الفصل الثامن والأربعون ( الجزء الثاني )

3K 172 13
                                    

بعد مرور ثلاثة أيام ...
عاد الى منزله أخيرا بعد غياب امتد لثلاثة ايام في مهمته التي إنتهت على خير وبنجاح كالعادة ...
ما إن دلف الى داخل المنزل حتى وجد ابن شقيقه يركض نحوه مرحبا به بسعادة فسارع فادي يعانقه بنفس اللهفة ...
لطالما كان لتميم مكانة خاصة لديه لم يصل إليها أحد قبله فهو ليس ابن شقيقه فقط بل بمثابة ابنه الروحي ..!
حمل الصغير الذي تمتم متذمرا :-
" أنزلني يا عمو .."
ابتسم فادي مشاكسا :-
" دائما ما كنت تحب أن أحملك وأدور بك .."
قاطعه الصغير ذو السبعة أعوام برفض :-
" كنت صغيرا يا عمي ... الآن كبرت ..."
ابتسم فادي مرددا بفخر :-
" بالطبع كبرت وأصبحت رجلا أفتخر به ..."
هتف تميم بجدية :-
" وهل يجوز أن تحمل رجلا هكذا يا عمي ..؟!"
وضعه فادي أرضا مرددا وهو يعبث بخصلات شعره :-
" بالطبع لا يا حبيب عمك ..."
هتف تميم بحماس :-
" سأقضي اليوم بأكمله هنا ..."
أضاف يسأله بجدية :-
" أنت ستبقى معي اليوم ، أليس كذلك ..؟!"
قال فادي :-
" من حسن حظك إنني متفرغ اليوم وغدا ايضا بعد المهمة الأخيرة ..."
اضاف وهو يجره معه :-
" تعال لنرى جدتك ..."
ثم قاد الصغير حيث صالة الجلوس ليجد والدته تتحدث مع شقيقه الذي رفع وجهه نحوه بملامح هادئة غير معتادة منه خاصة في الفترة الأخيرة ..
نهضت والدته تستقبله وهي تحتضنه مرددة :-
" الحمد لله على سلامتك .. كدت أن أموت من قلقي عليك ... لم أتوقف عن الدعاء لك طوال الأيام السابقة ..."
قبل فادي جبينها مرددا بحنو خاص لا يظهر سوى لها :-
" أخبرتك ألا تقلقي فالمهمة بسيطة ..."
تمتمت باسمة بعدم رضا :-
" متى سنتخلص من هذه المهنة التي تسبب القلق بل الذعر لي طوال الوقت ...؟!"
تمتم فادي ساخرا :-
" هذا ما لن يحدث أبدًا ..."
تحدث فراس بهدوء وهو يناظره بعينيه :-
" ماما معها حق ... لا أفهم سر تمسكك بهذه المهنة المليئة بالمخاطر ... سأخبرك مجددا يا فادي ... اترك عملك في الشرطة وتعال معي تشاركني في إدارة الشركة ..."
هتف فادي وهو يجلس قباله بعدما جذب تميم نحوه :-
" تحدثنا مسبقا لمرات لا تنتهي في هذا الموضوع ... انا سعيد بعملي ولا يمكنني العمل بأي مجال غير الشرطة ..."
صاح تميم بحماس :-
" وانا أيضا سأصبح شرطيا مثل عمي عندما أكبر ..."
اعترضت باسمة برفض :-
" إياك يا تميم ... يكفيني عمك ..."
قال فراس ببرود :-
" تميم سيعمل معي في الشركة .. لست مجنونا لأجازف بحياة ابني في عمل خطر كهذا ..."
تنهد فادي مرددا :-
" أنتما تبالغان ... لي سنوات وانا اعمل في الشرطة ولم يحدث لي شيء والحمد لله ... هناك غيري من يعملون في مهن عادية لا مخاطر فيها وخسروا أرواحهم لأسباب مختلفة .. العمر واحد والرب واحد .."
دلفت لوجين الى الداخل تصيح إسمه بحماس وهي تحتضنه فعانقها بمحبه وهو يسألها عن أحوالها فتجلس جانبه بعدما قبلت تميم بحب وأخذت تثرثر معه ...
نهض فادي بعدها مرددا بتكاسل :-
" سأصعد الى غرفتي وأرتاح قليلا ... لا توقظوني حتى العشاء ..."
أضاف وهو يسأل فراس :-
" تميم سيبيت الليلة هنا ، أليس كذلك ..؟!"
أجاب فراس وهو يتأمل ابنه :-
" من المفترض أن يعود مساءا بعد العشاء ولكن ..."
قال فادي بإيجاز :-
" أخبر عهد برغبتي في مبيته معي الليلة وهي لن تعترض ..."
ابتسم تميم بسعادة بينما قال فراس بجدية :-
" جيد إرتح أنت حتى المساء فأنا أريد التحدث معك بعد العشاء ..."
نظر له فادي بتساؤل تجاهله فراس متعمدا فهز فادي رأسه متفهما وهو يتحرك نحو غرفته حيث سارع يأخذ حماما ينعش به جسده قبل أن يتجه للنوم مباشرة ...
استيقظ من نومة بعد عدة ساعات حيث غير ملابسه وخرج من غرفته بنشاط متجها الى الطابق السفلي ليجد شقيقه جالسا مع لوجين وتميم يرتشف عصير البرتقال ويبتسم بهدوء بات يريبه ..
ألقى التحية عليهم وهو يجلس على الكرسي فتنهض شقيقته وهي تخبره :-
" سأعد لك العصير ..."
سألها بجدية :-
" أين والدتك ..؟!"
ردت وهي تتحرك خارج المكان :-
" تقرأ القرآن في غرفتها ..."
التفت نحو شقيقه الذي أخبره :-
" يجب أن نتحدث يا فادي .."
تمتم فادي :-
" حسنا ... "
عادت لوجين بالعصير فأخذه فادي منها وهو يشير لفراس :-
" لنتحدث في الحديقة ..."
نهض فراس بدوره وسار خلف شقيقه عندما وقف جانبه في الحديقة الخلفية للفيلا يتسائل بنبرة هادئة :-
" ماذا هناك يا فراس ..؟!"
