة، الطمأنينة، والتبجيل، يلتهم ملامحها المسترخية جواره في سلام، يمرر عدستيه فوق كل نقطة في وجهها ثم يعود ويعيد الكرة من جديد حتى أصابت روحه الجائعة تخمة الإفراط ولم يكتفِ بعد، يخشى إغماض عينيه بعدما تمددت جواره، فيختفي جسدها من أمامه، وإن لم يكن في الأمر من مبالغة لأتخذ من البارحة ميلادًا جديدًا له، بصفحة بيضاء كلية وتركها تخط بيدها ما شاءت داخلها واكتفي هو بالمشاهدة، والاستمتاع، والتنفيذ، وبعد فترة من التحديق المستمر بها، شعر بتململها أسفل ذراعه المحاوط خصرها، يليه صدور همهمة خافتة من بين شفتيها المطبقتين جعلت عضلاته المسترخية تبرز في حالة استنفار، ودقات قلبه الهادئة تدوي قاصفة أضلعه في ألف انشطار يليه انفجار، يخشى أن يكون ابتعاده عنها طوال الأشهر الماضية عبثًا، يرتعب من فكرة فشله في الانسلاخ من جلد شقيقه، وبتلك الحالة المزرية من الشك التي سقط بداخلها، أقترب بأنفاس مكتومة داخل صدره يضع أُذنه فوق شفتاها مرهفًا السمع حتى استطاع تميز حروف اسمه المتقطعة الخارجة منهم :
-(( طا.. هر ))..

تراخي جسده، واسترخت ملامحه، واستكانت دقاته فور سماعه لها تنطق حروفه في نداء جديد أعلى وأوضح بطريقة أكثر راحة من ذي قبل، مع شبح ابتسامة ظهر يلوح فوق ثغرها الناعم، فهمس يجيب في حنان ويده الحرة تمسح فوق جبهتها :
-(( أنا هنا يا شمس حياة طاهر ))..

فتحت عينيها على مضض عند سماعها تلبيته النداء، تتطلع في عبوس إلى وجهه الشبه ملاصق لها، ومنه إلى الغرفة من حولها تتذكر البارحة ولم غفت هنا بالقرب منه، ثم سرعان ما بدأ عبوس جبينها في الانبساط لتحل محله ابتسامة دافئة حين تأكدت من وجوده حَقًّا جوارها، بينما أردف هو يستفسر في خدر وكفه لازالت تتلمس خصلات شعرها العشوائية هبوطًا إلي فمها وعنقها :
-(( كنتي بتحلمي بمين؟! ))..

ضغطت فوق شفتيها بقوة تجابه صراع صامت يدور بداخلها، ودت لو أخبرته بغزوه أحلامها كما يفعل في واقعها، وأيضًا أرادت التلاعب به ليذوق جزءًا من لوعتها في غيابه، وما بين الرغبتين انفرج فمها يجيبه خجلًا بنبرة ناعسة وجبينها يستند على جانب خده مستجيبة لقبلة صباحية مطولة طبعها فوق وجنتها :
-(( بيك ))..

في لهيبك احترق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن