كانت تتفحص حقيبتها تتأكد من أخذها جميع ما تحتاجه وأهمهم مستمسكات السفر عندما سمعت طرقات على باب غرفتها فسمحت للطارق بالدخول لتدخل الخادمة فتشير ليلى الى الحقيبة متوسطة الحجم :-
" أنزليها الى الأسفل ..."
هزت الخادمة رأسها بطاعة وسارعت تسحب الحقيبة وتجرها خارج الغرفة عندما أغلقت ليلى سحاب حقيبتها الأنيقة وحملتها بعدما وضعت فيها هاتفها أخيرا ...
وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها للمرة الأخيرة حيث تتأكد من كمال هندامها قبل أن تغادر غرفتها حيث ستودع عائلتها أولا ثم تغادر المنزل مع كنان متجهة إلى إيطاليا ...
ما إن خرجت من الغرفة حتى رأت مريم تتقدم نحوها فإبتسمت لها لتبتسم مريم بدورها بخفوت وهي تسألها بعدما وقفت أمامها :-
" هل ستتأخرين هناك ..؟!"
ردت ليلى بجدية:-
"فقط ثلاثة أيام ..."
ثم صمتت تتأمل وجوم شقيقتها والذي لم تفهم سببه فهمست بصدق :-
" ما بالك يا مريم ..؟! لماذا يزعجك سفري الى هذا الحد ..؟!"
أجابت مريم بتردد :-
" سأشتاق لك .."
ثم أطلقت تنهيدة بطيئة وعقلها يأمرها أن تخبر شقيقتها الحقيقة لكنها تتراجع ككل مرة عندما همست ليلى متعجبة :-
" تتحدثين وكأنها المرة الأولى التي أسافر بها أو أترك بها المنزل ..."
أكملت وهي تلوي ثغرها بتهكم :-
" وكأنني لم أعش لأعوام بعيدا عنكم ..."
تقدمت مريم نحوها تربت على كتفها تهمس برجاء خالص :-
" لا تتأخري يا ليلى .."
توترت ملامح ليلى وهي تسأل بتوجس :-
" هل هناك شيء ما يا مريم ..؟! يمكنني إلغاء الرحلة حالا .."
قاطعتها مريم بسرعة :-
"كلا ، لا داعي لذلك ... انا فقط مكتئبة قليلا .."
أكملت وهي تبتسم لها لتصنع :-
" جميعنا نعلم مدى أهمية هذه الشراكة لنا .. دعك مني وفكري بهذه الشراكة ..."
أكملت وهي تحتضنها :-
" سأشتاق لك ... عودي بسرعة ..."
ابتسمت ليلى وهي تربت بكفيها فوق ظهر مريم قبل أن تبتعد عنها وهي تخبرها بإبتسامة هادئة :-
" وأنا سأشتاق لك كثيرا .. إعتني بنفسك جيدا حتى أعود ..."
أكملت بتحذير مصطنع :-
" إياك وإفتعال المشاكل في غيابي يا مريم ..."
ضحكت مريم مرغمة وهي ترفع كفها بإستسلام مصطنع :-
" سمعا وطاعة يا هانم ..
توقفت ليلى عن ضحكاتها بعدها وهي تتمتم بجدية :-
" إهتمي بعبد الرحمن حتى أعود .."
ظهر عدم الرضا على ملامح مريم عندما أضافت ليلى برجاء خاص :-
" لأجلي يا مريم .. إعتني به في فترة غيابي ... "
زمت مريم شفتيها بعبوس والرفض ظهر في عينيها عندما نطقت ليلى إسمها بحزم لتهز مريم رأسها مرددة على مضض :-
" حسنا .."
" عديني يا مريم أن تهتمي به جيدا حتى أعود .."
قالتها ليلى بجدية وهي تنظر الى ملامح شقيقتها الواجمة لتجد السكون مسيطرا عليها فتكرر بإصرار :-
" عديني يا مريم .."
زفرت مريم أنفاسها بتأفف خفي وهي ترد :-
" حسنا .. أعدك ..."
ابتسمت ليلى وعانقتها بخفة مجددا قبل أن تبتعد عنها وهي تقرصها من وجنتها تردد بمشاغبة :-
" صغيرتي العنيدة ..."
ابتسمت مريم لها بينما تحركت ليلى حيث ذهبت الى والدها الذي كان معتزلا كالعادة في غرفته الجديدة ...
دلفت ليلى الى تلك الغرفة التي إستقر بها بناء على قرار والدتها لتجده جالسا يقرأ في أحد الكتب بهدوء عندما رفع وجهه نحوها فإبتسم لها لا إراديا لتتقدم نحوه وتعانقه بحنو قبل أن تهمس له :-
" جئت لتوديعك قبل السفر .. "
ربت على كتفها وهو يقول بصدق :-
" سأشتاق لك يا صغيرتي .."
أضاف وهو يربت على جانب وجهها بكفه بعدما إبتعدت عنه قليلا :-
" أعلم إن المسؤولية باتت ثقيلة عليك .. لكنني أعدك إنني سأعود في أقرب وقت و ..."
قاطعته بصدق :-
" ليس مهما .. المهم أن تبقى بخير .."
أضافت تتسائل :-
" هل أنت بخير حقا ...؟! أنت تثير قلقي ومخاوفي عليك ..."
ابتسم مرددا بخفوت :-
" انا بخير يا ليلى .."
اكمل بعدما تنهد بصوت مسموع :-
" لا تقلقي بشأن صحتي فالطبيب طمأنني على وضعي ..."
همست بجدية :-
" وطمأنني أنا أيضا وأوصاني أن تبقى ملتزما بعلاجك وزياراتك الدورية له .."
هتف أحمد بجدية :-
" وأنا أفعل ذلك .."
ابتسمت وهي تردد :-
" نحن نحتاجك يا بابا .. إعتني بنفسك ... إذا لم يكن لأجلك فلأجلنا نحن ..."
أضافت بتردد :-
" عبد الرحمن يحتاجك .. انت مبتعد عنه تماما .. أعلم إنك متباعد عنا جميعا ولكنه صغير ... يكفي إن والدته تخلت عنه فلا تتخلى عنه أنت أيضا .."
هتف يطمأنها :-
" لا تقلقي يا ليلى... لن أبتعد عنه ولا عنكم .. انا فقط أحتاج بعض الوقت ... أحتاج أن أنفرد بنفسي بعيدا .. "
ابتسم يضيف بصدق :-
" كل شيء سيعود كالسابق قريبا بإذن الله ...."
عادت تعانقه مجددا قبل أن تبتعد وتودعه مغادرة غرفته لتلقي نظرة على غرفة شقيقها الذي كان نائما وقد ودعته هي في وقت سابق ووعدته أن تجلب له الهدايا ...
هبطت الى الطابق السفلي حيث وجدت والدتها هناك لتودعها حيث أوصتها والدتها وصاياها المعتادة وهي تدعو لها أن يوفقها الله وتسافر وتعود سالمة ..
وأخيرا خرجت من الفيلا بعدما أخبرها الحارس بوصول السيارة التي ستقلها الى المطار ..
كانت تنوي الذهاب الى المطار بمفردها مع السائق كما إعتادت ولكن كنان أخبرها إنه سيمر عليها بنفسه ويقلها معه في سيارته وهي بدورها لم ترفض حيث لم تجدد مبررا للرفض فهما في النهاية سيذهبان في رحلة عمل كلاهما شريكان فيها ومن الطبيعي أن يكونا سويا ..
تحركت ليلى نحو السيارة السوداء الضخمة عندما إستقبلها السائق يبتسم لها بلباقة مرحبا قبل أن يفتح لها الباب لترد تحيته وهي تدلف الى الداخل لتجد كنان جالسا يترقب قدومها عندما منحته إبتسامة هادئة وهي تلقي تحية الصباح عليه ليرد تحيتها بهدوء ..
ركب السائق في مقعده وسألهما إذا ما يتحرك أم إنهما ينتظران شيئا ما فسألها كنان إذا ما يستطيعان المغادرة لتهز رأسها بصمت ليخبر كنان السائق أن يتحرك نحو المطار ...
أخذت ليلى تتأمل الطريق بصمت من خلف النافذة بينما كنان كان منشغلا في مراجعة أعماله على جهازه اللوحي حتى وصلا الى المطار أخيرا...
مرت الإجراءات سريعا حيث علمت ليلى إنهما سيسافران في طائرته الخاصة فصمتت دون تعليق وهي تفكر في مدى ثراء كنان الفاحش فهي رغم ثرائها من جهة والدها ووالدتها لكن لم يمتلك أيا من أفراد عائلتيها طائرة خاصة للسفر ...
بعد مدة من الزمن كانت ليلى تجلس على مقعدها والمضيفة تقدم لها الشراب الدافئ الذي طلبته بينما كنان يجلس على المقعد المقابل لمقعدها بمسافة ليست قريبة عموما وما زال يعمل بتركيز بينما وضعت المضيفة أمامه قهوته التي على ما يبدو إعتادت أن تضعها أمامه في كل رحلة ...
حملت ليلى مشروبها وبدأت ترتشفه بهدوء ثم أخذت قطعة من الحلوى الموضوعة أمامها تذوقتها فأعجبها طعمها لتلقي ناظرة عابرة على ذلك الجالس يعمل منهمكا فتعود وتسترخي في جلستها وهي ترتشف شرابها ببطأ وتلذذ ...
بعدما إنتهت ليلى من تناول مشروبها شعرت بالإسترخاء يسيطر عليها وقد ذهب توترها تماما عندما سحبت هاتفها الخلوي ومعه السماعات خاصتها فشغلت إحدى أنواع الموسيقى الكلاسيكية التي تحبها بعدما وضعت سماعاتها داخل أذنيها ثم إسترخت في جلستها أكثر وأغمضت عينيها وشردت بعيدا مع أنغام تلك الموسيقى ..!!
بعد مدة ليست بطويلة إستدار كنان نحوها وهو الذي كان يتجنب النظر لها متعمدا فوضع تركيزه على بعض أعماله التي نجحت في إشغاله عنها بجدارة عندما قاده فضوله أخيرا ليلتفت نحوها فيجدها بتلك الوضعية حيث تميل برأسها الى الخلف فوق المقعد وعينيها مغمضتين وتلك السماعات الموضوعة في أذنيها وعلى ما يبدو إنها غرقت في نومها دون أن تعي ...
تأمل ملامح وجهها الساكنة بجمالها الرائع ليرى أمامه لوحة فنية متكاملة وكم أعجبه منظرها وهي نائمة بسلام فبدأت التخيلات تجتاح عقله وهو يعد نفسه إنها قريبا ستنام بنفس الطريقة جانبه وفي سريره ..
كان يود بشده أن يعرف نوع الموسيقى التي تسمعها رغم كونه يخمن إنها تفضل الإستماع الى الموسيقى الكلاسيكية الهادئة وليست تلك الإيقاعية الصاخبة ...
عاد بظهره الى الخلف يبعد بصره عنها مرغما يخبر نفسها ألا يستعجل فالأمور تصب في صالحه حتى الآن وكل شيء سيحدث كما يريد ...
مرت حوالي ثلاثة ساعات عندما تقدمت المضيفة تسأله إذا ما تقدم طعام الغداء أم تنتظر أكثر فأخبرها أن تنتظر ساعة أخرى ثم توقظ تلك النائمة بعمق وهدوء جذاب كي تتناول الطعام ..
وبالفعل بعد ساعة تقدمت المضيفة تربت على كتف ليلى التي أخذت ترمش بعينيها قبل أن تفتحهما وهي تتمتم ببعض الكلمات برقة سلبت لبه وهو الذي يتابعها بتركيز عندما إنفرجت عن شفتيها أخيرا إبتسامة ناعمة رائقة وهي تومأ برأسها فتبتعد المضيفة لتجلب الطعام بينما تلاقت عينيها بعينيه أخيرا فعاد التوتر يغزوها ليمنحها هو إبتسامة هادئة متحفظة وهو يجبر نفسه على العودة ببصره الى الأمام منشغلا بأي شيء غيرها كي لا يقلقها أو يشتتها أبدا ...
أخذ الإثنان بعدها يتناولان طعامهما بصمت وقد كانت ليلى تشعر بالجوع الشديد خاصة والطعام كان شهيا ولذيذا ...
عندما إنتهيا من تناول الطعام أخبرها كنان إنه لم يتبقَ سوى ساعتين على الهبوط وقد كان ما حدث عندما ربطت هي حزامها بعدما تم إبلاغهما إنهما على وشك الهبوط لتهبط الطائرة في مطار ليوناردو دا فينشي الشهير ...
سألها كنان ما إن هبطا من الطائرة :-
" هل كانت الرحلة مريحة ...؟!"
أجابته بصدق :-
" جدا .."
إبتسم لها برزانه ثم تقدما الى داخل المطار كي يتم إنهاء الإجرائات المطلوبة قبل مغادرتهما المطار متجهين الى احد أشهر الفنادق في العاصمة الإيطالية روما ..
بعد مدة من الزمن ..
دلفت ليلى الى جانب كنان الى فندق جراند بلازا في روما الشهير بتصميماته الفريدة التي تحاكي تصاميم العصور الوسطى ...
تأملت ليلى المكان بإعجاب شديد فهي رغم زيارتها روما مرتين سابقتين الثانية كانت في سنتها الجامعية الأولى لكنها أقامت كالعادة في إحدى الفنادق العصرية الشهيرة وليس في هذا الفندق الرائع بتصاميمه الآثرية العتيقة التي تعشقها ...
أفاقت من تأملاتها على صوت أنثوى جذاب يرحب بهما لتستدير فتجد فتاة شديدة الجمال تحتضن كنان الذي بدوره قبلها من وجنتيها وهي تتحدث بلهجة عربية تماثل لهجتهما :-
" إشتقت لك كثيرا ..."
ابتسم كنان بود وهو يردد :-
" وأنا أكثر يا جوان ..."
أشار نحو ليلى يخبر الفتاة التي ما زالت تحتفط بإبتسامتها الرحبة :-
" ليلى سليمان يا جوان .. شريكتي في المشروع الجديد .."
ثم أشار ناحية ليلى يخبرها :-
" جوان يا ليلى... صديقتي والمسؤولة عن إدارة أعمالي في روما .."
ابتسمت ليلى بتحفظ عندما هتفت جوان بترحيب :-
" اهلا ليلى هانم ... سعدت برؤيتك حقا ..."
ابتسمت ليلى وهي ترد تحيتها بهدوء عندما أشارت جوان لكليهما :-
" حجزت لكما جناحين ملكيين رائعين ... "
أكملت وهي تسأل كنان بفضول :-
" مع إنني إستغربت رغبتك بتغيير مكان إقامتك المعتاد ..."
إسترسلت وهي تشير الى ليلى :-
" المكان سيعجبك بالتأكيد .. كما ترين هو يحمل عبق تاريخ روما الرائع ..."
ردت ليلى بخفة :-
" إنه يبدو رائعا بالفعل ..."
استدار كنان نحوها يسألها :-
" بالطبع تحبين أن ترتاحين أولا ...؟!"
هزت ليلى رأسها بتأكيد ليهتف كنان بجدية :-
" حسنا ... الآن إرتاحي وسنتناول العشاء مساءا سويا اذا لم يكن لديكِ مانع
" لا مانع لدي بالطبع .."
قالتها ليلى بتروي عندما أشارت جوان الى أحد الموظفين تخبره أن يوصل ليلى الى جناحها لتستأذن ليلى وهي تسير مبتعدة عنهما تاركة جوان مع كنان حيث سألته وهي تتأمل تلك الراحلة بعينيها :-
" هل إخترت هذا الفندق تحديدا لأجل تلك الجميلة ..؟!"
ابتسم كنان ببرود قائلا :-
" لطالما أعجبتني فراستك يا جوان ..."
ثم عاد البرود يكتسيه وهو يضيف :-
" لكنه ليس من شأنه .."
مطت شفتيها بإمتعاض ليغمغم وهو يشير الى الموظف الآخر كي يتجه الى الجناح :-
" والآن إسمحي لي فأنا أحتاج الى الراحة بعد هذه الرحلة الطويلة ..."
.....:................................................................
بعد مرور ثلاثة ساعات ..
فتحت ليلى عينيها على صوت منبه هاتفها فسارعت تغلقه وهي تتمطى داخل فراشها بتعب ..
إعتدلت في جلستها وهي تتأمل المكان حولها بديكوره المميز والذي يحمل عبق الماضي في كل شيء فإبتسمت لا إراديا وهي تتذكر كم إنها تحب العصور القديمة وتعشق كل ما هو مرتبط بها دائما حتى إنها كانت تتمنى لو ولدت في إحدى تلك الحقبات ..
ورغما عنها وجدت نفسها تتسائل عن السبب الذي جعله يختار هذا الفندق لها تحديدا ...
تذكرت كلام جوان تلك وتعجبها من تغيير الفندق الذي إعتاد أن يقيم به فيعتمل شعور قوي داخلها بإنه إختار هذا الفندق عن قصد ولكن كيف أدرك إنها تحب هذا النوع من الأماكن وكل ما يتعلق بالماضي والتاريخ ..؟!
كيف علم شيئا كهذا ..؟!
من أين سيعلم كنان نعمان بذلك ..؟!
كذبت شعورها ذلك بكونه يعرف ما ترغبه وأخذت تقنع نفسها إنها تتوهم ليس إلا ...
أزاحت الغطاء عنها ونهضت من فوق سريرها متجهة الى الحمام الملحق في غرفتها في الجناح الفخم الذي حجزه كنان لها ...
وقفت أمام المغسلة تتأمل وجهها في المرآة للحظات قبل أن تغسل وجهها ثم تفرش أسنانها لتخرج وتقرر تبديل ملابسها استعدادا لعشاء الليلة ..
خرجت من الحمام وإتجهت تبحث عن شيء مناسب ترتديه فإختارت فستانا أسود قصير يصل الى منتصف فخذيها ذو حمالات عريضة وتصميم بسيط للغاية كعادتها في إختيار فساتينها ...
إرتدت مع الفستان حذاء أسود اللون ذو كعب عالي بعدما سرحت شعرها الأشقر الطويل بشكل مموج جذاب ...
وأخيرا حملت حقيبتها وجلست خارج الغرفة في صالة الجلوس الملحقة بالجناح تنتظر اتصاله او ربما مروره ...
أخذت تتأمل المكان حولها بصمت وعاد عقلها يشرد لكن بنديم هذه المرة عندما تذكرت رؤيتها له في شركة كنان فعاد الشك يعتمل داخلها والقلق يسيطر عليها رغما عنها كلما تسائلت عن سبب وجود نديم في شركة كنان في نفس الفترة التي تعاقدت هي معه على هذا المشروع فهي لا تستطيع التصديق إن ما يحدث ليس إلا صدفة ...
لا تستطيع الإقتناع بهذا ...
زفرت أنفاسها بتعب من التفكير الذي لا ينتهي والمشاكل التي لا تلبث أن تحيطها بإستمرار ..
إنتبهت على صوت الطرقات على باب الجناح فنهضت من مكانها بلا وعي وعاد التوتر يسيطر عليها فنهرت نفسها كما تفعل بالعادة وهي تشمخ برأسها وتتجه نحو الباب بعدما حملت حقيبتها ...
فتحت باب الجناح بتأهب لتجده أمامها بكامل لياقته مرتديا بذلة شديدة الأنيقة ذات لون كحلي أسفلها قميص أسود اللون وقد ترك زره العلوي مفتوح حيث تظهر بشرته البرونزية الجذابة وتفاحة آدم البارزة التي تظهر بوضوح ..
منحها إبتسامة هادئة رزينة ضاعفت جاذبيته وهو يخبرها بصدق :-
" تبدين رائعة ..."
إحمرت وجنتيها بخجل فطري وهي تجيب بخفوت :-
" أشكرك .."
ثم تحركت خارج الغرفة وهي تحمل حقيبتها الصغيرة في يدها عندما أغلقت الباب ليشير هو لها :-
" سنتناول العشاء في المطعم الخاص بالفندق .. سيعجبك كثيرا .."
هزت رأسها بصمت وسارت جانبه مطرقة الرأس في بادئ الأمر حتى لاحظت ذلك فسارعت ترفع ذقنها عاليا وتسير جانبه بشموخ لطالما تحلت به ولكن وجوده حولها يبدد ثباتها بشكل يثير أعصابها ولا تفهمه ...
كانت لا تفهم كيف يمكنه أن يمتلك هذا التأثير عليها وكلما بحثت عن جواب لا تجد جوابا مقنعا ..
أبعدت تلك الأفكار كالعادة عن رأسها وهي تدلف الى داخل المصعد يتبعها هو عندما ضغط على زر الطابق الأرضي فوقفت هي جانبه تنظر أمامها بصمت تتعمد عدم النظر نحوه لأي سبب كان وكأنها تخشى أن يقبض عليها متلبسة بنظراتها نحوه ..!!
خرجت من المصعد يتبعها هو لتسير جانبه مجددا بإتجاه مكان المطعم عندما دلفا سويا الى القاعة الواسعة لتتأمل ليلى المكان بإعجاب ليس بجديد فهي رغم كل شيء أعجبها المكان رغم كونها لم تستكشفه بعد لكنها قررت أن تفعل ما إن تجد الوقت الكافي ...
سحب كنان الكرسي لها لتجلس عليه وهي تشكره برقة قبل أن يتجه ويجلس على الكرسي المقابل لها ليبتسم لها برزانة عادت تشتت مشاعرها ...
بادلته إبتسامته وهي تسحب قائمة الطعام بعدما وضعها النادل أماميهما ...
أخذت تقرأ بلا تركيز عندما سمعته يسألها :-
" ماذا تفضلين أن تتناولين ..؟!"
أكمل بهدوء :-
" الطعام الإيطالي رائع .. لكنني أنصحك بتجربة المأكولات البحرية .. ستحبينها كثيرا .."
همست بتردد :-
" لا أعتقد ذلك .. في الحقيقة لا أظن إنني من محبين المأكولات البحرية ..."
سألها بإهتمام :-
" هل جربتها من قبل ..؟!"
أجابت وهي تهز رأسها نفيا :-
" أبدا .. لم أفكر يوما في تجربتها .. في الحقيقة تناولت احدى المرات ذلك المحار في إسطنبول ولم يعجبني طعمه أبدا ومنذ ذلك الوقت وأنا لم أفكر في تناول المأكولات البحرية لإنني أتذكر طعمه مباشرة ..."