حل الصمت المطبق بينهما فلاحت منه نظرة نحو شقيقه ليجد الصمت يغلف ملامحه ...
ملامحه كانت مبهمة تماما لا توحي بشيء مما يعتمل داخل صدره ..
تنهد فراس أخيرًا تنهيدة طويلة ثم قال بجفاء مقصود :-
" أنا آسف ..."
لاحت دهشة سريعة على ملامح فادي ثم سرعان ما تسائل وهو يلوى فمه بتهكم :-
" فراس بنفسه يعتذر ... أنت بخير أم مصاب بالحمى ..؟!"
ردد فراس بغلظة :-
" لم أعهدك سخيفا من قبل ..."
قال فادي ببرود :-
"وأنا لم أعهدك تجيد الإعتذار يا فراس ..."
أضاف وعيناه تظلمان :-
" وإذا كنت تنوي التهرب من تلك الزيجة بهذه الطريقة ..."
قاطعه فراس بإقرار :-
" سأتزوجها ..."
استدار فادي نحوه يتأمله لثواني محاولا سبر أغواره بينما أضاف فراس بنفس الثبات :-
" وغدا أيضا ... "
تسائل فادي بدهشة خفية :-
" لماذا ..؟! مالذي غير رأيك فجأة ودفعك للقبول ..؟!"
رد فراس بتعب :-
" مللت ... "
منحه فادي نظرة تنم عن عدم إقتناعه فبادله فراس نظراته بأخرى ثابتة مضيفا :-
" لا أريد خسارتك يا فادي ..."
تجهمت ملامح فادي مما يسمعه فأضاف فراس بتروي :-
" أعلم إنني شخص سيء للغاية ... ومؤذي كذلك .. خسرت العديد من الأشخاص حولي بسبب أذيتي لهم ولكن ..."
أخذ نفسا عميقا ثم أردف :-
" لا أريد خسارتك أنت الآخر .. انت شقيقي الوحيد وسندي في هذه الحياة ... "
إسترسل بصوت مختنق :-
" أعلم إن نظرتك نحوي تغيرت تماما بعدما حدث ... بعدما فعلته مع فرحة وحتى غالية .. لا ألومك على ما فعلته معي وما زلت تفعله ... "
عاد يتنفس بعمق وهو يضيف :-
" لكنني أحاول للمرة الأخيرة أن أنقذ ما تبقى من روابط بيننا ... "
قاطعه فادي بقوة :-
" الرابط الذي يجمعنا أعمق من أن ينفلت تماما أيًا كان السبب .. ربما تأثر بأفعالك التي لا يمكن غفرانها لكنك تظل شقيقي الوحيد .. شقيقي الأكبر وعكازي الذي أستند عليه ..."
أضاف فادي بجدية تكسو ملامحه :-
" وعليك أن تعلم جيدا يا فراس إن ما فعلته وما سأفعله هو لأجلك أنت أولا .. انا أريد تطهيرك من ذنوبك ولو قليلا ... أنت ستتزوج الفتاة وتطلقها فورا ... واقعيا لن تخسر شيء ... لكنك أنت ستخفف من وطأة ذنبك في حقها وهذا مكسب عظيم لا يقدر بثمن ..."
" انت لا تشبهني أبدا ..."
قالها فراس بخفوت وهو يضيف :-
" سبحان من جعلك إبن خليل الطائي بهذه الصفات يا فادي .."
عادت ملامح فادي تتجهم مرددا :-
" وأنت تستطيع أن تكون مثلي بدلا من التشبه به ..."
هتف فراس بجمود :-
" انا لا أتشبه به .. أنا أشبهه فعلا .. انا ولده فالنهاية وهذا ليس بشيء غريب ..."
قال فادي بهدوء :-
" نحن من نختار طريقنا يا فراس .. نحن من نختار الهداية او الضلال .."
" هناك أشياء فطرية يا فادي ... "
قالها فراس ببرود ليقاطعه فادي بحزم :-
" حجة غبية .. نحن من نصنع ذنوبنا يا فراس ... نحن من نصنع خطايانا ... "
أضاف بنفس القوة :-
" انت حتى لو كنت ولده ... لكنك تربيت بعيدا عنه في حضن والدتك التي هي نفسها والدتي والتي ربتنا جميعنا بنفس الطريقة ولم تقصر في حق أيا منا ... "
إسترسل بقسوة :-
" أنت من جعلت والدي وماضيه شماعة تعلق عليها أخطائك في حق جميع من حولك وقبلهم نفسك ... لم تكتفِ بخسارة المرأة التي أحببتها ... أم ولدك فسعيت لخسارة غيرها أيضا وما زلت تفعل ... "
هدر فراس بغضب مكبوت :-
" أنت لم تكن شاهدا على ذلك الماضي يا فادي ... "
قاطعه فادي بصوت شديد :-
" لكنني أعرفه جيدا .. سمعته منك ومن غيرك ... "
توقف ملاحظا بؤس ملامح شقيقه فأضاف :-
" أنت لديك تميم يا فراس .... لا تنساه في خضم صراعك ما نفسك ... لا تجعل من الصبي نسخة مصغرة عنك .. أنا أعلم مقدار حبك لولدك ..."
هتف فراس بعنفوان :-
" تميم هو أغلى شيء عندي ... "
تنهد فادي وقال :-
" إذًا أصلح من شأنك لأجله هو على الأقل ..."
هز فراس رأسه متمتما :-
" وهذا ما سأفعله .. سأتزوج الفتاة ... ليس لأجل تميم فقط بل لأجلك يا فادي ... كي لا أخسرك ..."
تأمله فادي بصمت وهناك شيء ما داخله أخبره أن يحذر لكنه نحى أفكاره هذه جانبا فجل ما يهمه الآن أن يتزوج فراس الفتاة ويطلقها كي يكمل بعدما ما أراده بشأن الفتاة ثم يبحث خلف شقيقه ويفهم سبب هذا التغيير الغير مفهوم بالنسبة له ..
..........................................................
جلست هايدي أمام صديقها الذي سألها بإهتمام :-
" ما الموضوع الهام الذي تريدنه لأجله يا هايدي ..؟!"
