الفصل الرابع والخمسون

2.6K 158 21
                                    

الفصل الرابع والخمسون
تم الزواج بسرعة فاقت استيعابها ..
باتت زوجة عمار الخولي ... تزوجته دون تردد ....
لم تأخذ فرصتها للتفكير حتى ...
كانت تريد ان تثبت له شيئا بل لنفسها ايضا ...
مسكت عقد الزواج بيديها تنظر الى اسمه الذي يجاور اسمها ..
ورغما عنها تذكرت آخر كان من المفترض ان يكون مكانه ...
آخر تركها دون ان يمنحها فرصة للتبرير بل دون أن يخبرها حتى عن سبب تركه ....
آخر لفظها من حياته في غمضة عين ...
هي تنتقم منه هو الآخر ...
تنتقم منه بعدما رأت القهر في عينيه ...
قهر عاشق خذلته هي دون أن تعلم واليوم خذلته مجددا وهي تعلم بل هي من سعت لذلك ...
شعرت به خلفها ... أنفاسه تجتاح رقبتها ...
توترت قليلا لكنها أخفت ذلك بمهارة وهي تستدير بشجاعة نحوه ...
شجاعة تحتاجها مع رجل مثله ...
قبض على خصرها وهو يميل بوجهه نحوها ...
يلثم خدها بقبلة دافئة ثم شفتيها ...
قبلة تجاوبت هي معها مجبرة تمنحه استجابة مقصودة ...
ابتعد عنها وهو يلتقط انفاسه بصعوبة بعدما غرق في قبلته معها ...
ركن جبينه فوق جبينها يخبرها بتمهل :-
" أعلم إنك تخططين لشيء ما ولكن لا يهمني ... ما يهمني إنك أصبحت ملكي بعد سنوات من الانتظار .."
سألته وهما ما زالا بنفس الوضعية :-
" كيف تفكر أنت ..؟! أنت تشك بنواياي اتجاهك ومع هذا لا تهتم ..."
ابتعد عنها ينظر الى ملامح وجهها التي يعشقها بشوق جارف تمكن منه ...
شوق نحاه جانبا وهو يخبرها مجددا :-
" لإنني أحبك ... ولانني لا أهتم بما ينتظرني ..."
سألته بقوة :-
" مالذي لا يهمك ...؟! هزيمتك مثلا ..."
ابتسم بطريقة غريبة ...
طريقة أرهبتها رغما عنها ...
ابتسامة تبعها يردد بصوت ثابت لا جدال فيه :-
" عليك أن تعلمي إن الهزيمة كثيرا ما تحمل خلفها انتصارا غير مسبقا ... هزيمتي حتى لو حدثت .. ستكون هزيمة مؤقتة ... وما يليها هو الانتصار الاعظم ..."
كلماته كانت تحمل شيئا جادا مخيفا ...
كيف يفكر هذا الرجل ومالذي ينويه ...؟!
تمتمت تسأل عن قصد :-
" وماذا عن شيرين ...؟!"
منحها تنهيدة طويلة وهو يهتف :-
" شيرين .. آه يا شيرين ..."
سألته ببرود :-
" هل تحبها ..؟!"
تأملها مليا يفتش عن اي لمحة للغيرة في عينيها لكنه لم يحصل على شيء ...
أجاب بصدق غلف ملامحه :-
" شيرين أنقى بكثير من أن يحبها شيطان مثلي ..."
تجهمت ملامحها وهي تهتف :-
" هذا يعني إنني ..."
جذبها نحوه بسرعة يخبرها وعيناه تلتهمان تفاصيل وجهها من جديد :-
" أنت شيطانة صغيرة أسرت قلبي كله دون أن تمنحني أي فرصة للهرب من قيد عشقها الأبدي ..."
.......................................................
كانت تجلس على طاولة الطعام بشرود قطعته والدتها وهي تنادي عليها فنظرت لها ليلى تتسائل عما كانت تقوله ..
وضعت فاتن كفها فوق كف ابنتها تخبرها بجدية :-
" حبيبتي .. انت منذ يومين على هذه الحالة ..."
سحبت كفها لتجذب قدح عصيرها ترتشف منه القليل عندما أضافت فاتن بتردد :-
" انا قلقة عليك يا ليلى ..."
قاطعتها ليلى بجمود :-
" لا تقلقي ... انا بخير ..."
اضافت وهي تنظر الى عيني والدتها القلقتين بوضوح :-
" ليست المرة الاولى وعلى ما يبدو لن تكون الاخيرة ..."
اضافت وهي تضع كفها فوق كف والدتها :-
" لكن كما اخبرتك لا تقلقي .... لقد اعتدت على هذا واصبحت اجيد تقبله بسهولة ... "
كلماتها تلك أقلقت والدتها أكثر دون أن تدري ...
والدتها التي لاحظت تبدلها المريب في اليومين السابقين ...
طردها لمريم ثم ما تبعه من مواجهتها لكنان ...
كانت فاتن تنتظر انهيارا بين احضانها بعد صدمتها الكبيرة في شقيقتها لكن صدمتها ردة فعل ليلى بعد مغادرة كنان المكان ...
جمود غلفها كليا منذ تلك الليلة ...
جمود يخيفها اكثر ...
ابنتها تلقت صدمة شديدة ومختلفة هذه المرة ...
صدمة اخيرة بعد سلسلة صدمات حاولت تجاوزها ولم تستطع ..!
عادت تتأملها وهي تتناول طعامها بنفس الجمود ...
ملامحها الرقيقة بدت صلبة وعينيها متحجرتين بشكل يثير القلق ....
أرادت فاتن أن تقول شيئا ما .. أي شيء ... لكنها لم تستطع ...
نظرت الى ليلى التي أنهت طعامها ونهضت بعدها تستأذن المغادرة الى غرفتها ....
تابعتها بعينيها مستوعبة انها طوال اليومين السابقين لم تترك غرفتها الا نادرا..
اختارت الانعزال في غرفتها عن الجميع ...
لم تتحرك خطوة خارج الفيلا حتى لم تذهب في موعد زيارتها اليومية لوالدها بل حتى لم تسألها هي عن وضعه الصحي ...
تنهدت بألم وهي تفكر في ابنتها الاخرى ...
تلك التي تتجاهل اتصالاتها تماما ولا تعرف اين هي الآن وماذا تفعل ...
لا تنكر انها غاضبة منها وبشدة ...
تنتظر ظهورها كي تحاسبها على ما فعلته وهي التي تسأل نفسها يوميا عن السبب الذي جعل مريم تتصرف هكذا ..
تتسائل اذا ما قصرت في تربيتها لتفعل كل هذا ...
تلوم نفسها بشدة رغم انها لا تتذكر انها قصرت معها يوما او أهملتها يوما ...
لقد كرست حياتها كليا لابنتيها وسعت الى تربيتهما بأفضل شكل ممكن لكن رغم هذا لا يمكنها الا تلوم نفسها ..
ربما هي قصرت في شيء ..
بالتأكيد والا ما كانت مريم ستتصرف بهذه الطريقة ...
نهضت من فوق الطاولة وهي التي لم تتناول شيئا من الأساس ...
تحركت بآلية متجهة الى غرفتها بعدما أخبرت الخادمة أن تنظف الطاولة ...
اما ليلى فدخلت الى غرفتها وأغلقت الباب خلفها بعنف ..
اتجهت نحو سريرها والقت بجسدها عليه ...
اغمضت عينيها وهي تكتم دموع القهر فيهما ..
لا تريد ان تبكي ..
لا تريد أن تضعف ...
جميع ما حدث معها نتاج ضعفها وغبائها ...
لماذا حدث هذا معها ...؟!
هي لا تستحق هذا أم هي تستحق ما يحدث معها ..؟!
هذه ليست المرة الاولى التي تتعرض بها لخيبة ولكن المرة هذه مختلفة ...
خيبتها في شقيقتها لا تساويها خيبة ...
شقيقتها التي تعلم جيدا ان وراء اختفائها هذا مصيبة ما ..
ورغم خوفها وقلقها عليها اختارت أن تقسو وتتجاهل ...
عليها أن تتعلم القسوة كي تستطيع أن تحيا في هذا العالم المليء بالصدمات والخيبات ...
اعتدلت في جلستها تكتم دموعها في عينيها ...
نظرت الى انعكاسها في المرآة فوجدت نفسها تحمل مظهر امرأة ضعيفة .. تائهة ومحطمة ...
لم يعجبها ما رأته ..
استفزها ذلك الضعف الظاهر عليها والألم المرتسم على ملامحها ...
انتفضت من مكانها تتقدم نحو المرآة ...
تقف مواجهة لها تتأمل ملامح وجهها المعذبة بتساؤل صدح بنبرة منخفضة بائسة :-
" من أنتِ ...؟ هل أنتِ ليلى ذات السبعة وعشرين عاما ...؟! لماذا تبدين وكأن عمركِ ازداد عشرون عاما ...؟! لماذا يبدو الألم محفورا على ملامحك ..؟! لماذا تحملين كل هذا الضعف واليأس في عينيك ...؟! من أنت حقا ..؟! من أنت يا ليلى ..؟! بالتأكيد لست ليلى القديمة .. المشرقة القوية ... الجميلة الجذابة ... ليلى التي تملك العالم بين يديها ... أين ذهبت ليلى القديمة ..؟! هل ماتت ..؟! ومن تسبب بموتها ..؟! نديم ..؟! عمار الخولي ....؟! أحمد سليمان ..؟! مريم سليمان ...؟؟ كنان نعمان ..؟! أم جميعهم تكاتفوا وشاركوا في قتلك ...؟!"
تراجعت الى الخلف بجزع ...
الخوف غزا روحها ...
ارادت أن تهرب بسرعة ...
تهرب من صورتها بالمرآة ..
تحركت تغادر غرفتها هاربة من مجهول ...
مجهول لا تدركه ولكنها تخشاه ...
توقفت خارج غرفتها وهي لا تدرك اين يمكنها أن تذهب ..؟؟
أين تهرب من واقعها ..؟؟ من قدرها المظلم ...؟!"
ثم اندفعت بسرعة نحو غرفة أخيها ...
فتحت الباب ودلفت الى الغرفة لتتوقف في منتصفها وهي تتأمل عبد الرحمن الذي يلعب في المكعبات بشغف كعادته ...
رفع الصغير وجهه نحوها وهو يبتسم لها بإشراق ..
تقدمت نحوه وحملته متجاهله حديثه معها ...
جلست على سريره الصغيرة وهي تعانقه ...
تضمه داخل احضانها او ربما تضم هي نفسها داخل احضانه ..
تحتمي به من عالم قاسي لا يناسبها ...
عالم لا يصلح امثالها للعيش فيه ...
شددت من عناقه وهي ترتجف بقوة بينما الدموع تساقطت فوق وجنتيها رغما عنها ...
....................................
في صباح اليوم التالي ..
استيقظت من نومها أخيرا ...
اعتدلت في جلستها تتفحص جسدها رغما عنها بتوجس ...
تنهدت بصمت وهي تنهض من فوق السرير متجهة الى الحمام الملحق بالغرفة ...
وقفت أمام المغسلة تغسل وجهها اولا قبل أن تجففه بالمنشفة لتتأمل ملامحها بصمت وعقلها يشرد فيما حدث البارحة ..
حديثه الذي يحمل بين طياته الكثير ...
اعترافه الصريح بعشقه لها ...
عشقه الذي صرح به عدة مرات مسبقا لكن هذه المرة تصريحه كان مختلفا ...
تصريحه كان يحمل ثقة وثبات وقوة مثيرة للريبة ...
عمار بدا مختلفا بشكل يثير قلقها ...
تفهمه البارحة لرغبتها في البقاء في غرفة آخرى فاجئها ...
لم تتوقع منه تصرفا كهذا ...
متى كان مراعيا ..؟! ام هو فقط يلاعبها بطريقة مختلفة ...؟!
غادرت الحمام بملابسها التي لم تغيرها بعد ...
اخذت نفسا عميقا وهي تتسلح بكل ما تملكه من شجاعة وثقة لتخرج من الغرفة فتجد الشقة هادئة تماما بشكل آثار ريبها ...
أين هو ..؟! هل ما زال نائما ....؟!
توقفت عن أفكارها عندما وجدته يدلف الى الشقة بملامح واجمة أثارت غيظها ..
لم تكن تنتظر منه شيئا كهذا في اول يوم لهما بعد زواجهما ...
تأملت تلك الاكياس التي وضعها على الطاولة بإهمال قبل ان يجلس جانبها على الكنبة ..
سألته مدعية الاهتمام :-
" هل حدث شيء ما ... تبدو حزينا ..."
اجاب باقتضاب :-
" جيلان دخلت صباح اليوم الى المصحة النفسية ..."
تمتمت بخفوت :-
" حسنا .. لا بأس ... سوف تتحسن قريبا ان شاءالله ..."
أشار الى الاكياس مرددا :-
" هذه ملابس اشتريتها لك ..."
" حقا ..؟!"
قالتها بحماس وهي تنهض وتلتقط الاكياس بينما تثرثر بعفوية :-
" كنت احتاجها كثيرا ..."
ثم مالت نحوه عن قصد تقبله على وجنته وهي تشكره برقة :-
" شكرا يا عمار ..."
تأملها لوهلة قبل أن ينتفض ضاحكا بطريقة فاجئتها ...
توجست ملامحها وهي تراقبه يضحك بهذه الطريقة المثيرة للريبة ..
توقف عن الضحك فجأة كما بدأ وهو يخبرها بخفة :-
" لا تليق بك هذه التصرفات يا مريم .."
سألته بصوت مبحوح :-
" آية تصرفات ...؟!"
رد وهو يتأملها ببرود :-
" التصرفات اللطيفة مثلا ... لا داعي أن تتصرفي بشكل لا يشبهك ... انا أريدك كما أنت ... على طبيعتك ... "
هزت رأسها بصمت عندما نهض من مكانه وسحب كيسا ومده لها يخبرها بشقاوة :-
" انظري الى داخل الكيس ..."
التقطت الكيس وأخرجت ما فيه بلا مبالاة لتتجمد مكانها وهي ترى قميص نوم أسود اللون شبه عاري ...
مال نحوها مرددا وانفاسه تلفح جانب وجهها :-
" سترتديه في ليلتنا الاولى ..."
تراجعت قليلا تلاحظ التصميم في عينيه ...
يمنحها رسالة مبطنة أن تفهمه البارحة لن يدوم طويلا ...
تمتمت وهي تهز رأسها :-
" حسنا ..."
اضافت بتردد :-
" انت تعرف انني لست مستعدة حاليا ولكن ..."
توقفت امام نظرة عينيه المشتعلة برغبة دفينة بينما نبرة صوته العميق تخبرها بغلظة :-
" الليلة يا مريم ... الليلة سوف نتمم زيجتنا والا ..."
" وإلا ماذا ..؟!"
سألته ممتعضة ليبتسم ملأ فمه وهو يردد :-
" انا لست صبورا على الاطلاق يا مريم وانت من أتيت بنفسك وعرضت الزواج علي ..."
قاطعته بحدة :-
" كنت ستفعلها انت عاجلا ام اجلا .. انا سبقتك فقط ..."
تمتم ببرود :-
" لا يهم من سبق الآخر لكن عليك ان تفهمي انني لست غبيا ... "
أضاف وهو يجذب خصلة من شعرها يلفها حول اصبعه :-
" أنا أمنحك ما تريدين بكامل إرادتي يا مريم ... عليك أن تدركي مع من تتلاعبين يا صغيرة .... "
حرر خصلاتها وهو يخبرها بإيجاز :-
" الليلة سوف نتمم زيجتنا ....وغدا سنذهب الى عائلتك ونخبرهم بزواجنا ..."
انصرف بعدها تاركا اياها تتابعه بتوجس حقيقي فهذا الرجل يضمر شيئا ما...
شيئا لا تدركه ولكنه بات يخفيها مهما تظاهرت بالقوة والثبات ..
..........................................

حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن