الفصل الثاني ..
احتضنته والدته بلهفة ودموعها إنسكبت على وجنتيها بغزارة ..
أخذت تتلمس ظهره تطمئن على حاله ولسانها يهتف ببكاء :-
" الحمدلله على سلامتك يا حبيبي .. وأخيرا يا نديم .. "
إبتعدت عنه قليلا تحتضن وجهه بين كفيها تخبره بدموعها اللاذعة :-
" كنت أدعو الله كل يوم أن يطيل في عمري حتى أراكَ سالما يا حبيبي .. خفت أن أغادر الحياة قبل ذلك ..."
قاطعها بلهفة وهو يقبل كفها :-
" لا تقولي هذا يا أمي من فضلك .. حفظك الله لي وحماكِ من كل مكروه .."
ثم أخذ يمسح دموعها فوق وجهها بأنامله وهو يردد بألم :-
" لا تبكي يا أمي .. لا تبكي من فضلك .. ها أنا أمامك بخير .."
تحدثت غالية التي كانت تتابع ما يحدث بدموع مليئة بالوجع على هذا المنظر المؤلم رغم سعادتها بخروجه :-
" يكفي يا أمي أرجوكِ .. أنت تؤلمينه ببكائكِ هذا .."
ثم تقدمت من نديم تحتضنه بعدما قالت :-
" وأنا أيضا أريد أن أحتضنه يا أمي .."
شدد نديم من إحتضانها بشوق شديد لتبتعد قليلا عنه وترفع وجهها وعينيها الدامعتين في وجهه تخبره بدموع الفرح :-
" لا أصدق عيني يا نديم .. إشتقت اليك .. إشتقت إليك يا أخي .. "
ضمها نديم من جديد وهو يهتف بخفوت :-
" وأنا أشتقت إليك أكثر يا غالية .."
سار بعدها نديم معهما حيث ركب بجانب غالية التي جائت بسيارتها لإستقباله وجلست والدتها في الخلف وهي تمسح دموعها لتسمع نديم يعاتبها :-
" لماذا أتيتما لإستقبالي ..؟! ألم أخبركما ألا تصلان الى هنا وإنني سآتي بنفسي ..؟! ألا يكفي زياراتك المتكررة يا غالية مع أمي هنا إلي ..؟!"
أكمل بعدها وهو يلتفت نحو والدته :-
" وأين وسام ..؟! ألم يخبرني إنه سيأتي لإستقبالي ...؟!"
كان مندهشا من غياب صديقه الذي لم ينقطع طوال هذه السنوات عن زيارته لتجيبه والدته موضحة سبب غيابه :-
" والدته مرضت قليلا ودخلت المشفى مساء البارحة فإتصل بنا يعتذر عن قدومه .."
قالت غالية بجدية :-
" كنا سنأتي بكل الأحوال يا نديم .. بوجود وسام او غيابه .."
أطلق نديم تنهيدة مسموعة ثم إستدار نحو النافذة ينظر الى الشوارع بملامح هادئة وهو يحاول أن يخفي ما يشعره في وضعه هذا لأجل كلا من والدته وأخته ...
.....................................................................
دلفت غالية الى الفيلا بسيارتها لتتغضن ملامح نديم بألم من ذكريات الماضي التي عصفت به تلقائيا ...
توقفت غالية في الكراج وأشارت له ولوالدتها :-
" هيا دعونا نهبط ..."
ترجل نديم من السيارة وعيناه تنظران الى المكان تتطلعان حوله بملامح مبهمة لا تدل على شيء ..
كان يشعر ببرودة غريبه تجتاح كل إنش من جسده ما إن دلف الى الفيلا وكأنه دلف الى منطقة إعدامه ...
سار معهما بخطوات رتيبة وهو يتمنى مع كل خطوة ألا يصل الى الداخل ...
فُتحت الباب الداخلية ليخفق قلبه بضربات عنيفة عندما شعر بنسيم الهواء الخارجي يتغلغل داخله ورائحة منزله التي يعرفها جيدا إخترقت كيانه تعيد إليه ذكريات يتمنى لو يمحوها من باله الى الأبد ..
هنا ولد وعاش طفولته ومراهقته وشبابه حتى أصبح شابا يافعا ورجلا معتدا بنفسه يُضرب به المثل بالإحترام و الرقي ...
هنا قضى أيام حياته بحلوها ومرها .. وهنا عاش أهم لحظات عشقه مع حب طفولته بين جدران هذا المكان ...
أغمض عينيه يبعد ذكريات كثيرة تسربت الى داخله ...
ذكريات تعود الى فترة الطفولة وأخرى للحظات مهمة عاشها هنا ..
تذكر لا إراديا يوم خطبته .. ذلك اليوم الذي سبق يوم القبض عليه وحبسه .. أجمل يوم في حياته وأسوء يوم في حياته وفي كلا اليومين عاش ما لا يظن إنه سيعيش مثله يوما خيرا ولا شرا ...
أخذ نفسا عميقا وهو يفتح عينيه الزرقاوين بتأهب يحاول أن يسيطر على إنفعالاته أمام والدته وأخته ..
شعر بيد تلمس كتفه فيجدها غالية تنظر إليه وهي تبتسم بهدوء رغم المرارة التي شعت في عينيها وإختفت بعد لحظات قصيرة ..
" ألن تذهب الى غرفتك وترتاح قليلا ...؟! "
سألته بتردد بينما تبعتها والدتها تخبره :-
" هل ترتاح قليلا يا نديم أم تتناول طعام الغداء معنا أولا ...؟!"
" أرغب بالنوم .."
خرجت منه باردة كبرودة قلبه في هذه اللحظة .. قلبه الذي فقد شعوره بعدما زارته تلك الذكريات من جديد .. بعدما عاد الى المكان الذي تركه منذ أعوام بسبب ذنب لم يرتكبه يوما ..!!
ودون أن يقول كلمة أخرى أو ينتظر ردا من أحد سار الى غرفته في الطابق العلوي بينما نظرت غالية الى والدتها تسألها بقلق :-
" ماذا سيفعل عندما يعلم بوجود ليلى هنا ..؟!"
هزت والدتها رأسها نفيا وهي تجيب بتوتر :-
" لا أعلم .. أكثر ما يقلقني ردة فعله عندما يراها ..."
نظرت غالية إليها بملامح تدل على عدم راحتها لما ينتظر أخيها بعد عودته ..
.......................................................................
دلف الى غرفته وأغلق الباب خلفه بقوة ليتأمل تفاصيل الغرفة التي ما زالت كما هي رغم مرور السنوات ...
بعد دقائق من التأمل الصامت والأفكار المرهقة سار بخطوات بطيئة نحو تلك الطاولة التي توجد عليها عدة صور له ومنها صورة تخرجه من كلية الصيدلة ...
حمل الصورة ينظر الى تلك الإبتسامة الهادئة الخفيفة والثقة التي تطل من عينيه ..
كيف لا يبتسم وهو كان يشعر وقتها بأن الدنيا بأكملها كانت ملكه فهو نديم حسين الخولي أكثر الطلبة شهرة وتفوقا والأول على دفعته لخمسة أعوام متتالية ..
يومها شاركه الجميع فرحته وأقامت والدته إحتفالا لا ُينسى .. إحتفالا حضره جميع الأقرباء والمعارف والأصدقاء يباركون له ويتمنون له المزيد من التقدم ..
لقد ذهب كل هذا وبات ذكرى مؤلمة لا يطيق تذكرها ...
لم يعد نديم المميز المتفوق الذي لديه مستقبلا رائعا يليق به وبإسم عائلته ..
لقد أصبح مجرما آثما مدنسا بذنب لا يغتفر ...
توقفت أفكاره عند هنا لينظر الى الصورة للمرة الأخيرة قبل أن يحملها ويرميها في سلة المهملات ببرود مخيف وهو يعرف إن نجاحه وتفوقه ذلك تم رميه هنا في نفس المكان منذ أعوام ..
......................................................................
أنت تقرأ
حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح )
Romanceهو رجل يشبه الظلام .. رجل طعنه القدر بقسوة ولم يتبقَ منه سوى بقايا روح ترفض الحياة .. أما هي فأتت وإخترقت حياته المظلمة بالصدفة البحته .. بقلب نقي بريء وروح لا ترغب بشيء سوى الأمان وجدت نفسها عالقة بين ظلماته المخيفة .. وأخرى لم تدرك شيئا سوى إنها ت...