ارتشفت هايدي القليل من عصيرها البارد ثم سألته وهي تتراجع الى الخلف قليلا في مقعدها :-
" ذلك الشاب .. صديقك الأحمق .. ماذا كان إسمه ..؟!"
فكر الشاب للحظات قبل أن يتمتم :-
" فوزي .."
قالت هايدي بسرعة :-
" نعم هو .. فوزي .. "
سألها مجددا بدهشة :-
" ومالذي تريدنه من فوزي يا هايدي ..؟!"
ردت هايدي ببساطة :-
" أريد رقم هاتفه او عنوانه ..."
هتف ساخرا :-
" عنوانه مرة واحدة ..!! على أساس إنك سوف تستطيعين دخول المنطقة الشعبية التي يسكن فيها ..."
تمتمت بجدية :-
" أنا أحتاجه في أمر هام ... ساعدني للوصول إليه ..."
عقد حاجبيه يتسائل مستهجنا :-
" فوزي مجرم يا هايدي ... مالذي تحتاجينه من مجرم مثله ..؟!"
هدرت به :-
" وما شأنك أنت ..؟! أحتاجه فقط .. وأريد رقمه وعنوانه منك ..."
زفر الشاب أنفاسه بملل ثم قال :-
" حسنا لا تغضبي هكذا ... سأتصل به وأخبره إنك تريدنه فهو لا يمنح رقمه لأيا كان ولا يجيب على الأرقام الغريبة أساسا ..."
تهكمت وهي تردد :-
" يتصرف كوزير حضرته ...."
تجاهل سخريتها وهو يجري اتصالا به عندما أخبرته بسرعة :-
" أريد رؤيته حالا إذا كان متفرغا ..."
مط شفتيه بعدم رضا عما تريده لكنه تجاهل الأمر مقررا أن يخبر فوزي برغبتها ويتركها هي تتصرف معه ...
وبالفعل وافق فوزي على موافقتها بعدما عرف هويتها فهي تلك الحسناء الثرية والتي تكون صديقة مقربة لصديقه الثري الذي تعرف عليه بالصدفة أثناء شجاره مع مجموعة من الشباب فساعده بضربهم ومنذ وقتها تولدت صداقة بينهما رغم الفارق المذهل في كل شيء ...
جلس فوزي أمام هايدي بعد أكثر من ساعة مرددا بسخرية :-
" من كان يصدق إنك ستحتاجيني أنا يوما ما ..؟! سبحان الله .."
تأملته هايدي بعدم رضا فهي تجلس أمام شخص لا يرتقي ليعمل تحت أمرتها حتى ...
شخص سبق وأهانته عندما غازلها بفجور أثار إشمئزازها ...
لكنها وللأسف الشديد مضطرة للتعامل معه لتأديب الأحمق الآخر والإنتقام لشقيقتها المسكينة التي ما زالت تعاني بسببه ..
تنحنحت تصدر صوتا وهو تضيف :-
" دعك من هذه الأحاديث السخيفة يا فوزي وإسمعني فهناك ما هو أهم ... "
تجاهلت النظرة المستفزة في عينيه وهي تضيف :-
" سأمنحك مبلغا من المال بقدر ما تريد .. "
ذكرت المال وتراجعت تسترخي في جلستها وهي تدرك إنها جذبت إنتباهه كاملا نحو الشيء الذي يبيع نفسه لأجله وهو الذي يعشق الأموال ويفعل أي شيء مقابلها ...
" تفضلي يا هانم ... ماذا تريدين مقابل المبلغ ..؟!"
ردت وهي تبتسم بإتساع :-
" هناك شخص ما ... أريد تقلينه درسا لن ينساه طوال عمره ..."
هتف فوزي بحماس :-
" حسنا ... أنت تأمرين يا هانم وأنا أنفذ .. هل تريدين التخلص منه نهائيا أم .."
قاطعته بسرعة وهي التي كادت تغص في العصير داخل حلقها :-
" كلا لا تقتله .. أنا أريد تأديبه فقط ... سأمنحك المبلغ الذي تريده .. فقط نفذ لي ما أريده .."
عقد حاجبيه يتسائل :-
" هل هو حبيبك السابق وتريدين الإنتقام منه ..؟!"
هتفت من بين أسنانها :-
" ليس من شأنك .. ما شأنك إذا كان حبيبي او حتى أخي ..."
" حسنا لا تغضبي .. أخبريني كيف تريدين تأديبه ...؟! "
سألها بفضول لتعقد حاجبيها مرددة :-
" هل أنت أحمق ..؟! أنت من تعرف ذلك ولست أنا .. أنا فقط أريد تلقينه درسا على أفعاله الحقيرة بحق أقرب الناس إليه ... مثلا أخطفه ليومين وعنفه قليلا ثم أطلق سراحه..."
" نعم نعم فهمت ..."
تمتم بها فوزي بتململ قبلما يخبرها بالمبلغ الذي يريده ويطلب منها معلومات عن الشخص وصورة له والأهم أماكن تواجده فشعرت هايدي إنها في مأزق لإن صلاح متغيبا منذ مدة لا تذكرها ولا تعرف عنه شيئا ..
أعطته المعلومات الأساسية وهي تخبره بإختصار عن إختفائه هذه الفترة مع تأكيد إنها ستخبره بمكانه حالما يظهر لينفذ ما تريده ...
غادرت المكان بعدها بتوعد خفي لصلاح الأحمق وهي لا تشعر بأي ندم على هذه الخطوة فذلك التافه عديم النخوة يستحق القتل ...
اتجهت الى شقيقتها التي غادرت المشفى وهي تمكث حاليا في شقة منعزلة أخذها شريف إليها ..
شريف الذي بدا لها النقيض التام من شقيقه فهو رجل جاد ورزين ذو شخصية شديدة الرقي والإحترام ...
وصلت الى الشقة لتفتح لها الممرضة الذي جلبها شريف لشقيقتها كي تمكث معها لرعايتها كاملا خاصة مساءا عندما تعود هايدي الى منزلها ...!!
رحبت الممرضة بهايدي التي تقدمت نحو شقيقتها ببطنها المنتفخ وهي تهمس بمرح مقصود محاولة إخراج شقيقتها من حالة البؤس المسيطرة عليها :-
" كيف حالك يا حلوتي ..؟!"