ابتسم قائلا :-
" جربيها هنا ولن تندمي .."
أضاف بجدية :-
" دعيني أنا أختار لك طبقا مناسبا على ذوقي وأعدك إنه سيعجبك ..."
نظرت له بحيرة فقال وهو يمنحها إبتسامة رحبة :-
" ثقي بي ولن تندمي .."
هزت رأسها بصمت معلنة موافقتها فأشار هو الى النادل يحدثه بلهجته الإيطالية والتي وجدته يتحدث بها بطلاقة ولكنة إيطالية تماما خالية من أية أخطاء على ما يبدو ..
سألته بعدما غادر النادل :-
" أنت تتحدث الإيطالية بطلاقة ... هل درستها أم هذا بسبب عملك المستمر على ما يبدو هنا ..؟!"
ابتسم بخفوت وقد نجح في جذب إنتباهها دون أن يخطط لدرجة إنها من بادرت الحديث عندما أجاب بجدية :-
" انا أجيد الإيطالية منذ أن كنت طفلا .."
نظرت له بقليل من الدهشة ليضيف شارحا :-
" لقد قضيت سنوات طويلة من عمري هنا .."
أكمل موضحا :-
" جدتي لوالدتي كانت إيطالية ..."
تمتمت :-
" حقا ..؟!"
اومأ برأسه وهو يسترسل :-
" ولدت في البلاد وعشت بها أربعة أعوام ثم ما لبثت وإنتقلت مع والدي الى إيطاليا وبقينا هناك حتى أكملت عامي العاشر لنعود بعدها الى البلاد مجددا وفي تلك المدة أتقفنت الإيطالية انا وشقيقتي عليا وحتى سيف ..."
توقف للحظة ثم أكمل :-
" عندما عدنا الى البلاد لم نتوقف عن زيارة إيطاليا عاما واحد حتى .. أستطيع القول إن إقامتنا كانت بين هنا والبلاد ... "
هتفت تبتسم بخفوت :-
" أنت تمتلك جذوروا إيطالية إذا ..؟!"
اومأ برأسه وقال مضيفا :-
" وأمتلك الجنسية الإيطالية أيضا ..."
قالت بصدق :-
" إيطاليا بلد رائع .. لقد سبق وزرتها مرتين .. مرة مع ماما وبابا عندما كنت في الثانية عشر من عمري ومرة أخرى في سنتي الجامعية الأولى مع أصدقائي ...."
وافقها قائلا :-
" إيطاليا رائعة .. انا لن أنقطع عن هنا إطلاقا .. أسافر هنا بين الحين والآخر ... عملي هنا يجبرني على عدم الإنقطاع إضافة الى كوني أحب البلاد هنا كثيرا ..."
سألته بتفكير :-
" أنت بالطبع تمتلك فرع لشركاتك هنا ..."
هز رأسه مؤكدا فسألته بشك :-
" هل تعني إن الشركة المسؤولة عن التصميمات والتي أتينا هنا لأجلها هي تابعة لمجموعة شركاتك ..."
هز رأسه وإبتسامته ظهرت على شفتيه بوضوح لتغمغم :-
" الآن فهمت .."
هتف بعملية واضحة :-
" لم أكن لأتعاقد مع شركة ما وأنا لدي شركة كاملة متخصصة في هذا المجال بالطبع .."
هزت رأسها توافقه :-
" بالطبع ..."
أضاف يخبرها :-
" جوان التي رأيتها .. تكون مديرة فرع الشركة هنا .. "
" تبدو فتاة جيدة ..."
قالتها بهدوء ليقول بجدية :-
" إنها فتاة مجتهدة ورائعة .. والدها من كبار الأثرياء لكنها رفضت أن تعمل معه وقررت الإعتماد على نفسها .."
إسترسل يخبرها :-
" لقد قررت دخول مجال العمل منذ سنتها الجامعية الأولى لكن بعيدا عن شركات والدها وكون والدي صديق والدها المقرب وتعتبره بمثابة عم لها طلبت منه أن تعمل معنا فعينتها في فرع الشركة هنا وهي لم تكذب خبرا حيث سارعت في إثبات وجودها لأقرر منحها مسؤولية إدارة أعمال الشركة هنا بعد خمسة سنوات فقط ..."
سألته بإهتمام :-
" كم عمرها ..؟! "
رد عليها :-
" في الرابعة والعشرين من عمرها ..."
هتفت بدهشة :-
" ما زالت صغيرة جدا .. يعني لا أقصد التدخل ولكنها تبدو صغيرة على الإدارة ..!"
ابتسم قائلا :-
" وانا فكرت كذلك في البداية بل رفضت تعيينها وهي لم تتجاوز عامها الثامن عشر ولكنني لاحظت منذ بداية عملها مدى فطنتها وذكائها الحاد فصببت إهتمامي عليها ومع مرور الوقت زاد إعتمادي عليها حتى قررت أخيرا منحها هذا المنصب المهم وأحد أسباب ذلك هي ثقتي الشديدة بها كونها تعتبر بمثابة قريبتي وليست فقط موظفة عندي .."
هزت رأسها بتفهم بينما توقف هو عن حديثه عندما تقدم النادل وهو يحمل الأطعمة معه ..
تأملت ليلى الطبق الذي وضعه النادل أمامها بتردد لاحظه كنان فهتف بإهتمام :-
" صدقيني لن تندمي ..."
رفعت عينيها العسليتين نحوه فتلاقت بعينيه ليبتسم لها بثقة أجبرتها على مد شوكتها نحو الطعام وتذوق قطعة صغيرة من الطعام ...
تأملها وهي تقضم تلك الصغيرة وشفتيها الجذابتين بذلك اللون الرقيق الذي يزينهما فوجد جبينها يتغضن للحظات وهي تتذوق طعمه فيسألها بترقب :-
" ها .. ما رأيك ...؟!"
أجابت وهي تمسح فمها بالمنديل :-
" لا بأس به .."
هتف مبتسما داخله :-
" كلما تتذوقين لقمة منه كلما ستشعرين بطعمه أكثر ويعجبك أكثر ..."
نظرت له بنصف عين ليمنحها إبتسامة صامتة قبل أن يطرق برأسه ويبدأ في تناول طعامه عندما نظرت هي الى الطبق مجددا وهي تفكر إن طعمه لم يكن سيئا كما توقعت فجذبت قطعة أخرى صغيرة منه وتناولتها بصمت وشعرت بالفعل إنها بدأت تتذوق طعمه بشكل أفضل ولم تشعر بنفور منه ...
أخذت ليلى تتناول الطعام ببطأ وقد أعجبها الطعام عموما لكنها توقفت قبل أن تنهي نصف الطبق حتى حيث وضعت شوكتها جانبا وعادت تمسح فمها بالمنديل ليسألها بإهتمام :-
" هل شبعت أم إن الطعام لم يعجبك ..؟!"
ردت بصدق :-
" كلا ، إنه لذيذ عموما لكنني شبعت ..."
أضافت بجدية :-
" لا يمكنني تناول المزيد حقا .."
هز رأسه بتفهم قبل أن يسألها :-
" هل تشربين النبيذ ..؟!"
ردت بسرعة :-
" بالطبع لا ..."
أكملت بصوت حازم :-
" لا أتناول الخمور بكافة أنواعها ..."
هز رأسه بتفهم دون رد عندما سألها مجددا :-
" إذا ما رأيك أن نذهب الى الساحل بعد قليل .. سيكون الجو هناك رائعا ..."
هزت رأسها موافقة ولم تستطع رفض طلبه ليبتسم هو بصمت مريب كعادته ...
......................................................
في احد المقاهي المطلة على أحد شواطئ روما الشهيرة كانت ليلى تجلس وأمامها يجلس كنان عندما تقدم النادل ووضع أمامهما ما طلباه من مشروب ...
هتفت ليلى بصدق وهي تتأمل مياه الشاطئ القريبة منها :-
" المكان رائع حقا .."
هتف كنان مبتسما :-
" هذا المقهى المفضل بالنسبة لي .. عندما آتي الى هنا أزوره بشكل شبه يومي ..."
جذبت قدح عصيرها ترتشف منه القليل قبل أن تضعه مكانه وهي تتسائل بتردد :-
" هل يمكنني سؤالك عن شيء ما ..؟!"
" بالطبع ..."
صمتت للحظة تقلب أفكارها داخل رأسها قبل أن تنطق بتروي :-
" في الحقيقة انا لا أشعر بالراحة حيال الكثير من الأمور التي تخص شراكتنا .."
رفع حاجبه يتسائل :-
" أمور مثل ماذا ..؟!"
أجابت بصراحة رغم لهجتها الحذرة عموما :-
" الشراكة بأكملها لا تجعلني أشعر بالراحة ..."
توقفت عن الحديث ليسألها بتروي :-
" هل أنت نادمة على شراكتك معي ..؟!"
هزت رأسها وهي تجيب :-
" نعم ، نادمة كثيرا .."
سألها وهو يتراجع بجسده الى الخلف :-
" لماذا ..؟!"
ردت بصدق :-
" لإنني أعلم جيدا إن لديك أهدافا محددة وراء هذه الشراكة .. أهدافا لن تعجبني ورغم هذا وافقت فقط لأجل أنقاذ شركة والدي بوضعها الحالي ..."
همس وهو يرمقها بنظرة إعجاب لا إراديه بسبب صراحتها وهدوئها وعفويتها التي لم تؤثر على هدوئها ورقيها وهي تتحدث :-
" هل تعتقدين إن أهدافي تلك ستضرك أيا كانت نوعها ..؟!"
ردت بنفس الصدق :-
" نعم ، أعتقد ذلك .."
أضافت وهي تنظر له بثبات :-
" في البداية كنت أعتقد إن شراكتك لي مرتبطة بعرض الزواج والآن أصبحت أشك في أمر مختلف .."
أكملت ولهجتها كانت قوية ثابتة كليا :-
" لقد رأيت نديم ذلك اليوم ... رأيته في شركته وعقلي لا يقبل التصديق إن وجوده في شركته في نفس وقت شراكتنا محض صدفة ..."
ابتسم بصمت .. صمت امتد للحظات بينما عيناها كانت تنظران لعينيه بترقب ليهمس أخيرا :-
" حسنا توقعت ذلك .. كنت واثقا إنكِ رأيته ذلك اليوم فأنت وصلتِ الى مكتبي بعد خروجه بقليل ..."
اومأت برأسها ليضيف بجدية :-
" هناك شيء ما يجمعني بنديم ..."
توقف للحظة يتأمل حيرة عينيها فيضيف :-
" لكن ما يجمعني به بعيد عنك تماما ... "
توقف لوهلة ثم أكمل :-
" عليك أن تعلمي شيئا مهما يا ليلى .. انا عندما عرضت الزواج عليكِ جعلتك منطقة محظورة للجميع ... بمعنى إنه لا أنا ولا غيري يمكنه المساس بك أو مجرد التفكير بك بطريقة غير لائقة لذا إياك أن تفكري أو تشكي ولو قليلا إنني قد أستغلك بهذه الطريقة وأنا أريدك زوجة لي ..."
أخفت توترها بمهارة وهي تسأله بتحدي :-
" لكنك كنت ستفعل لو لم تفكر بي كزوجة ..؟!"
رد مستمعتا بتجاوبها معه مجددا :-
" نعم ، سأفعل ولن أنكر هكذا .. لكن لم أكن لأستغلك بتلك الطريقة التي تخطر على بالك .. يعني لن أسعى للتقرب منك مثلا وخداعك .. انا لا أحب الخداع بل انا شخص صريح جدا .. وواضح جدا يا ليلى ..."
سألته بتردد :-
" ما يجمعك بنديم ، عداوة أم صداقة ..؟!"
سألها بدوره :-
" وهل يفرق معك ..؟! إذا كان ما يجمعني به عداوة فماذا ستفعلين ..؟! هل ستطلبين مني عدم إيذاءه ..؟! هل ستترجيني لأبتعد عنه ..؟!"
أكمل عن قصد :-
" أم ستنفذين ما أريده لي فقط لأجل حمايته مني ..."
إتسعت عيناها بعدم تصديق لتنتفض من مكانها وتجذب حقيبتها وتهم بالمغادرة ليقف بدوره ويقبض على ذراعها فيجذبها نحوه لتنظر إليه بعينين حادتين بدتا كنيران لاهبة حارقة جذبته نحوها دون رحمة عندما همست من بين أسنانها وعيناها هبطتا نحو كفه التي تقبض على ذراعها :-
" اتركني ..."
هتف بتروي :-
" إسمعيني اولا يا ليلى .."
هدرت وقد بدأت تفقد تعقلها :-
" إتركني وألا سأفتعل فضيحة لك هنا ..."
قال بثقة :-
" لست انت من تفعل هذا ..."
هتفت بقوة :-
" لا تختبر صبري يا كنان ..."
أضافت وهي تنظر له بتحدي ووهج عينيها عاد يجذبه في أعماقه دون رحمة :-
" إتركني .."
حرر ذراعها من كفه فتركته بسرعة متجهة خارج المكان بخطوات راكضة تاركة إياه يتابعها بضيق جلي ..
خرجت من المقهى ودموعها تراكمت داخل مقلتيها تهدد بالهطول عندما إتجهت نحو الساحل تسير فوق الرمال قبل أن تتوقف وتميل بجسدها نحو الأسفل تخلع حذائها عنها وتحمله معها وهي تعاود السير أمام الشاطئ بصمت والدموع تتدفق فوق وجنتيها بغزارة ...
لا يعرف كم آلمتها كلماته فهو ذكر تلك النقطة التي تشكل حاجزا منيعا بالنسبة لها ..
لقد عبث بتلك النقطة الحساسة جدا لها ...
لقد قفز دون وعي الى الشيء الذي تجاهله طويلا عن عمد حيث لم يكن لديها خيار سوى ذلك ...
توقفت أمام الشاطئ تنظر إليه بعينيها الحمراوين وتلك الدموع التي تغطي وجهها الحسن تهمس لنفسها بصوت لا يسمع :-
" ليلى الغبية .. الحمقاء .. المضحية ..."
كانت تنعت نفسها بصفات لا تشبهها ولا تليق بها لكنها باتت ترى نفسها كذلك بالفعل وهذا أسوء ما في الأمر ...
شعرت بصوت أنفاس متقطعة خلفها فتخشب جسدها وتلك النبرة تغزو قلبها وروحها :-
" لو تعلمين كيف تبدين في هذه اللحظة ..؟!"
نبرته العميقة بها شيء يجذبها كالمغناطيس .. شيء لا تفهمه ..
كل شيء به مبهم .. نظراته ، حديثه ، نبرة صوته وحتى صمته مبهم ورغم هذا تنجذب لكل هذه التفاصيل دون وعي منها .. بلا حول او قوة ...
هو رجل مختلف لا يشبه الرجال الذين رأتهم في حياتها ..
لا يشبه الرجل الذي عشقته حد النخاع والموت ولا الآخر الذي تزوجته ..
رجل مختلف ... وهذا الإختلاف غريبا عليها وجديدا للغاية ...
نطقت بلا وعي :-
" كيف أبدو ..؟!"
رد وعيناه تتأملان شعرها المسترسل بخصلاته الشقراء المموجة الطويلة وذلك الفستان القصير الذي يحتضن جسدها الجذاب ببياضه الناصع وقدميها الحافيتين وسط الرمال الذهبية :-
" تبدين كالشمس وسط الظلام ... "
همست ساخرة عن قصد :-
" بل أبدو كالشمعة التي تحترق لأجل الجميع ...!!"
شهقت عندما وجدته يقبض على ذراعها مجددا ويديرها نحوه لتتجمد تماما وهي ترى تلك النظرات في عينيه ..
نظرات مليئة بالشغف ... الشغف الذي أشعل لهيب روحها ..
نظراته عميقة جدا وشغوفة جدا ..
سألها بصوت رجولي رخيم :-
" لماذا تبكين ..؟!"
أضاف وعيناه تتأملان وجهها بقوة تشع منهما :-
" لا يليق البكاء بك يا ليلى ... أميرة مثلك لا يجب أن تبكي ..."
أضاف وكفه تحرر ذراعها وتتجه نحو شعرها فتنزلق أنامله السمراء داخل خصلاتها الشقراء :-
" إذا كنت تعتقدين إن تضحيتك السابقة غباء فأنت مخطئة وإذا كنت تعتقدين إنك لم تجني شيئا بسبب تضحيتك هذه فأنت مخطئة ..."
نظرت له بعدم تصديق ليبتسم بخفوت وهو يهز رأسه مرددا :-
" أنا أعلم كل شيء ...."
تجمدت ملامحها من جديد ليضيف وأنامله تهبط نحو وجنتها البيضاء الرطبة :-
" هل تريدين أن تعرفي رأيي بكِ بعدما عرفته عنكِ وعن تضحيتك تلك ...؟!"
ظهر التأهب عليها ليكمل وإبهامه يتوقف جانب شفتيها :-
" تسائلت إذا ما كان يوجد إمرأة مثلك تمتلك هذا القدر من القوة والإخلاص ...؟! إمرأة بقدر ما تحمل من جمال خارجي يوجد داخلها جمال لا يضاهيه جمال ...!!! إمرأة نقية كالماس .. ثمينة كالروح وأكثر ..."
توقف عن حديثه للحظة ثم أكمل :-
" ورغم إنني حسدت ذلك الغبي لكنني شكرته .. نعم شكرته لإنه إبتعد عن طريقك ... وأشفقت عليه أيضا .. أشفقت عليه كثيرا يا ليلى .. فهو ترك جوهرة ثمينة مثلك لا يمكن تعويضها ..."
همست أخيرا بضعف :-
" كنان ..."
قاطعها بثبات :-
" لكنني أثق جيدا إنني سأفعل ... منذ أن وضعك الله في طريقي وقد عاهدت نفسي أن أحافظ على تلك الجوهرة حتى آخر أنفاسي .."
أكمل وعيناه تحاوطان عينيها بنظرة آسرة :-
" سأفعل كل شيء لأجلها وأمنحها كل شيء ... "
أطلق تنهيدة طويلة وهو يضيف :-
" أنت أثمن شيء أريده يا ليلى وسأناله .. "
أكمل بثقة :-
" ستكونين لي يا ليلى .. انا واثق من هذا .. هل تعلمين لماذا أنا أثق بحدوث هذا ...؟!"
ورغما عن كل شيء ظهر التساؤل في عينيها ليبتسم هو ويقول :-
" لإنني أريدك فعلا وقولا ... لإنني أريدك الى الأبد ... لإن الله يعلم ما هي نيتي اتجاهك ويعلم ما أحمله نحوك وما ينتظرك مني .... لإن جوهرة مثلك لا يستحقها سوى رجل يدرك قيمتها ويعرف جيدا كيف يعتني بها ويحافظ عليها من أبسط الأشياء ..."
أنهى كلماته وعيناه طوقتا عينيها بنظرة طويلة ثابتة مليئة بالشوق والشغف لترتجف شفتيها لا إراديا ...
إنحدرت نظراته نحو الأسفل حيث موضع شفتيها فإرتجف جسدها كليا وهي تتخيل ما هو مقدم عليه ...
لم يستطع منع نفسه .. لم يستطع المقاومة ...
هبط بشفتيه نحو شفتيها ولامس شفتيها برقة ..
قبلة خفيفة فوق موضع شفتيها ...
شفتاها بالكاد لامست شفتيها وهناك فقاعات نارية تفجرت داخله بينما إختلطت هي مشاعرها كليا ولم تفهم ما يحدث معها لكنها سرعت ما دفعته وهي تتجه راكضة بسرعة بعيدا عنه ومعها حقيبتها وحذائها ...
..............................................................
في صباح اليوم التالي ...
إستيقظت من نومها لتجده يقف أمام المرآة يمشط شعره فسألته وهي تعتدل في جلستها :-
" إلى أين ستذهب ..؟!"
أجابها وهو يستدير نحوها بعدما أعاد المشط الى مكانه :-
" لدي عمل هام ..."
نظرت له بتوجس ليضيف بجدية :-
" بالمناسبة ، موضوع الجامعة سيتم حل آمره خلال أيام ... يمكنك البدء غدا في دوامك حتى يتم حل الموضوع بشكل نهائي ..."
ابتسمت بحماس وهي تنهض من مكانها :-
" حقا ..؟! الحمد لله .."
ثم تقدمت نحوه تحتضنه بعفوية وهي تشكره بفرحة غامرة :-
" شكرا لك كثيرا يا نديم .."
عانقها بدوره وهو يردد :-
" لا مجال للشكر بين الزوج وزوجته ..."
ابتعدت عنه قليلا تخبره بحب :-
" سأعد طعام الفطور لك .."
ثم تحركت الى الخارج بحماس دون أن تنتظر رده ليراقبها مبتسما وذلك الحماس منحه دفعة من الطاقة الإيجابية لبداية يوم جديد ...
تقدمت حياة بحماس نحو المطبخ لتعد طعام الفطور عندما شعرت بدوار خفيف يسيطر عليها لتستند بكفها على الحائط للحظات حتى عاد توازنها الى وضعه الطبيعي ..
وضعت كفها فوق رأسها بإرهاق داهمها فجأة قررت تتجاوزه وهي تتجه لإعداد الفطور كما أرادت ...
بعد لحظات تقدم نديم نحوها ليجدها تعد البيض المقلي وقد وضعت إبريق الشاي فوق الطباخ ليهمس وهو يسحب احد كراسي الطاولة الدائرية ويجلس عليه :-
" هل تحتاجين لمساعدة ما ...؟!"
ردت وهي تلتفت له مبتسمة :-
" كلا ، شكرا ..."
ثم عادت تنهي ما تفعله ...
تقدمت بعد لحظات وهي تضع طبق البيض أمامه ثم جهزت كوب قهوته ووضعته أمامه قبل أن تصب الشاي لها فتشعر بنفس الدوار مجددا للحظات قبل أن يختفي فتتنهد بحيرة وهي تحمل كوب الشاي خاصتها وتتقدم نحو نديم وتجلس أمامه ...
بدئا بتناول الطعام عندما قالت بجدية :-
" سأتحدث مع مي بعد الفطور كي ترسل لي جميع المحاضرات التي أخذتها في الفترة السابقة ..."
سألها بإهتمام :-
" هل أخذوا الكثير من المحاضرات ..؟!"
ردت بجدية :-
" لا تقلق .. ليس كثيرا للغاية ..."
أضافت تشاغبه :-
" وحتى لو كان ذلك .. لدي زوجي حبيبي يساعدني ويشرح لي جميع المواد .."
ابتسم مرددا بخفة :-
" أشرح لك ما تريدين ولكن ليس دون مقابل ..."
عبست ملامحها وهي تردد :-
" مقابل ..؟!"
أضافت تسأله :-
" وما المقابل الذي تريده يا بك ...؟!"
رد وهو ينحني نحوها :-
" مقابل كل صفحة أشرحها قبلة ..."
تخضبت وجنتيها بحمرة شديدة ليبتسم مرغما عندما تمتمت وهي تجذب كوب الشاي وترتشف منه :-
" توقف عن المزاح .."
ضحك مرغما على منظرها لتهتف بعفوية :-
" ولكن حقا أنت رائع في شرح المواد .. هل تتذكر تلك المادة التي شرحتها لي ورغم صعوبتها إلا إنني حصلت على إمتياز فيها بعدما شرحتها لي وجعلتها بسيطة جدا .. انت صيدلاني رائع يا نديم ..."
تجهمت ملامحه كليا عندما نطقت جملتها الأخيرة ليبتلع القهوة مرغما ثم يقول بهمس :-
" لم أعد صيدلانيا يا حياة .."
تأملت ملامحه وقد أدركت خطأها فهمست بنبرة متأسفة :-
" نديم انا ..."
أوقفها بإشارة منه :-
" لا يهم يا حياة .."
ثم عاد يرتشف قهوته بصمت دون أن ينظر نحوها لتزم شفتيها بعبوس وهي تؤنب نفسها على تصرفها الأحمق ..
حملت كوبها مجددا وحاولت أن ترتشف الشاي لكنها لم تستطع فنهضت من مكانها وتوجهت نحوه لينظر لها بدهشة عندما وقفت أمامه مباشرة وأحاطت وجهها بين كفيه تخبره وعيناها تنظران نحو عينيه بثبات :-
" أنت صيدلاني رائع يا نديم ... "
أكملت بقوة وسيطرة تامة :-
" حتى لو قال الجميع عكس ذلك .. ستظل هذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها ... يكفي أن يدرك الله إنها حقيقة .. يكفي أن تدرك أنت إنها حقيقة ... حتى لو لم يصدقك أي أحد .. حتى لو كذبك الجميع .. يكفي إن الله عز وجل يصدقك ..."
أكملت وهي تنحني بجسدها نحوه فيقابل وجهها وجهه لتبتسم وهي تضيف :-
" يوما ما سيدرك الجميع الحقيقة فالباطل لا يدوم مهما طال والحق سيظهر عاجلا أم آجلا ..."
سألها بتردد :-
" هل تعتقدين ذلك ..؟!"
ردت بثقة :-
" بل متأكدة منه ... الله لا يترك عبدا مظلوما للأبد .. لا بد أن يأتي يوم ويرد له حقه ويثبت إنه كان مظلوما أمام الجميع ..."
ابتسم هو هذه المرة عندما مال يقبل كفها الذي يحيط وجهه قبل أن ينهض من مكانها فتهبط كفيها أرضا ليحيط بكفيه وجهها ويهمس لها بصدق :-
" لولاك ما كانت هناك حياة يا حياة ..."
إبتسمت بإشراقة ليطبع قبلة فوق شفتيها وهو يردد :-
" حفظك الله لي يا حياتي ..."
عانقته بسرعة وهي تهمس :-
" وحفظك الله لي يا حبيبي ..."
شدد من عناقها وهو يستنشق عبيرها الرائع قبل أن يبعدها عنه وهو يردد :-
" سأشتاق لك حتى أعود .."
ضحكت برقة تخبره :-
" عد بسرعة إذا ..."
قال وهو يغمز بعينيه لها :-
" لن أتأخر .."
هم بالتحرك عندما شعر بكفها تقبض على قماش قميصه لينظر لها متسائلا بقلق :-
" ماذا هناك يا حياة ..؟!"
جلست على الكرسي خلفها وهي تهمس بصوت ضعيف :-
" دوار خفيف .. لا تقلق ..."
وضع كفه فوق وجنتها يتسائل :-
" هل تشعرين بشيء ما غير الدوار ..؟!"
هزت رأسها نفيا وهي تخبره :-
" انا بخير .. لا تقلق .."
قال بجدية :-
" لنذهب الى الطبيب .."
قاطعته بسرعة :-
" انا حقا بخير يا نديم ..."
نظر لها بتوجس لتبتسم تطمأنه :-
" لا تقلق ... هيا إذهب الى عملك .. ستتأخر .."
هتف بجدية :-
" لن أذهب الى أي مكان .. لا يمكن أن أتركك وأنتِ بهذه الحالة ... ماذا لو أصابك مكروه ما وأنا لست هنا ...؟! "
" ولكن يا نديم .."
أوقفها بحزم :-
" ربما يصيبك الدوار مجددا وانا في الخارج ... ماذا ستفعلين حينها وأنت هنا وحدك ... سأبقى معك ..."
أضاف وهو يشير لها :-
" إذهبي الى الغرفة وإرتاحي قليلا وأنا سأنظف المكان ..."
أرادت أن تعترض لكن النظرة الحازمة في عينيه جعلتها تهز رأسها على مضض قبل أن تنهض من مكانها وتتحرك نحو غرفتها حيث جلستَ فوق سريرها وعاد شعور الإرهاق يسيطر عليها لتغمض عينيها وهي تسترخي فوق سريرها بسلام ..
.....................................................
خرجت من جناحها وهي ترتدي ملابس رسمية مكونة من بنطال أسود اللون فوقه ستره سوداء يوجد أسفلها قميص ذو لون أزرق غامق ..
شعرها الأشقر مرفوع عاليا بتسريحة بسيطة ووجها زينته بالقليل من مساحيق التجميل لتخفي آثار عدم نومها ليلة البارحة ...
لقد قضت الليل بأكمله تتذكر ما حدث ...
كلماته لها وحديثه عنها بتلك الطريقة وقبلته ..
كم نهرت نفسها على ما حدث رغم كونها لم تكن واعية تماما لما يحدث ...!!
ورغما عنها أخذت تلوم نفسها مجددا وتفكيرها أخذ يأخذ مسارات عديدة كلها مرهقة لروحها ..
تارة تلوم نفسها وتارة تلومه ..
تارة تخبر نفسها إن كل شيء حدث بسرعة ودون إرادة منها وتارة تشعر إنها تداركت رغبته وصمتت أمامها ...
أفكارها متداخلة كليا ومتشعبة بشكل قاسي على قلبها ...
لم فعل هذا ..؟! لم قال ما قاله ..؟! لمَ فعل ما فعله ..؟! لمَ إقتحم حياتها بكل ما فيها ..؟! لمَ زعزع ثباتها التي جاهدت لتناله ...؟! لمَ أتى ودمر كل شيء ..؟
من أين ظهر كنان هذا ..؟! أي حظ عاثر أوقعها معه ..؟!
كنان رجل خطير جدا كما أدركت من المرة الأولى التي رأتها فيه ..
رجل يرهق أعصابها بنظراته الغامضة وإسلوبه المنمق وجميع تصرفاته ..
رجل دخل حياتها وتغلغل داخلها بسرعة ودون إدراك منها لتجد نفسها بين ليلة وضحاها مرتبطة به ...
نعم هناك رابط خفي يجمعها به .. رابط لا تدرك ماهيته لكنها تشعر به جيدا ...
توقفت عن أفكارها وهي تتأمله مكانها للحظات وهو جالسا على احدى الطاولات يتناول قهوتها بهدوء منتظرا قدومها ليذهبا الى فرع الشركة ..
كان يجلس بهدوء وثقة كعادته .. يرتشف قهوته ونظراته مرتكزة فوق جهازه اللوحي ..!!
تأملته بتلك الجلسة فإضطربت مشاعرها تماما وفكرة أن تتقدم نحوه وتعمل معه ترهبها رغما عنها ...
أخذت نفسا عميقا تحاول منح الثبات لنفسها ...
تخبر نفسها إنها مجرد قبلة لا تكاد تذكر ...
سارت بخطواتها البطيئة نحوه ليرفع وجهه لا إراديا وكأن حدسه أنبأه بقدومها ليمنحها نفس الإبتسامة الرسمية المهذبة التي يرسمها على وجهه كلما رآها فتسارعت أنفاسها بقوة لتحاول تهدئة نفسها وهي تقف أمامه تخبره بإقتضاب :-
" صباح الخير ..."
رد بهدوء :-
" صباح النور .."
أضاف وهو ينهض من مكانه برسمية :-
" هل أنت جاهزة للذهاب ..؟!"
هزت رأسها وهي تجيب :-
" نعم ، جاهزة .."
سارت جانبه حيث خرجا من الفندق وركبت في السيارة المخصصة له حيث تحرك السائق متجها بهما الى مقر الشركة ...
هبطا من السيارة حيث وجدا جوان تستقبلهما بإبتسامتها المرحبة في المقدمة ليتجه الثلاثة الى مكتب المدير العام والذي تعمل به جوان غالبا كنائبة عن كنان ...
جلس كنان في مقدمة المكتب بينما ليلى على الكرسي المقابل له لتسألهما جوان بسرعة عما يحبان تناوله قبل أن يبدأ الإجتماع بينهم هم الثلاثة حيث تحدثوا عن التصاميم التي جهزتها جوان مسبقا وقد إنبهرت ليلى حرفيا بمدى روعة التصاميم ...
إندمجت ليلى في الحديث عن العمل متناسية ما حدث حتى مرت حوالي ساعتين قبل أن ينتهي الإجتماع لتبتسم جوان وهي تهتف بعملية :-
" إذا إتفقنا على أهم الأمور .. سأخبر الجميع أن يصمموا كل شيء كما تريد ..."
ثم خرجت من المكتب بعدما سألتهما عما يحبان تناوله مجددا حتى تعود ...
ظل كلاهما جالسا مكانه بصمت عندما نهض كنان مرددا وهو يشير الى تلك الكنبة التي توجد قرب النافذة وجانبها كرسيين :-
" تفضلي نجلس هناك ..."
نهضت من مكانها تحمل حقيبتها وتتجه نحو الكنبة يتبعها هو عندما جلست فوق الكنبة تضع قدما فوق الأخرى وجلس هو على احد الكراسي الجانبية ليتقدم موظف البوفيه وهو يحمل القهوة لكليهما ..
غادر الموظف لتدخل جوان بعده مباشرة وهي تبتسم قائلة :-
" كل شيء سيتم بأفضل مما أردتما ..."
هتف كنان بجدية :-
" لا شك لدي في هذا يا جوان ..."
منحته جوان إبتسامة رائقة ثم نظرت الى ليلى تخبرها :-
" سعدت حقا بمعرفتك يا هانم ..."
أكملت وهي تتأملها بإعجاب :-
" يليق بك حقا أن تكوني سيدة أعمال ..."
تنحنت ليلى تتمتم :-
" لم أصبح بعد .. ما زلت جديدة في هذا المجال .. "
سألتها جوان بإهتمام :-
" كيف يعني ..؟! ألست مديرة شركات آل سليمان ..؟!"
قاطعها كنان موضحا :-
" ليلى هانم تولت إدارة الشركة مؤقتا حتى يستعيد والدها صحته ويعود لإدارة الشركة بدوره ..."
سألتها جوان بفضول :-
" هل تعملين في مجال آخر ..؟! "
رغما عنها تذكرت ليلى إنها لم تدخل ميادين العمل طوال تلك السنوات فنطقت بحسرة لم يشعر بها سوى كنان :-
" كلا ، لم أعمل من قبل للأسف .."
قالت جوان :-
" برأيي أن تضعي تركيزك في عملك الحالي ... هذه فرصة ذهبية لإثبات وجودك في عالم التجارة .. "
قالت ليلى بجدية :-
" انا لا أميل لهذا النوع من الأعمال .."
سألتها جوان مجددا :-
" ما هو تخصصك الدراسي ...؟!"
هتف كنان بخفة :-
" ما كل هذه الاسئلة عزيزتي جوان ..؟!"
مازحته جوان :-
" انا فقط أحب التعرف عليها عن قرب عزيزي كنان ..."
راقبت ليلى ابتسامة كنان الودودة عندما همس لها بشيء ما بالإيطالية لتجيبه جوان بعدما ضحكا بصوت مرتفع قليلا بنفس اللهجة ...
ولأول مرة تشعر ليلى بالضيق لإنها لا تجيد الإيطالية فهي تتقن الحديث باللغتين الإنكليزية والفرنسية وعندما أرادت والدتها أن تتعلم لغة ثالثة فضلت الألمانية والتي تركتها ليلى في المنتصف بعد أن تعلمت أساسياتها ...
سمعته يتحدث مجددا بتلك اللكنة التي بدت جذابة رغم كونها لم تفهم منها شيئا فعاد شعور الضيق يسيطر عليها فهما يتحدثان بلهجة لا تدركها وكأنها لا محل لها من الإعراب ...
أنهى كنان حديثه بنفس الإبتسامة الودودة فرفعت ليلى حاجبها بتعجب ورغما عنها تسائلت إذا ما كانت جوان إحدى عشيقات كنان التي سمعت من نائلة عنهن ..
بالطبع ممكن أن تكون عشيقه ، هكذا فكرت وهي تتأمل الفتاة العشرينية بجمالها الغربي الجذاب وملابسها البسيطة وجسدها النحيل ...
أشاحت بصرها بعيدا عنهما عندما سمعت صوت جوان يتسائل من جديد :-
" لم تخبريني ما هو مجال دراستك يا ليلى هانم ..؟!"
ردت ليلى وهي تنظر لها بجمود :-
" علاقات عامة .."
ثم نهضت من مكانها تشير الى كنان بنفس الجمود :-
" هل يمكنني المغادرة الآن ..؟!"
نهض كنان من مكانه مرددا بسرعة :-
" بالطبع ... لقد إنتهى عملنا أساسا .."
ثم نظر الى جوان يخبرها :-
" سأغادر الآن وآتي غدا الى الشركة كي أطمئن على سير العمل قبل سفري صباح اليوم الذي بعد الغد .."
ابتسمت جوان عندما قبلها من وجنتيها وهو يودعها لتسير ليلى أمامه بعدما ودعتها جوان وملامحها يسيطر عليها الضيق والتعب في آن واحد ..
ركبت جانبه في السيارة عندما تحرك السائق ليسألها كنان بعملية :-
" أتمنى أن يكون كل شيء على ما يرام ونال إعجابك ..!!"
ردت دون أن تنظر نحوه :-
" كل شيء جيد للغاية ..."
ثم أخذت تنظر اتجاه النافذة تتأمل الشوارع الخارجية عندما رن هاتفها برقم شقيقتها فسارعت تجيبها ليأتيها صوت مريم الباكي تهمس بإسمها فتسائلت بصوت مرتعب :-
" ماذا حدث يا مريم ..؟! لماذا تبكين ...؟!"
ثم توقفت أنفاسها داخل صدرها بينما إنتبه كنان لها ليأتيها صوت مريم بنبرة تسمعها من شقيقتها للمرة الأولى :
" أكرم يا ليلى ... أكرم تزوج ..!!"
................................ .............................................
" توقف من فضلك ..."
قالتها ليلى بلا وعي عندما أشار كنان الى السائق أن يتوقف فهبطت ليلى من السيارة بسرعة وإتجهت نحو الرصيف الجانبي وهي تسأل محاولة تهدئة شقيقتها :-
" من أخبرك بهذا ..؟! كيف عرفت ..؟! اهدئي ودعيني أفهم يا مريم .."
جاءها صوت مريم الباكي بشهقات متتالية :-
" لقد رأيت صورة زفافه على حسابه الشخصي .. شاركها منذ قليل ... هو وفتاة أراها للمرة الأولى معه .. لقد تزوج يا ليلى .. بهذه البساطة .. تخلى عني وكأنني شيئا لا يذكر .. شيء لا قيمة له ...."
إرتجف جسد ليلى كليا بينما قلبها يتمزق حزنا على شقيقتها والتي لأول مرة تسمع نبرة كهذه منها .. نبرة تدل على الإنكسار .. الألم والمرارة ...
لم تعلم ما يجب أن تقوله فوجدت نفسها تشاركها بكاءها بصمت ...
دموعها تساقطت فوق وجنتيها بغزارة عندما سمعت مريم تهتف بحرقة :-
" اللعنة عليه .. اللعنة على معشر الرجال جميعا ... والله سأحرق قلبه .. اقسم لك يا ليلى إنني سأحرق قلبه ..."
أنهت كلماتها بشهقة باكية ليختفي صوتها بعدها فتهتف ليلى بسرعة من بين دموعها :-
" توقفي يا مريم ..."
لكن مريم كانت قد أغلقت هاتفها فحاولت ليلى الإتصال بها مجددا لتجد هاتفها مغلقا ..
ترنحت ليلى في مكانها بتعب قبل أن تتساقط دموعها مجددا وهي تستوعب ما حدث وتتذكر كلام شقيقتها وبكائها وإنكسارها ...
وضعت كفها فوق فمها تحاول كتم شهقاتها لكنها فشلت فإرتفع صوت نحيبها وكأن جميع الضغوط التي مرت بها تجمعت فوق روحها في هذه اللحظة ..
كانت تعتصر الهاتف داخل كفها ودموعها تتساقط بغزارة مع أنفاسها التي تعلو وتهبط ....
وجدت كنان يخرج من السيارة يتقدم نحوها مرددا بلهفة :-
" ماذا حدث يا ليلى ..؟! لماذا تبكين ..؟!"
تأملت اللهفة والإهتمام في عينيه ...
شعرت برغبة في أن ترتمي في أحضان أحدهم ولم يكن هناك سواه ..
أرادت أن تفعل لكنها تراجعت وهي تتذكر الواقع المرير ..
هو رجل .. مثله مثل جميع الرجال ..
همست بضعف تنفيه بعيدا عن محيط عذابها :-
" إبتعد .. دعني وشأني .."
همس بإصرار وهو يتقدم نحوها حتى وقف أمامها مباشرة :-
" لن أفعل .. لن أترككِ وأنت على هذه الحالة ..."
همست وهي بالكاد تسيطر على شهقاتها :-
" اتركني من فضلك .. انا متعبة تماما .. "
هتف بجدية :-
" أعلم .."
صاحت به بتمرد :-
" لماذا لا تتركني إذا طالما إنك تعلم هذا ..؟!"
رد ببساطة :-
" لإنني لا أريد ... لا أريد أن أتركك لوحدك .. لا يمكنني أساسا أن أتركك بهذه الحالة .."
هتفت وهي تمسح دموع عينيها :-
" انا بخير .. لقد توقفت عن البكاء .. هل يمكنك أن تذهب ..؟!"
سألها بهدوء :-
" لماذا تريدين مني الذهاب ..؟! لماذا تحاولين إبعادي عنك ..؟!"
صرخت بتعب :-
" لإنني لا أريدك جانبي .. لا أنت ولا غيرك ... لإنني لا أحتاجكم جميعا .. انا لا أحتاج أي أحد ..."
هتف محاولا احتواء ثورتها تلك :-
" ولكنك مثلك مثل جميع البشر .. لا بد أن تحتاجي أحدا ما تشاركينه آلامك ومشاكلك ..."
ضحكت وهي تشير إليه بإستخفاف متعمد :-
" وهل أنت ستكون هذا الشخص ..؟!"
تجاهل نبرتها المستخفة به وهو يردد ببساطة :-
" ولم لا ...؟! "
بدت وكأنها توقفت عن البكاء لتعقد ذراعيها أمام صدرهل تسأله ببرود :-
" حقا ..؟! دور جميل ... لكنه لا يليق بك .. "
أكملت وهي تتأمله بخفة :-
" لا يليق بك هذا الدور يا كنان .. "
" لا يمكنك أن تحكمي على شخص لا تعرفينه جيدا بناء على تجاربك السابقة يا ليلى .."
ضحكت مرددة :-
" حقا ..؟! هذا سيكون أفضل من تكرار التجربة مجددا وعيش نفس الألم مجددا .."
" ربما ستكون التجربة هذه المرة مختلفة .."
قالها بهدوء يناقض ثورتها العاصفة لتمنحه نظرة قاتمة وهي تردد :-
" بطل التجربة السابقة جمعني به عشق طويل وسنوات من العشرة ... جمعتني به صلة دم وقرابة .. "
أكملت وهي ترفع إصبعها نحوه :-
" ماذا عنك ..؟! ماذا عنك وأنا لم أعرفك إلا من مدة قصيرة ..؟! هل تعتقد إنني ليلى القديمة حقا ..؟! ليلى الساذجة التي ستصدق كلامك المعسول الذي تفوهت به البارحة وتنغمس معك بكل غباء حتى تستيقظ على صفعة قاسية لا أمل في تجاوزها ..."
قال بجدية :-
" انت لم تكونِ يوما ساذجة يا ليلى .. ما فعلتيه مسبقا لا يدل على السذاجة بل يدل على الإخلاص والقوة والتفاني والعطاء ..."
صاحت بمرارة :-
" وماذا جنيت من كل هذا ...؟! لقد خسرت كل شيء .. فقدت كل شيء حرفيا .. لم أجنِ شيئا سوى الألم والخسارة والعذاب وسنوات من عمري ضاعت هباءا ..."
" لا يهم ... كل شيء يمكن تعويضه يا ليلى .. الحياة لن تتوقف بسبب تجربة مؤلمة .. كم ضاع من عمرك ..؟! اربع سنوات ..؟! خمسة ..؟! ربما ستة ..؟! ستعوضينها ... ستعوضين ما فاتك .. سوف تسترجعين نفسك القديمة وتبدئين صفحة جديدة من حياتك ولكن ليس قبل أن تطوي الصفحة القديمة ..."
هدئت ملامحها قليلا وهي تستمع لما يقوله ليخبرها :
" هل تجربين شيئا ما ...؟!"
أكمل وهو ينظر نحوها بتدقيق :-
" شيئا حتما سيفيدك ..."
سألته بتردد :-
" شيء ماذا ...؟!"
مد كفه نحوها يخبرها :-
" تعالي معي ..."
نظرت نحو كفه بتردد فقال ممازحا :-
" لن أخطفك يا ليلى .. فقط تعالي معي ..."
لا تعرف لماذا شعرت بكونها تريد الذهاب معه ..
تريد معرفة ما يتحدث عنه ...
وضعت كفها داخل كفه بتردد ليقبض على كفها وهو يسير معها متجها الى الشاطئ الذي كان قريبا من المكان الذي يقفان فيه ..
وقفا أمام الشاطئ ليحرر كفها و يهتف بجدية لا تقبل مزاح :-
" خذي نفسا عميقا ..."
أضاف وهو يتقدم خطوة نحو المياه الصافية :-
" إفتحي ذراعيك وأنت تواجهين المياه الواسعة ثم ..."
توقف قليلا يتأملها وهو يضيف :-
" إصرخي بأعلى صوتك ..."
همست بدهشة :-
" أصرخ ..!!"
إبتسم بجاذبية يؤكد ما قاله :-
" نعم إصرخي ... حرري جميع ما يعتمل داخلك من تراكمات ... إصرخي بأعلى صوتك .. إشتمي إذا أردت وإلعني كل من تسبب بأوجاعك ... "
أنهى حديثه ببساطة كما بدأه :-
" لا تتوقفي حتى تخرجي جميع ما يعتمل داخلك ثم خذي نفسا عميقا بعدها وستشعرين حينها بشيء مختلف وكأن هناك روحا جديدا نشأت داخلك من جديد ..."
نظراتها بدت مبهمة لا توضح شيئا مما تفكر به فإبتسم بلطف لا يشبهه وهو يضيف وعيناه تجذبان عسليتيها بنظرة بدت لا نهاية لها :-
" جربيها ولن تندمي .. ثقي بي ..!!"
أنهى جملته وغادر تاركا لها المجال لتفرغ جميع ما في جبعتها هنا أمام تلك المياه الهادئة ...
نظرت أمامها للحظات بدت طويلة وكل الذكريات بدأت تتجمع داخل عقلها ..
ذكريات عشق ما زال آثره محفورا داخلها ...
ذكريات سنوات عاشتها في جحيم مع رجل دمرها كليا ..
كل شيء مر أمامها كشريط ...
منذ البداية .. بداية الحب والإعتراف به والإرتباط .. سجنه وزواجها من أخيه .. سنوات عايشتها وحيدة تماما تعاني بصمت .. خروجه ونبذه لها وخذلانها منه ... زواج والدها الصادم ... خيانته لوالدتها ..
كل شيء كان يظهر متسلسلا تباعا حتى توقفت أفكارها عند هذه اللحظة فصرخت بلا وعي ..
صرخة تليها الأخرى ...
صرخت عدة مرات وكأنها تريد تفريغ جميع آلامها هنا في هذا المكان ..
تريد تحريرها من موطنها الكامن داخل قلبها وروحها ..
تريد تحرير روحها من تلك الأوجاع والذكريات التي تقيدها ..
إستمرت في صراخها ..
صرخاتها كانت صامتة لكنها تحمل في صمتها الكثير من الكلام ...
عادت دموعها تتساقط مع صراخها .. تتساقط بغزارة .. تصاعدت شهقاتها حتى شعرت بطاقتها تنفذ فسقطت على ركبتيها أرضا ودموعها تهطل بغزارة وشهقاتها تعلو أكثر ..
بكت كثيرا .. بكت ماضيا لا تريد تذكره وحاضرا تريد تغييره ..
بكت حب ضائع وحياة جديدة تخشى مما ينتظرها فيها ..
بكت نفسها ووالدتها وشقيقتها وحتى والدها ..
بكت وبكت وبكت حتى توقفت عن البكاء أخيرا لتغمض عينيها بإستسلام ونسمات هواء رقيقة لفحتها فشعرت بالسكون يملأ كيانها ...
سكون غزاها تدريجيا حتى إحتل روحها وقلبها ففتحت عينيها مجددا لترى شعاع الشمس يسطع عاليا في السماء لتبتسم بخفوت وهناك يقين داخلها إن شعاعها هي سوف يسطع قريبا وتشرق شمسها من جديد ...
..................................................
بعد مرور يومين ..
كانت تتأمله وهو يشرب قهوته بصمت عندما سألته بإهتمام :-
" كيف يسير وضعك الحالي ..؟!"
رد نديم وهو يضع فنجانه فوق الطاولة :-
" جيد ..."
سألته بإهتمام :-
" هل بدأت حياة دوامها الجامعي ..؟!"
هز رأسه مجيب :-
" نعم ، هي الآن في الجامعة ..."
تمتمت بجدية :-
" تحدثت معها منذ يومين .. كانت تبدو سعيدة للغاية عكس ما كانت عليه في أمريكا .."
رد وهو يبتسم :-
" نعم هي سعيدة بالفعل .."
سألته وهي تنظر إليه :-
" وأنت ..؟! "
نظر لها بإستغراب :-
" ماذا تعنين بأنت ..؟!"
سألته وهي تضع فنجانها مكانه :-
" هل أنت أيضا سعيد ..؟!"
هتف بجدية :-
" بالطبع ، هل تعتقدين غير ذلك ...؟!"
تنهدت وهي تقول بتردد :-
" حاليا لا .. لكن مستقبلا نعم .."
سألها بتوجس :-
" مالذي تعنينه يا غالية ..؟!"
تحدثت غالية بتروي :-
" انا لا يعجبني ما تفعله يا نديم ... طريقتك مع حياة لا تعجبني .. السياسة التي تتبعها معها لا ترضيني .."
هم بالنهوض وهو يردد بحنق :-
" إذا كنت ستعودين الى نفس حديثك المعتاد فدعيني أغادر أفضل .."
أوقفته برجاء :-
" توقف يا نديم من فضلك .. عليك أن تفهم إنني أفعل هذا لأجلك .."
قال بجدية وهو يعود مكانه :-
" انا بخير وحياة كذلك .. اطمئني .."
سألته بجدية :-
" ألم تحبها ..؟! ألم تشعر بشيء نحوها ..؟!"
رد بإقتضاب :-
" جواب هذا السؤال تعرفينه منذ البداية .."
هتفت وهي تجاهد لضبط غضبها :-
" كلا يا أعرف يا نديم .. وأريد جوابا محددا ..."
رد بجمود :-
" ما بيني وبين حياة أعمق من الحب .."
هتفت ساخرة :-
" هذا ليس الجواب المطلوب .. الجواب يكون نعم او لا .."
رد بنفاذ صبر :-
" إذا لا ..."
همست مصدومة :-
" إذا لماذا فعلت كل هذا ..؟! مفاجئة وسهرة جميلةوالكثير .. "
رد بتعجب صادق :-
" ما الغريب فيما فعلته..؟! لمَ التعجب ..؟! أليست زوجتي ..؟! أليس من الطبيعي أن أفاجئها بين الفترة والأخرى ..؟! أليس من المنطقي أن نستجم سويا بين الحين والآخر مثل أي زوجين طبيعين ..؟!"
" هكذا فقط ... هل هذا هو السبب الوحيد ..؟!"
سألته بجدية ليرد :-
" وهل يوجد سبب آخر مثلا ..؟!"
هتفت بتروي :-
" ألا يمكن أن يكون تصرفك بدافع التعويض ...؟! تعويضها مثلا عن .."
وهنا توقفت عن الحديث ليكمل نيابة عنها :-
" الحب .. أليس كذلك ..؟!"
هزت رأسها بصمت ليهتف بصدق :-
" كلا يا غالية .. ليس بدافع التعويض .. حسنا انا فعلت ما فعلته لأجل إسعادها وانا بدوري كنت سعيد .."
" وهل ستبقى سعيدا يا نديم ..؟!"
سألته بمهادنة ليرد ببديهية :-
" لم لا ..؟! بالطبع سأبقى .."
ابتسمت هازئة وهي تهتف :-
" هل تعلم أين المشكلة الحقيقية يا شقيقي ..؟! المشكلة إنك خططت لحياتك الجديدة ونظمت مستقبلك وحياتك القادمة بأكملها بناء على معاييرك الجديدة ... معايير أنت تمسكت بها ... راحة وسكينة وطمأنينة ولكن الحب كان خارج هذه المعادلة .. والمشكلة الأكبر إنك نجحت .. نعم نجحت والدليل إنك مرتاح وسعيد ... نجحت في ترتيب حياتك بالشكل الذي تريده وحسب معايير محددة وحصلت على النتيجة المطلوبة لكنك تناسيت في خضم هذا كله حياة .. تجاهلت إنها الأخرى لديها معايير معينة للحياة .. كالحب مثلا .. الحب الذي تتجاهله أنت كليا بينما تتوق هي إليه بكل قطرة من روحها ..."
نظر لها بتشتت لتخبره :-
" هل تعلم أيضا ما هو الشيء الأسوء من عدم وجود الحب ..؟! تجاهله رغم وجوده يا نديم ..."
نظر لها بملامح باهتة لتكمل بقوة :-
" توقف عن تجاهل مشاعرك يا نديم ... توقف قبل أن تندم .."
قاطعها بتهكم مقصود :-
" تتحدثين وكأنكِ تدركين مشاعري يا غالية ..."
هتفت بتحدي :-
" نعم أدركها مثلما أدرك مدى إرتباطك بحياة .. مثلما سمعت تلك النبرة في صوتك حيت قررتما الإنفصال .. مثلما رأيت الهلع في عينيك من مجرد سماع فكرة فقدانها .. مثلما رأيت اللهفة في عينيك أيضا كلما تراها أمامك .. رأيت الحب في نظراتك وإهتمامك وسعادتك بوجودها حولك .. رأيت الحب في لهفتك عند سماع صوتها او مجرد ذكر إسمها ... رأيت الحب في تمسكك بها وتعلقك وانا التي لم أرك يوما متعلقا بواحدة على هذا النحو ... إذا كنت أنت تتعمد تجاهل كل هذا فأنا لا أفعل ..إذا كنت تتجاهل مشاعرك متعمدا فأنا لا يمكنني تركك هكذا .. لن أتركك على عنادك متمسكا بأفكارك تلك حتى يأتي اليوم الذي تخسر فيه حياة وحينها فقط ستدرك إنك تحبها ولكن سيكون الآوان قد فات بعدها ولن تصدق حياة مشاعرك لو أقسمت لها بحبك مرارا وتكرارا لإن لهفة الحب ستكون قد ماتت داخلها .."
إضطربت ملامحه كليا عندما أنهت حديثها بحزم :-
" اتمنى أن تراجع نفسك مجددا وتتوقف عن هربك المستمر من مشاعرك ... يكفي يا نديم حقا .. إذا لم يكن من أجلك فليكن من أجلها هي ... "
نهضت من مكانها ترمقه بنظرات هادئة وهي تضيف ببرود :-
" بالمناسبة الشيء الوحيد الذي يكون أعمق من الحب هو العشق ..."
ثم تحركت ببرود تاركة إياه متخبطا في مشاعره كالعادة وداخلها يقين إن هذه المواجهة ستغير شيئا ما ...
........................................
غادر منزل عائلته بملامح متجهمة وعقله لا يتوقف عن التفكير في حديث شقيقته الذي جاء في وقت غير مناسب على الإطلاق ...
أوقف سيارته على جانب أحد الأرصفة ينظر أمامه بصمت وعقله يتذكر كلماتها ..
عقله يخبرها إن شقيقته معها كل الحق فيما قالته فيعود قلبه ويأمره بالتجاهل ...
زفر أنفاسه بتعب وعاد يقود سيارته متجها الى شركة كنان الذي عاد من رحلته أخيرا ليتحدث معه ويخبره بقراره المهم الذي إتخذه في فترة غيابه ..
هبط من سيارته ودلف الى الداخل متجها نحو مكان المصاعد الكهربائية لكنه وجدها أمامه وجها لوجه ...
ليلى .. حبيبته الأولى وخطيبته سابقا ...
ليلى... الإمرأة الأولى في حياته ..
ليلى ... حبه الذي فقده مبكرا وعاش لسنوات يعاني حسرة فقدانه ..
ليلى .. شريكة الماضي المفعم بالجمال والأمل والسعادة ..
ليلى ... وجع الأمس وألم الروح ...
كان لقاءا لا بد أن يحدث يوما ما وقد حدث وها هما الآن يلتقيان بعد كل ما حدث ... بعد الفراق والألم .. بعد الحب والوجع ... بعد الشوق والحنين ....
نطق أخيرا :-
" ليلى ..."
كانت صدمتها أقل ... ربما لإنها رأته مسبقا هنا ...
تقدمت نحوه تحييه ببرود :-
" اهلا نديم .."
سألها وهو يتأمل وجهها المرهق :-
" كيف حالك يا ليلى .."
ردت بهدوء وهي التي عادت صباح البارحة الى البلاد لتعيش أجواء ليست جيدة على الإطلاق قبل أن تأتي صباح اليوم الى كنان للتوقيع على بعض الأوراق المهمة سريعا ولولا أهمية تلك الأوراق وضرورة توقيعها عليها ما كانت لتخرج من المنزل إطلاقا ...
سألها ويبدو إنه أدرك مكان وجودها أخيرا :-
" أنت ماذا تفعلين هنا ..؟!"
ردت بصوت عادي :-
" هناك شراكة تجمعني مع كنان نعمان .."
نظر لها بتوجس لتبتسم مرددة بخفة :-
" شراكة لا علاقة لها بما يجمع بينكما .."
عقد حاحبيه يتسائل :-
" ومن أين تعرفين ما يجمعنا ..؟!"
ردت ببساطة :-
" لا أعلم مالذي يجمعكما .. لكنني علمت بالصدفة إن هناك شيء ما بينكما عندما رأيتك هنا في احدى المرات وخمنت إن عداوتك مع عمار وعداوة كنان معه جمعتكما ..."
أردفت تسأله ببرود :-
" هل تريد الإنتقام ..؟!"
تأملها بصمت وتلك النظرة الباردة في عينيها مختلفة عليه لكنه أجاب بصدق :-
" نعم ، أريد الإنتقام يا ليلى .."
ظهر عدم الرضا في عينيها ليسأل بخفة :-
" ألا يعجبك ذلك ..؟!"
ردت ببساطة :-
" واقعيا لا يهمني ... ولكن برأيي ألا تفعل ..."
أضافت وهي تشرد بنظراتها بعيدا :-
" أنت لن تستطيع التغلب عليه .. ليس لإنه الأقوى ..ولكن أساليبه القذرة ستقضي على جميع محاولاتك لذا إذا أردت أن تنتصر عليه فعليك أن تلجأ لنفس أساليبه وإذا فعلت فحينها ستخسر نفسك ..."
هتف ساخرا :-
" ألم أخسرها بالفعل يا ليلى ...؟!"
منحته نظرة هادئة وهي تردد :-
" كلا يا نديم .. لم تخسرها حتى الآن ولكنك ستفعل إذا سمحت لشيطانك أن يتغلب عليك ..."
تجاهل حديثها متعمدا وهو يقول :-
" هل تعلمين إنني كنت أريد رؤيتك من جديد ..؟!"
همست بتهكم :-
" حقا ..!"
هز رأسه وهو يسألها :-
" هل يمكن أن نتحدث قليلا ...؟! في مكان آخر مناسب ..."
هزت رأسها بصمت ويبدو إن تلك الفكرة راقتها .. فكرة أن يجمعهما حديث بعد كل هذه الفترة وبعد جميع ما عاشاه ..
ربما لإنها تدرك جيدا إن بعد هذا الحديث الذي سيجمعهما كل شيء حتما سوف يتغير ..
وافقت وذهبت معه الى احد المقاهي القريبة من مقر الشركة ليتحدثان كما أراد ..
.........................................
تأملته ليلى وهو يحاول إيجاد كلمة مناسبة لبدء الحديث معها فهمست مبتسمة بخفة :-
" لا أصدق إن بدء الحديث معي يتطلب كل هذا التفكير .."
أضافت وهي تنظر جانبها :-
" في العادة كنا نتحدث دون تفكير ..."
هتف بخفوت :-
" كنا الكثير يا ليلى ..."
سألته وهي تنظر إليه :-
" أتمنى ألا تحمل جملتك تلك الحسرة ...؟!"
سألها بتجهم :-
" أليس من الطبيعي أن أشعر بالحسرة ..؟!"
ردت بحزم :-
" كلا ، انت من إخترت قتل الماضي بكل ما فيه فلا تتحسر الآن ..."
" هل تلومينني يا ليلى ..؟!"
سألها بجدية لترد بصدق :-
" أبدا .."
نظر لها بدهشة لتجيب ببساظة :-
" انا حقا لا ألومك حاليا يا نديم .. مسبقا كنت أفعل .. كنت حينها عاشقة مخذولة .. مجروحة منك ... لكن الآن وبعد مرور تلك الفترة تغير الكثير وتغيرت نظرتي للأمور .."
تنهدت وهي تنظر بعيدا مجددا :-
" ربما لإنني أعرفك جيدا .. أعرفك أكثر من أي شخص .. أعرف مدى النقاء الذي تحمله داخلك .. أدرك إنك لا تجرح شخصا ما عن قصد ... أدرك الكثير عنك مما يجعلني أتوقف عن لومك وأتفهم سبب تصرفك وأتقبله ..."
" لم تتغيرِ يا ليلى .."
قالها بصدق لتههف بثبات :-
" نعم لم أتغير يا نديم وأنت لن تتغير أيضا ..."
أضافت بجدية :-
" لا تلوث نفسك بسبب إنتقام لن يجلب سوى التعاسة لك ... "
منحها نظرة غير مقتنعة لتسأله مغيرة الموضوع :-
" لماذا أردت الحديث معي ..؟؟"
تنهد وهو يجيب :-
" ليس لسبب محدد ... "
توقف لوهلة ثم قال :-
" ربما لإنني إشتقت لك او ربما أردت الإطمئنان عليك ... "
أوقفته بإبتسامة مستخفة :-
" لا تكذب يا نديم .. يمكنني تصديق الثانية لكن الأولى أبدا ..."
نظر لها بدهشة لتحافظ على إبتسامتها وهي تسترسل :-
" انت لم تشتق إلي يا نديم .. على العكس تماما .. أنت نسيتني وتخطيتني منذ زمن .. "
أكملت وهي ترفع أناملها إتجاه عينيه :-
" لقد عرفت هذا من نظرة عينيك ... نظرة عينيك عندما رأيتني قبل قليل .. لم تكن تحمل تلك النظرات المعتادة .. لم يكن هناك لهفة او شوق فيهما ... "
أكملت وفمها يبتسم مرغما :-
" تلك النظرة التي كنت تنظرها إلي لم تعد موجوده ... لقد أدركت هذا منذ مدة ... مثلما أدركت إنني خسرتك منذ مدة طويلة .. منذ أن رأيتك معها ورأيتك كيف تنظر لها .. أدركت وقتها إنني خسرتك وإنها ربحتك وبجدارة ..."
همس بخفوت :-
" ليلى انا .."
أوقفته بجمود :-
" ماذا ستقول ..؟! هل ستعتذر مني مجددا ..؟! لقد إعتذرت مني من خلال تلك الرسالة .."
قال بسرعة :-
" أقسم لك إنني كنت أعني جميع ما كتبته وقتها .."
قالت بجدية :-
" أعلم ، أنت لا تجيد الكذب والإدعاء أساسا ..."
مسحت وجهها بكفيها وهي تقول :-
" انا لست مستاءة لإنك لم تعد تحبني يا نديم ولا لإن هناك أخرى ملكت قلبك غيري .."
ابتسمت بسماحة مرددة :-
" القلوب ليست بيدنا .. انا أكثر من يعلم هذا .. انا لا ألومك لإنك تمسكت بها .. من الطبيعي أن تفعل ذلك أساسا .. أي شخص في مثل وضعك سيبحث عن طوق نجاة يتشبث به بكل قوته .. حياة كانت طوق نجاتك وأنت تمسكت بها وهي نجحت في زرع حبها داخلك لذا أنا لا يمكنني لومك لإنني أدرك ظروفك ومدى صعوبة ما عشته ..."
تنهد بتعب وهو يهتف :-
" لا أعلم ماذا أقول .. لا أعلم ما يمكنني فعله .. كيف أستطيع تعويضك ... "
أكمل بنبرة خافتة :-
" انا اتألم يوميا يا ليلى .. روحي تتألم .. لا يمكنني تجاوز ما فعلته بك ولا ما مررتِ به لأجلي ... أقسم لك إنني لم أتوقف عن التفكير بك يوما واحدا .. انا لا أعرف ما يمكنني فعله .. أشعر إنني مقيد و ..."
أوقفته تكبت دموعها داخل عينيها :-
" هذا الحب مقدر له ألا يكتمل .. لقد كتب الله له أن ينتهي كما كتب له أن يبدأ يوما ما .. انت لست نصيبي وانا لست نصيبك .. هذا نصيبنا يا نديم .. قدرنا الذي لا مفر منه ..."
سأل بألم :-
" ربما ما تقولينه صحيح .. لكن تجاوز الماضي بكل ما فيه صعب جدا ..."
همست بصوت مبحوح :-
" هو كذلك ... لكننا سنتجاوزه .. مجبرين أن نفعل .. الحياة يجب أن تستمر ... "
رفعت عينيها نحوه تخبره :-
" أنت رغم كل شيء تستحق أن تحيا بسلام مع زوجتك وأفراد عائلتك وانا كذلك .. سنعاني في البداية ولكننا سنتجاوز هذه المعاناة .. لا بد أن نتجاوزها يوما .."
نهضت من مكانها تخبره منهية الحوار :-
" انا يجب أن أذهب .. أتمنى لك مستقبلا أفضل ..."
منحته نظرة أخيره تودعه من خلالها وهي تخبره :-
" الوداع يا نديم ..."
ثم غادرت دون رجعة هذه المرة ..
غادرت وهي تدرك جيدا إن هذا الحديث الأخير بينهما مثلما تدرك بيقين إن بعد هذا الحديث سيتغير كليهما ..
لن يعود كلاهما مثل السابق بعد هذا اللقاء ..
لن يعودا أبدا ..
يتبع
أنت تقرأ
حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح )
Любовные романыهو رجل يشبه الظلام .. رجل طعنه القدر بقسوة ولم يتبقَ منه سوى بقايا روح ترفض الحياة .. أما هي فأتت وإخترقت حياته المظلمة بالصدفة البحته .. بقلب نقي بريء وروح لا ترغب بشيء سوى الأمان وجدت نفسها عالقة بين ظلماته المخيفة .. وأخرى لم تدرك شيئا سوى إنها ت...