ردت نانسي بإبتسامة مصطنعة :-
" الحمد لله ، بخير ..."
جلست هايدي جانبها تخبرها بمرح :-
" هل تحرك الصغيران كثيرا اليوم ..؟!"
ظهرت لمحة من الحزن على ملامح نانسي سرعان ما أخفتها وهي تجيب بنفس الإبتسامة المصطنعة :-
" نوعا ما ..."
هتفت الممرضة وهي تتقدم نحويهما مشيرة لنانسي :-
" ما رأيك أن تتناولي الطعام الآن مع الآنسة هايدي أيضا ...؟؟"
قالت هايدي بسرعة نيابة عن شقيقتها :-
" نعم ، أخبري الخادمة أن تعد الطعام لنا ..."
ابتسمت الممرضة وهي تضيف :-
" حسنا كي تتناول مدام نانسي دوائها بعد الطعام .."
ثم تحركت الى المطبخ تطلب من الخادمة اعداد الطعام بينما سألت هايدي شقيقتها الساهمة :-
" بمَ تفكرين ...؟!"
ردت نانسي بخفوت وهي تنظر اليها :-
" لا شيء ..."
قالت هايدي بجدية :-
" تحدثي يا نانسي ولا تخفي عني شيئا ..."
ردت نانسي بخفوت :-
" خائفة يا هايدي بل مذعورة ..."
" ماذا حدث ..؟!"
سألتها هايدي وهي تربت على كتفها بدعم لتجيب نانسي بقلق :-
" كلما يتقدم حملي يوما كلما أزداد خوفا من القادم ... هواجسي لا تنتهي .. تارة أفكر فيما سيحدث بعد ولادتي وكيف سيعيش الطفلين معي دون أب وتارة تأتيني هواجس تخص الولادة ... أخشى أن يصيبني شيئا أثناء الولادة فيأتي الطفلان بلا أب وأم ..."
قاطعتها هايدي منتفضة :-
" توقفي عن قول هذه الحماقات ارجوك ... ستتم الولادة على خير وتنجبين طفلين رائعين وستكونين أم رائعة ..."
قاطعتها نانسي بقهر :-
" بلا أب ... سيأتيان الى هذا الحياة بلا أب ..."
هتفت هايدي بثقة :-
" يكفي وجودك معهما .. لن نحتاجه أبدا .. اساسا لا نريد شيئا منه سوى اسمه وبعدها سيصبح الطفلان مسؤوليتنا ..."
" لكنها مسؤولية صعبة جدا والأهم ماذا ذنب الطفلان ليتحملان كل هذا .."
قالت هايدي برفق :-
" حبيبتي انت تفكرين بطريقة مبالغ فيها والأهم إنك تسبقين الأمور فعليا ... ربما صلاح يتغير عندما يرى الطفلين ... لا أحد يعلم ... "
تمتمت نانسي بقهر :-
" أتمنى ذلك يا هايدي ... أتمنى أن يلين قلبه قليلا عندما يرى الطفلين ..."
ربتت هايدي على كتفها مجددا تخبرها :-
" توكلي على الله وهو لن يخذلك مهما حدث .."
هزت نانسي رأسها بتفهم بينما انتبهت هايدي لرنين هاتفها فنهضت مبتعدة قليلا عن نانسي تجيب شقيقها الذي يتصل بها بينما أتت الخادمة بالطعام لتجيب على شقيقها الذي فاجئها بقوله :-
" أين أنت يا هايدي .. ؟! لقد وصلت البلاد منذ قليل ... "
اتسعت عينا هايدي مرددة بعدم استيعاب :-
" ماذا ..؟! انت عدت الى هنا .."
ثم تداركت نفسها وهي تضيف مدعية الفرحة :-
" الحمد لله على سلامتك يا كرم ..."
جاءها صوت شقيقها مرددا :-
" نعم عدت الى البلاد وانا حاليا في طريقي الى المنزل ... انتظرك هناك فأنا أخمن إنك غير متواجدة في المنزل كعادتك في الفترة الأخيرة .."
حاولت هايدي السيطرة على توترها وهي تخبره إنها ستذهب الى المنزل حالا لأجله قبل أن تودعه سريعا وتغلق الهاتف مفكرة عن سبب قدوم شقيقها فجأة بهذه الطريقة ..
................................................
دلف الى مكتبه بعد يوم صعب مليء بالعمل الذي لا ينتهي...
ما بين العمليات الجراحية وتفقد المرضى ومتابعة الحالات الجديدة والكثير من الاشياء الأخرى ....
جلس فوق كرسيه بتعب قبل أن يتصل بالعامل يطلب منه قهوة سريعا وهو الذي لديه مناوبة ليلية ...
جاء العامل بالقهوة فشكره بإبتسامته الهادئة وهو يتناول القهوة منه يرتشف منها تدريجيا ويغمض عينيه محاولا الحصول على ساعة واحدة من الهدوء والإسترخاء قبل العودة الى عمله الذي سينتهي صباح الغد ليذهب بعدها مباشرة الى بيت عمه كي يرى نديم وغالية والبقية فيقضي القليل من الوقت هناك كما تستوجب العادة ثم يغادر بعدها الى المنزل ليأخذ قسطا لا بأس به من الراحة ...
استرخى في جلسته اكثر وهو ما زال مغمضا عينيه عندما صدح صوت طرقات على الباب يوقظه من غفوته اللحظية ليتنهد بتعب وهو يردد بصوت مقتضب :-
" ادخل ..."
دلف صلاح الى الداخل فنهض شريف من مكانه مسرعا مرددا بدهشة من قدوم شقيقه المختفي :-
" صلاح ...."
تمتم صلاح بصوت خرج بطيئا للغاية :-
" سمعت إن الخالة صباح توفيت ..."
تنهد شريف وهو يهز رأسه بأسف فيتقدم شقيقه الى الداخل بملامح واجمة كليا قبل أن يجلس على احد الكراسي متمتما :-
"اليوم علمت بالخبر ... "
أضاف بجدية :-
" بعد انتهاء العزاء ..."
قال شريف مسرعا :-
" بكل الاحوال لم تكن لتحضر العزاء ..."
قال صلاح بصوت محتقن :-
" ولكن كنت سأتصل بنديم وغالية على الأقل ...."
" لماذا لم تتصل بهما ...؟!"
سأله شريف بجدية ليجيب صلاح :-
" سأفعل ... فقط أردت أن أراك قبلها ..."
تأمله شريف بصمت وهو الذي يدرك حالة شقيقه الذي يحمل داخله عقدة غير مفهومة من فكرة الموت التي لطالما تركت عليه آثرا مؤلما ....
كان شقيقه يتأثر بخبر موت أحدهم ويظهر ذلك عليه بشدة اضافة الى خوفه من الفكرة نفسها والذي لا يجد شريف له تفسيرا واضحا لكن ما يعرفه إن صلاح الآن يعيش أسوء حالاته بعدما فقد شخصا يعرفه عن قرب ما بين خوف وحزن يتشكل داخله بقوة ويسيطر عليه لمدة لا بأس بها ...
تنهد شريف وهو يتقدم نحوه بشفقة تملكت منه فيسأله صلاح بصوت متأثر :-
" كيف توفيت ..؟؟ "
رد شريف بنبرة حزينة :-
" جلطة  قلبية للأسف ..."
زفر صلاح أنفاسه بقهر مكتوم وهو يسأل من جديد :-
" ماذا عن غالية ..؟؟ ونديم ..؟!"
هتف شريف متذكرا جمود كليهما المريب :-
" كيف سيكون حالهما مثلا يا صلاح ..؟؟ كان الله في عونهما ..."
فرك صلاح جبهته بتعب ليسأله شريف محاولا تغير الموضوع :-
" أين كنت طوال الفترة السابقة يا صلاح ..؟!"
رد صلاح بخفوت :-
" إحتجت الى الإبتعاد عن الجميع قليلا .."
هز شريف رأسه بتفهم وهو يضيف :-
" وهل فكرت في وضع نانسي والطفلين القادمين..؟!"
ظهر الرفض في عينيه فباغته شريف بسرعة يضيف :-
" شئت أم أبيت فهذين الطفلين منك يا صلاح .. من صلبك وأنت والدهما ..."
غمغم صلاح بجدية :-
" لا أريدهما يا شريف ... إفهمني من فضلك ... "
قاطعه شريف بقوة :-
" انت مجبر ولست مخير يا صلاح .. متى ستفهم ذلك ..؟؟"
ردد صلاح ساخطا :-
" هذا يعني إنني مجبر على تنفيذ رغبة نانسي .. أليس كذلك ...؟!"
هتف شريف مهادنا إياه :-
" هما طفلاك ايضا يا صلاح وليسا طفلي نانسي فقط ..."
رد صلاح بمقت :-
" هذه مسؤولية لا أريدها يا شريف ...."
نظر اليه شريف بغضب مكتوم ليتأمل صلاح شقيقه المتحفز بصمت امتد للحظات قبل أن يجيب :-
" حسنا سأعترف بهما .. ولا تطلب مني شيئا عدا ذلك ..."
" ما هذا الجنون ..؟!"
صاح به شريف منفعلا وهو ينهض من مكانه مرددا :-
" أنت بكل الأحوال ستعترف بهما ... هذا شيء ليس بجديد .. انا اتحدث عما يلي الاعتراف ..."
نهض صلاح من مكانه مرددا بثبات :-
" سأطلق نانسي وستتحمل هي مسؤوليتهما كونهما المسؤولة عن إنجابهما ..."
هدر شريف به :-
" انا لا اصدق ما أسمعه .. ألا تلاحظ إنك تتحدث عن طفليك ..؟! طفليك يا هذا ..."
قال صلاح لا مباليا :-
" أنا أخبرك الواقع وما سيحدث دون تزويق .. لا تنتظر مني أن أكون أبا لطيفا مراعيا و زوجا مقيدا بإمرأة لا يريدها وطفلين إعترف بهما مجبرا لا مخيرا كما قلت قبل لحظات ..."
تمتم شريف وهو يجلس فوق كرسيه بتعب :-
" هذا كثير حقا ..."
ردد صلاح بهدوء مستفز :-
" هذا ما لدي وعليكم جميعا أن تقبلوا به .."
قال شريف بجمود :-
" بغض النظر عن الحماقات التي تفوهت بها فعليك أن تعلم إنك يجب أن تسافر مع نانسي خارج البلاد وتبقيان هناك حتى يولد الطفلان وتمر فترة على ولادتهما ثم تعودان بهما الى البلاد .."
" لماذا ..؟! ما الداعي لكل هذا ..؟! "
سألته صلاح بضيق ليرد شريف بعدم تصديق :-
" لإن الطفلان سيولدان بعد ثلاثة اشهر تقريبا اي بعد زواجكما بأقل من أربعة أشهر ... ماذا سنقول للناس ...؟!"
زفر صلاح أنفاسه مرددا بملل :-
" هذا ما كان ينقصني ..."
بالكاد سيطر شريف على اعصابه وهو يهتف :-
" بالله عليك يكفي .. لا تسقط من نظري اكثر يا صلاح .. انت تثير نفوري بطريقتك هذه ..."
تمتم صلاح بسخرية :-
" لإنني صريح ولا أجيد اللف والدوران ..."
قال شريف ساخرا :-
" نعم انت الصريح ونحن المنافقون والأوغاد ..."
هتف صلاح متهربا من الحديث الممل من وجهة نظره :-
" سأغادر الآن .. يجب أن أتصل بنديم وأعزيه وكذلك غالية ..."
لم يجيه شريف عندما سأله صلاح :-
" ماما ما زالت هناك ، أليس كذلك ..؟!"
رد شريف بفتور :-
" نعم ومعها زوجة عمك رحاب وابنتها نرمين ..."
هز صلاح رأسه بتفهم ثم تحرك مغادرا المكان تاركا شريف يتطلع في آثره بحسرة على حال شقيقه قبل أن يحمل هاتفه ويتصل بهايدي كي يطمئن منها على وضع شقيقتها فهو لم يستطع التواصل معها اليوم بسبب العمل ..
..........................................
جلست ليلى فوق الكرسي ترتشف قهوتها بصمت ...
الأيام الثلاثة الفائتة كانت ثقيلة عليها بما يكفي بل كانت تفوق قدرة تحملها ..
صدمتها بتصرف زوجة أبيها وما تلاه من سقوط والدها المدوي ثم وفاة خالتها الصادمة للجميع ...
ستكون كاذبة إن قالت إنها لم تحزن عليها ...
بحق سنوات العشرة بينهما يجب أن تحزن ...
جاء الخبر صادما لها ربما لإنها لم تتصور أن تكون نهايتها قريبة الى هذا الحد ...
بعدها وجدت نفسها تبتلع صدمتها بسرعة وتدعم والدتها في مصابها ...
والدتها التي قضت الايام الثلاث الفائتة في منزل خالتها حتى انتهى العزاء فإضطرت للمغادرة معتذرة بسبب وضع زوجها الصعب مكتفية بإخبار الجميع بشكل مختصر عن إصابته بذبحة صدرية متجاهلة الأسباب وما حدث قبلها تماما ...
أغمضت عينيها بتعب وهي تتذكر حزن والدتها المتفاقم على كلا من شقيقتها وزوجها ولم يخفَ عليها رعب والدتها من خسارتها لوالدها وقد تفاقم هذا الرعب بخسارة شقيقتها التي كانت مقاطعة لها تماما في آخر أشهر ...
والدتها التي تحاول الوقوف بصلابة خادعة للجميع عداها هي حيث أخذت مكانها في عزاء شقيقتها كما يقتضي الواجب تساند غالية والجميع وهي بدورها ذهبت الى العزاء لكن كضيفة فقط لا أكثر ...
تذكرت ذلك الشعور الذي داهمها ما إن دلفت الى المنزل ..
لم يكن شعور الحنين وما شابه بل على العكس شعرت بالرهبة وإنكماش روحها ما إن وطأت ذلك المنزل بقدميها وقد تفاقمت رغبتها بالمغادرة سريعا ..
ورغم ذلك ذهبت في اليوم التالي الى العزاء ايضا وتحدثت مع غالية الجامدة بطريقة مريبة دون أن يخفي عليها ذلك البركان الخامد خلف جمودها ...
كان هناك شيء مبهم في ابنة خالتها ...
شيء جعلها تعجز عن البكاء حتى ...!!
تنهدت بصمت وعادت ترتشف من قهوتها بعدما فتحت عينيها وذكريات الأيام الفائتة ببؤسها تزورها مجددا ...
شعور الشفقة ملأها اتجاه غالية وهي التي فقدت والدتها ...
كيف لا تشعر بذلك وهي تجلس الآن بقلب مرعوب من خسارة والدها التي تهددها في أي وقت ...؟!
خسارة الوالدين أقسى شعور يمكن أن يمر به أي أحد وهي تدعو ربها مرارا وتكرارا ألا تخسر والدها ...!!
عادت ترتشف من قهوتها وتتذكر نديم هو الآخر ..
لقد رأته بالصدفة البحتة ...
كان صامتا هو الآخر رغم تعب ملامحه الواضح والألم الشديد الظاهر في عينيه ....
ألم صامت فقط ...
يومها تقدمت نحوه تعزيه برسمية فشكرها بنفس الرسمية رغم ذلك الإمتنان الذي ظهر في عينيه ونبرة صوته على مبادرتها بتعزيته وهو الذي بدا غير متوقعا لمبادرة كهذه منها ...
أخذت نفسا عميقا وهي تضع القدح البلاستيكي جانبا قبل أن تقرر الإتصال بالمربية للإطمئنان على شقيقها لكنها فوجئت بالممرضة تخبرها عن رغبة الطبيب برؤيتها في مكتبه ...
شعرت بقلبها يكاد يسقط أسفل قدميها وهي تتقدم نحو غرفة الطبيب الذي إستقبلها بإبتسامة ودودة قبل أن يخبرها عن حالة والدها وما وصلت إليه ...
وبعد حديث مختصر عن وضع والدها وقلبه المتعب و ما أصابه وأسبابه أنهى الطبيب كلماته بجملة جمدتها كليا فوالدها وحسب قول الطبيب غاب في غيبوبة إختيارية رافضا الإستيقاظ منها وكأنه وجد في تلك الجلطة التي أصابته فرصة للهرب من كل المشاكل المحيطة به دون رجعة ...
خرجت ليلى بعدها مصدومة ولم تشعر بنفسها الا وهي تنهار باكية ...
بكت لمدة لا تعلمها قبل أن تقرر المغادرة والعودة الى منزلها ...
عادت بعدها الى المنزل بسرعة قياسية وشعور الإختناق يملأ صدرها ....
والدها في غيبوبة لا أحد يعلم متى سوف يستيقظ منها ..
وصلت الى الفيلا ودخلت بوجه هادئ جامد عندما وجدت المنزل هادئا تماما فصعدت الى الطابق العلوي ومنه الى غرفة أخيها ...
دلفت الى الداخل تتأمل عبد الرحمن النائم بسلام فتقدمت نحوه تلمس شعره برقة ثم تخرج من الغرفة فتسقط عينيها على الغرفة الأخرى حيث يوجد شقيقها الآخر مع مربيته ....
عادت بذاكرتها الى الخلف وهي تتذكر ما حدث في اليوم التالي من مرض والدها حيث نفذ كنان وعده وأتى بزوجة والدها والطفلين بطريقة لا تدرك عنها شيئا ولم تهتم أن تعرف كيف فعلها ...
تذكرت مجيئه الى المشفى وهو يخبرها ان الطفلين في طريقهما الى منزلها بينما سهام معه وهي ستقرر ما سيحدث بعدها ....
طلبت منه أن يأخذها بسرعة الى المنزل لترى عبد الرحمن وتطمئن عليه تاركة مريم في المشفى لوحدها ...
ما إن وصلت الى المنزل حتى وجدت الصغير يستقبلها فركضت تعانقه بلهفة والدموع تغطي وجنتيها ....
ثم انتبهت اخيرا الى ذلك الصغير الذي تحمله مربية عبد الرحمن فتقدمت نحو بقلب مضطرب تتأمله بحذر فتنصدم بلون عينيه الأخضر الجذاب وشعره الأشقر لتبتسم لا إراديا عندما سمعت كنان يهتف :-
" لقد أخذنا كلا الطفلين الى المشفى للإطمئنان على حالتهما اولا وهما بخير تماما .. "
التفتت نحوه ترمقه بإمتنان شديد وهي تخبره بصدق :-
" لا اجد شيئا أقوله يناسب ما فعلته معي .. حقا لا أعرف ماذا أقول ..."
حينها فاجئها وهو يردد بإبتسامة ثابتة :-
" لا تشكريني يا ليلى .. ما فعلته شيء طبيعي جدا ... انت زوجتي ولن أسمح بحدوث أي شيء لك او لمن يخصك مهما حدث .. "
أضاف بلهجة قوية واثقة آسرتها للحظات :-
" لا تخافي من أي شيء طالما أنا معك فلا أحد يمكنه إيذائك بوجودي ..."
حينها لم تستطع قول شيء فاكتفت بإبتسامة هادئة آسرته بدوره دون أن تدري ..
طلبت بعدها من الخادمة أن تعتني بعبد الرحمن بينما تخبر المربية أن تعتني بالطفل الصغير ريثما تجد مربية مناسبة له عندما سمعت عبد الرحمن يسألها وهو ينظر نحو شقيقه بإنبهار :-
" ماذا سنسميه ...؟!"
لتنظر ليلى الى الرضيع لثواني قبل أن تجيب بأمل :-
" بابا هو من سيسميه عندما يستيقظ سالما باذن الله ..."
غادرت بعدها الفيلا مع كنان الذي طلبت منه أن يأخذها الى زوجة والدها لتتفاجئ بها موضوعة في بناية قديمة متهالكة في منطقة تقع عند اطراف العاصمة وحولها رجال كنان ...
لم تشعر ليلى بنفسها الا وهي تنقض عليها وتصرخ بها بغضب بينما وقف كنان بعيدا فقليلا بعدما طلب من رجاله المغادرة يمنحها الفرصة لتفريغ ما في جوفها ...
وأخيرا صفعتها على وجهها بشكل أثلج صدره وهو لأول مرة يرى هذا الجانب منها ...
" حقيرة ... ناكرة الجميل .."
قالتها ليلى بأعصاب مشدودة عندما هتف كنان بجدية :-
" ماذا سنفعل الآن بها ..؟! القرار لك ..."
خل الصمت المطبق عندما اضاف كنان :-
" يمكنك حبسها إذا أردت ..."
نظرت له بصمت وسهام تتأملها بحقد لا ينتهي عندما أشارت له ليلى ليتحركا خارج المكان فوقفت بعيدا تخبره بتشوش :-
" بالنسبة لي اريد حبسها لكن ماذا عن الطفلين..؟! هذا سيؤثر على سمعتهما مستقبلا ... "
هتف كنان بتأكيد :-
" للأسف هذا صحيح ..."
أضاف يسألها بحذر :-
" هل تريدين إبعادها عن الطفلين فقط..؟!"
سألته بلهفة :-
" هل تستطيع ..؟! انا لا أريد شيئا سوى إبعادها عن طريق الطفلين بل عن طريقنا جميعا ... "
هتف بثقة :-
" لا تقلقي من هذه الناحية ... أعدك إنها لن تجرؤ على الإقتراب من الطفلين بعد الآن ..."
هتفت بجدية :-
" لا تؤذيها يا كنان ... هي والدتهما وأخاف أن يكبران و..."
قاطعه بسرعة :-
" انا لست مجرما يا ليلى ... انا فقط سأضمن سلامة الطفلين بعد الآن ..."
أضاف بجدية :-
" هاتي أوراق التنازل عن أخيك الأصغر من المحامي لتوقع عليها حالا ..."
" والمال المتفق عليه ..؟!"
سألته بتردد ليجيب بجمود :-
" لا يوجد اموال .. وإذا أردتِ يمكنني إعادة المبلغ الذي أخذته من والدك مسبقا .."
قالت بسرعة :-
" كلا لا داعي ... فقط أريدها أن تبتعد عنا .."
وحدث ما أرادت حيث أتى كنان في اليوم التالي ومعه عدة اوراق يخبرها بسلاسة :-
" يمكنكِ أن تطمئني الآن ... سهام تنازلت عن الطفل الأخر بشكل قانوني ونهائي فلا يحق لها بعد الآن رؤيتهما بل ووقعت تعهد بعدم التعرض للطفلين لأي سبب كان وإذا ما أصاب الطفلين شيء ما لا سامح الله ستكون هي المسؤولة عما أصاب أيا منهما ..."
تأملته لثواني بدهشة تحولت الى فرحة غامرة وهي تأكدت أخيرا إنها ضمنت سلامة أخويها ...
نظرت له بعينين مليئتين بالفرحة غير مصدقة ما فعله وكيف ساعدها وقدم لها معروفا لن تنساه له مهما حدث وفي النهاية وجدت نفسها تعانقه بعفوية ودون وعي وهي تشكره داخلها دون توقف ..
.............................................
وقف أمام الموقد ينظر الى دلة القهوة بشرود بات رفيقه طوال الأيام السابقة ..
مرت ثلاثة ايام على رحيلها ..
انتهى العزاء وغادر الجميع بإستثناء بعض المقربين جدا حيث زوجتي عمه ونرمين ابنة عمه وغيرهم من اقرباء والدته ....
ثلاثة ايام التزم فيها بالصمت التام ...
الصمت ولا شيء سواه ...
لم يذرف دمعة واحدة حتى ...
كتم جميع مشاعره داخله وبقي جامدا ، ثابتا يستقبل المعزيين بهدوء وثبات لم يكن يدرك إنه يمتلكه في ظرف كهذا ...
ما زال هناك البعض في المنزل كواجب مفترض ...
ايام العزاء انتهت ولكن عزاء قلبه لا نهاية له ...
أفاق من أفكاره عندما وجدها تمد يدها وتطفئ الموقد بسرعة فوجد القهوة غلت تماما وكادت أن تتجاوز الحد العلوي للدلة ...
حملت حياة الدلة واتجهت نحو الكوب الضخم الذي أخرجه وصبت القهوه قبل أن تمد الكوب له ليأخذه منها بصمت تام دون أن يشكرها حتى وهو الذي ينأى بنفسه عن الجميع متباعدا عنهم جميعا دون إستثناء ...
تنهدت بحزن على حاله وهو الذي يلتزم الصمت ويغرق في عزلته تماما بعيدا عن الجميع ...
تتمنى لو كان بمقدورها اختراق تلك العزلة ومواساته والتخفيف عنه ..
لكنه لا يسمح لها بذلك ولا لأي أحد ...
الجميع قلق عليه وعلى غالية التي لا تختلف عنه كثيرا ...
فهي الأخرى تعتزل غرفتها ما إن يغادر المعزين لتبقى هي لوحدها مع الموجودين من الأقارب ....
غادرت المطبخ بصمت بعدما وجدت نفسها عاجزة عن التفوه بشيء فوجدت رحاب زوجة العم تتقدم نحوها وهي تسألها :-
" متى ستهبط غالية من غرفتها يا حياة ...؟!"
ردت حياة بخفوت :-
" لا أعلم يا خالة ... "
قالت رحاب بجدية :-
" إذهبي إليها حبيبتي وتحدثي معها قليلا .. عسى ولعل تنزل وتتناول العشاء فهي لم تأكل شيئا طوال الأيام السابقة كما رأيت ...."
هزت حياة رأسها بتفهم عندما وجدت نادر يتقدم وهو يسألها :-
" أين نديم يا حياة ...؟! لقد أتى صديقه وسام ..."
أجابت حياة :-
" في المطبخ ...."
ثم تحركت بعدها الى الطابق العلوي وتحديدا الى غرفة غالية ...
طرقت على الباب ثم دلفت بعدما أتى صوت غالية المبحوح يسمح لها بالدخول ...
تقدمت حياة الى الداخل تتأمل غالية التي تجلس بصمت فوق السرير وساقيها مرفوعة نحو صدرها تحيطهما بذراعيها ...
ملامحها جامدة تماما كعادتها وعينيها محتقنتين كليا رغم عدم ذرفهما الدموع ...
جلست حياة جانبها تهتف بتردد :-
"تعالي وتناولي العشاء يا غالية ... انت لم تتناولِ شيئا طوال الايام السابقة .."
تمتمت غالية بصوت مبحوح :-
" لا أريد ... لا شهية لدي لتناول أي شيء ..."
قالت حياة بترجي :-
" لا يمكن يا غالية .. الإمتناع عن تناول الطعام ليس حلا ... "
أضافت بتروي :-
" حبيبتي أنت تؤذينها بما تفعلينه ..."
تمتمت غالية بصوت محتقن :-
" لقد أذيتها أساسا ... أذيتها كثيرا .."
غمغمت حياة بخفوت :-
" لا تفعلي يا غالية ..."
" بل سأفعل ..."
قالتها بصوت باكي وهي تضيف :-
" انا السبب .. انا من قتلتها .. انا من قتلت والدتي ..."
قالت حياة بسرعة وهي تضمها :-
" لا تفعلي هذا ارجوك .. هذا يومها يا غالية ... انه قدرها ولا يمكننا الاعتراض عليه ... "
هتفت غالية بدموع لاذعة :-
" لقد جرحتها كثيرا .. لن أسامح نفسي على ما فعلته بها ..."
قالت حياة وهي تجاهد للسيطرة على دموعها :-
" من فضلك لا تفعلي ... انت لم تقصدي أيا مما فعلته وهي تدرك ذلك ..."
هزت غالية رأسها نفيا بعدما ابتعدت من بين أحضان حياة وقالت :-
" لقد تماديت معها ... تماديت كثيرا .. لكنني لم أكن أعرف إن هذا سيحدث .. ملأني الحزن والغضب على نديم و ..."
كتمت شهقة كادت ستصدر منها وهي تضيف بأنفاس متعبة :-
" والله لم أكن أعلم ما سيحدث ... "
حاولت حياة تهدئتها من جديد عندما سمعت صوت طرقات على باب الغرفة لتسمح للطارق بالدخول فتتحدث الخادمة بلهجة مترددة :-
" عمار بك وصل قبل قليل و ..:"
وقبل أن تنهي حديثها انتفضت غالية من مكانها واندفعت خارج الغرفة بسرعة شديدة لتركض حياة خلفها محاولة إيقافها عندما اندفعت نحو صالة الجلوس تصرخ بصوت جهوري صدم جميع الموجودين وهي تنقض عليه بشكل صدمه هو شخصيا ....
نهض نادر من مكانه بسرعة ومعه وسام صديق نديم عندما صاحت غالية وهي تخنقه بقسوة :-
" انت السبب .. انت السبب ..."
جذبها نادر بكل قوته بينما هتف وسام محاولا تهدئتها :-
" اهدئي يا غالية من فضلك ..."
صاحت غالية بإنهيار :-
" لا سامحك الله .. لا سامحك الله ولا وفقك يوما يا عمار ...."
وقبل أن تنقض عليه مجددا صدح صوت شقيقها مرددا بصلابة :-
" غالية ... "
توقفت غالية بعدما سمعت نبرة نديم القوية قبلما يتقدم نحوها متجاهلا عمار الذي نهض يعدل هندامه فربت على كتفها عندما صاحت وهي تشير نحو عمار :-
" أخرجه من هنا .. أخرجه فورا قبل أن أقتله ...."
حاولت زوجة عمها تهدئتها وكذلك حياة التي قبضت على ذراعها بمساندة عندما سار نديم نحو عمار الذي هتف بنبرة متهكمة :-
" البقاء لله يا نديم ... "
وقف نديم يتطلع اليه بصمت تام ..
اخذ الجميع يتابع ما يحدث بتوتر ...
حياة تربت على كتف غالية بدعم ونادر ما زال ممسكا بها ....
نرمين انكمشت على نفسها بينما وسام يقف متحفزا مستعدا للدخول في عراك مع عمار لأجل صديق عمره ...
ولكن نبرة نديم التي صدحت هادئة ألجمت الجميع :-
" أشكرك يا عمار .. "
ثم أضاف وهو يقبض على كفه بقسوة وعينيه تلمعان ببريق حاد متوعد :-
" عقبال التعزية بك قريبا ان شاءالله ..."
انتهى الفصل

حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن