كانت ليلى ممددة فوق سريرها تتأمل السقف بشرود تام فهذه حالتها منذ عودتها من العشاء الذي جمعها بكنان والذي إنتهى بموافقتها على عرض الزواج الذي قدمه مجددا لها ...
منذ عودتها وهي على هذه الحال ...
أخذت حماما سريعا ثم إرتدت أحد قمصان نومها وتمددت على سريرها لتغرق في أفكارها دون توقف ..
حتى هذه اللحظة لا تعرف كيف وافقت ولم وافقت ..؟!
حتى هذه اللحظة لم تستوعب بعد ما تفوهت به ...؟!
ربما عليها أن تعترف إنها في تلك اللحظة كانت تبحث عن شيء ما مبهم ...
ربما تبحث عن إستقرار أو طوق نجاة ينتشلها من ذكريات الماضي التي ما زالت تحيط بها من كل إتجاه ..!!
ربما هي تأمل أن يحررها هذا الإرتباط من ذلك الماضي وتلك المشاعر المؤلمة التي باتت غير قادرة على مسايرتها وتجاهلها ...!!
ربما هي تريد بداية جديدة على وعسى تنجح فيها وتنسى ذلك الماضي بكل ما فيه ..
هي تعلم جيدا إنها تستحق السعادة ..
تستحق أن تحيا وتتزوج وتستقر وتنجب أطفالا ...
تستحق أن يكون لديها عائلة كبيرة وجميلة ..
زوج وأطفال وحياة لطيفة ...
هي تستحق كل هذا ...
لا تنكر إن موافقتها كانت صادمة حتى لها فهي وجدت نفسها بعد تفكير قصير تصرح بقبولها عرضه وما تلا ذلك كان سيء ..
فهي بعدما صرحت بموافقتها شعرت بالتخبط مجددا والقلق مما هو قادم ..
القلق شيء لا بد منه فهي تعلمت من تجاربها السابقة آلا تبني أمالا على شخص ما او تجربة معينة ...
أغمضت عينيها بوهن تتسائل مجددا إذا ما كان قرارها خاطئا فيأتيها الجواب صريحا ، هي تعجلت في الموافقة ولكن لم يعد هناك مجال للتراجع ...
إعتدلت في جلستها وهي تتأمل الفراغ أمامها بتفكير ..
تطرح على ذاتها سؤالا صريحا واضحا ...
هل هي مستعدة للزواج مجددا..؟! والأهم هل هي مستعدة للزواج من كنان ..؟!
" كنان .."
نطقت إسمه بخفوت بينما أخذ عقلها يراجع ما جمعها به حتى الآن ..
هو شاب ذكي وقوي وجذاب ..
معتد بنفسه جدا ..
يمتلك نزعة من التسلط والغرور واضحة ..
لبق وذو شخصية تتميز بالرقي ...
ارستقراطي بالفطرة ...
ثري جدا جدا ...
لكن هل هذا يكفي لتكون زوجته ..؟!
أخذت تتخيل نفسها زوجة له .. تتزوج من كنان .. تعيش معه ...
تتشارك حياة كاملة معه وتنجب أطفالا منه ..
شردت في تخيلاتها فوجدت نفسها ليست نافرة من الفكرة حتى لو لم تكن متحمسة جدا او سعيدة ومتلهفة لحياة قادمة معه ...
أليست هذه بداية جيدة ..؟!
فهي رغم كل شيء تمتلك قبولا ناحيته ..
وهناك العديد من الزيجات تتم على مبدأ القبول ...
هي لا تنفر منه وتشعر بالقبول عموما ناحيته وهو يريدها ...
يريدها بشدة ... يريدها كثيرا ويعدها بحياة مثالية ...
لماذا لا تخوض التجربة إذا ..؟!
لماذا لا تحاول فتح صفحة جديدة معه ..؟!
ما أسوء شيء قد يحدث بعدها ..؟!
هي تتوقع أي شيء بل باتت تتوقع الأسوأ دائما ..
في النهاية هذه الزيجة هي تجربة ستخوضها وإن فشلت فلن تؤثر عليها كثيرا ... هي مرت بتجربة سابقة قاسية ومرهقة ومهما بلغت صعوبة التجربة الجديدة فلن تكون بقدر صعوبة وألم التجربة السابقة ...
إبتسمت بتهكم على الحال الذي وصلت إليه وإلى أي درجة بدت بائسة تماما وهي تفكر بهذه الطريقة لكن لا حل آخر لديها ..
هي يجب أن تحاول على الأقل ..
تحاول التحرر من الماضي ومشاعرها القديمة ..
تحاول بدء حياة جديدة مع رجل جديد ..
إذا بقيت على أمل أن تتشافى من جروحها ربما ستمر السنوات دون جديد ..
ستدفن نفسها في ذلك الماضي ..
أين الخطأ في محاولتها هذه ..؟!
ربما تجد ملاذها في هذه الزيجة ..
ربما تستقر حياتها كما تتمنى ..
شعرت بقليل من الراحة تستوطن قلبها وهي تفكر بهذه الطريقة ..
هي لا تمنح نفسها مبررات لقبولها هذا العرض .. إطلاقا ..
هي تقول الحقيقة ..
هي تحتاج الى بداية جديدة ونظيفة ...
هي تستحق بداية جديدة وعرض الزواج هذا جاء كفرصة ستتمسك بها علها تكون بداية جديدة حقيقية لها ...
نهضت من فوق سريرها و اتجهت نحو الشماعة تسحب الروب الخاص بقميص نومها فترتديه فوق القميص القصير بحمالاته الرفيعة ..
تحركت خارج الغرفة بخطوات هادئة حيث إتجهت الى غرفة والدتها التي تستقر بها لوحدها منذ فترة ..
طرقت على الباب بخفة ليأتيها صوت والدتها تسمح لها بالدخول وعلى ما يبدو كانت تنتظر مجيئها لها رغم مرور حوالي ثلاثة ساعات على عودتها الى المنزل ..
فتحت الباب ودلفت الى الغرفة لتجد والدتها تتوسط سريرها وفي يدها كتاب تقرأه عندما أشارت لها وهي تبتسم :-
" تعالي يا ليلى ..."
تقدمت ليلى نحوها تخبرها :-
" أردت التحدث معك قليلا .."
حافظت والدتها على إبتسامتها وهي تتحرك قليلا الى الجانب:-
" تعالي وإجلسي وتحدثي كما تريدين ..."
ابتسمت ليلى بصفاء وهي تجلس جانب والدتها لتهمس لها :-
" انا وافقت على عرض الزواج ..."
اختفت ابتسامة والدتها للحظات بسبب دهشتها مما سمعته لكنها عادت وإبتسمت مجددا وهي تسأل بنفس الدهشة :-
" حقا يا ليلى ..؟!"
هزت ليلى رأسها بصمت لتسألها والدتها مجددا :-
" هل أنت متأكدة من قرارك...؟!"
صمتت ليلى ولم تجيبها فتنهدت والدتها ثم قالت بتفهم :-
" كنت أتوقع هذا .. "
أكملت بحذر :-
" لماذا لم تنتظري قليلا ...؟! لم الإستعجال يا ليلى ..؟!"
" ماذا سأنتظر ..؟!"
سألتها ليلى بدورها ثم أكملت :-
" مالذي سيتغير بعد شهر او شهرين او حتى عامين وعامين ..؟! "
صمتت والدتها ولم تعلق لتكمل ليلى :-
" لا شيء يتغير ... السنوات تمر وانا ثابتة مكاني دون أن أخطو خطوة واحدة ... لقد ضاعت سنوات كاملة من حياتي .. سنوات ضاعت هباءا وأنا تقبلت ذلك بصمت ولكنني لست مستعدة أن أسمح لسنوات أخرى من عمري أن تضيع مجددا ... السنوات تمر يا ماما دون تقدم يخصني ..."
قبضت فاتن على كفها تخبرها بصدق :
" حبيبتي .. أنا أكثر واحدة أريدك أن تعيشين حياتك وتنسين الماضي ... أنا أكثر شخص يريدك أن تتزوجي وتستقري مع رجل يحبك ويحترمك .. ولكن هذه السرعة تقلقني ... خاصة إنك تبدين غير واثقة تماما من قرارك .."
قالت ليلى بصدق :-
" نعم أنا غير واثقة من قراري لكنني واقعيا لا أستطيع تحديدا ما أريده او ما هو الأفضل لي ... من جهة أقول لنفسي إنتظري قليلا فربما الزمن يداوي جروحك وحينها تتعرفين على شخص جديد وأنت خالية من جروح الماضي ومن جهة أخرى أرى في هذه الزيجة فرصة لبدء حياة جديدة عسى ولعل من خلالها أستطيع تخطي الماضي وأحظى بحياة هادئة ومستقرة كما تمنيت دائما .. انا عاجزة عن الثبات على أحد الخيارين فكليهما يبدو لي منطقيا ... انا واقفة في المنتصف ولا أعرف كيف أتصرف ...؟! "
" لكنك إخترت الخيار الثاني ... رغم ترددك إخترتي الزواج مجددا ... مع إنه كان بإمكانك إختيار الأول والإنتظار لفترة ما والتريث .. "
قالتها والدتها بجدية وهي تكمل :-
" ما السبب الذي دفعك لهذا الإختيار ..؟! لماذا إخترت المضي في حياتك ودخول تجربة جديدة بسرعة ...؟!"
تنهدت ليلى وهي تجيب :-
" لا أعلم .. لم أجد سببا محددا ولكن ما أعلمه إنني عندما وجدته يعرض الزواج علي مجددا بل ويصر عليه شعرت برغبة فالقبول .. شيء ما داخلي دفعني لأقول موافقة .."
" والآن ..؟؟ بعد إعلان موافقتك .. هل تشعرين إنك إستعجلت في الموافقة .,؟!"
نظرت ليلى الى والدتها بحيرة لتقول والدتها :-
" دعكِ من هذا السؤال .. أخبريني عن كنان .. كيف ترينه ..؟!"
ظهر الإرتباك على ملامح ليلى التي أجابت بعد ثواني :-
" قوي .. ذكي ... وسيم أو بالأحرى جذاب أكثر مما هو وسيم ... "
تنهدت بصمت ثم إسترسلت :-
" لا أعرف ما يجب قوله ولكنه يعتبر عريس مثالي لأي فتاة .."
قاطعتها والدتها برفق :-
" دعكِ من صفاته العامة .. نعم هو عريس ممتاز ولكن دعينا نتحدث عن وجهة نظرك فيه او بالأحرى عن مشاعرك نحوه ..؟!"
أضافت بحذر :-
" لا أتحدث عن مشاعر الحب لإنني أعرف إنك لا تحملين هذا النوع من المشاعر نحوه حاليا على الأقل ولكن أتحدث عن شعورك عندما ترينه أو تتحدثين معه ..."
همست ليلى بخفوت :-
" يوترني ..."
تغضن جبين والدتها التي أنصتت لها بإهتمام :-
" يوترني كثيرا .. ربما بسبب شخصيته ... هو ذو شخصية قوية وثابتة بشكل مغيظ ومتحكم أيضا .. عندما أتحدث معه أشعر بنفسي عالقة بين كلامه المنمق والحازم في نفس الوقت ... ثقته بنفسه تشتتني رغم إنها تثير إعجابي ... كلماته الهادئة والقوية في نفس الوقت تجعلني مترددة دائما ... دائما ما يملك هو زمام الأمور ويجيد تدوير أي نقاش لصالحه .. يعرف كيف يجعلني صامتة عاجزة عن مجاراته في حديثه الهادئ الرزين ..."
تأملت والدتها التي تتأملها بإهتمام وتستمع لها بإنصات لتضيف بحرج :-
" في الحقيقة أشعر بقليل من الإنجذاب نحوه ... يعني ليس إنجذابا قويا لكنه يستطيع أن يسيطر علي كليا بمجرد حضوره ... عندما أكون معه لا أجد الفرصة للتفكير بشيء سواه .. هو يمتلك حضور طاغي حقيقة .."
أنهت كلماتها أخيرا لتسأل والدتها :-
" ما رأيك فيما سمعته ..؟؟"
أجابت والدتها :-
" ما سمعته جيد للغاية ... يعني وجود إنجذاب منك ناحيته حتى لو قليل فهو بداية مبشرة .."
نظقت ليلى بحرص :-
" وأنا فكرت هكذا ووجدت إنها فرصة لي ... فأنا أيضا أبحث عن الإستقرار والسعادة وهو يبدو جيدا ومناسبا جدا لما أريده ..."
سألت والدتها مجددا بتردد :-
" هل هناك سببا آخرا ...؟! مثلا خوفك من مرور الزمن دون الإستقرار وتكوين عائلة..؟! "
ارتجفت ملامح ليلى كليا وهي تسمع ما قالته والدتها لتجيب بملامح جامدة :-
" وهل هذا خطأ..؟! هل من الخطأ أن أفكر بهذه الطريقة ..؟!"
" نعم يا إبنتي .. ليس خطئا ولكن لم العجلة أيضا ..؟! إنظري من حديثك عن كنان يبدو مناسبا لك وهناك انجذاب عمومي منك نحوه فلماذا لا تمنحين نفسك الفرصة للتعرف عليه أكثر ... تتعرفين عليه عن قرب وتتأكدين من توافقكما تماما ... مالذي يجبرك على الزواج منه بهذه السرعة ..؟!"
أجابت ليلى بجدية :-
" لإنني بحاجة الى شيء ما يحرك هذا الركود الذي أعيش به .. لإنني أخاف أن أرفض طلبه فأندم فيما بعد عندما تمر السنوات وأنا باقية مكاني .. لإنني لست واثقة من قدرتي على التخطي بعد .. لإنني أريد حياة جديدة مع شخص جديد عسى أن تكون بداية جديدة لي وخطوة جيدة لحياتي القادمة .. "
صمتت لوهلة ثم قالت بصوت مبحوح :-
" أو ربما لإنني أريد أن أصبح أما ..."
تجمدت ملامح والدتها بصدمة مما تسمعه لتضيف ليلى بهدوء :-
" أريد أن يكون لدي أطفال .. أريد تكوين عائلة .. أريد الإستقرار.. أريد أطفالا يا ماما ...."
أخذت نفسا عميقا ثم أكملت :-
" أنا أستحق أن أحيا حياة مستقرة مع زوج محترم وأطفال رائعين ..."
همست والدتها غير مستوعبة بعد ما سمعته على لسان إبنتها فهي لم تتوقع أن يكون هذا السبب الذي دفعها لقبول عرض الزواج :-
" بالطبع تستحقين يا صغيرتي ولكن ما زال الوقت مبكرا .. يمكنك الإنتظار قليلا .."
ردت ليلى بنبرة قاطعة :-
" مالذي سأنتظره يا ماما ...؟! سأنتظر أن أحب مجددا ... هل سأعيش على أمل دخول شخص جديدا في حياتي يجعلني أقع في غرامه ..؟!"
أكملت وهي تبتسم برضا :-
" أنا لم أعد تلك الفتاة التي تبحث عن حبيب منشود ... كنان رجل جيد جدا بل هو حلم لكل إمرأة .. رجل مثالي كما يرى الجميع .. هو حتى يفوقني ثراءا ومكانة اجتماعية ... رجل يليق به أن يكون أبا لأطفالي ... ماذا سأريد أكثر ..؟!"
تنهدت والدتها ثم عادت تبتسم مرددة :-
"أنت تعلمين إنني أثق جيدا بك وبعقليتك وصحة قرارتك ..."
ثم أضافت بخفوت :-
" وبيني وبينك هناك سبب آخر يخبرني إن قرارك هذا سيكون صحيحا بإذن الله ..."
عقدت ليلى حاجبيها تسأل :-
"أي سبب ..؟!"
ردت وهي تبتسم بهدوء :-
" تظرتك له ... أنت تنظرين له بشكل مختلف ... "
تنهدت ثم شرحت مقصدها :-
" مثلا عندما تقدم زاهر لخظبتك رأيت الرفض واضح في عينيك وعلى ملامحك ... جسدك كان ينطق بالرفض وعدم القبول .. لكن الآن لم أرَ رفضا كالذي رأيته عندما أراد زاهر خطبتك كما إنني سمعت كلاما مختلفا تماما عن الذي سمعته منك وقتها ... وقتها كل جزء منك كانت ينطق بالرفض أما الآن فأجد قبولا واضحا وهذا الفرق يبدو لي مهما ..."
تنحنحت ليلى بحرج لتمد فاتن كفها وتقبض به على كف ابنتها تسحبها وتضعها فوق موضع قلبها تخبرها وهي تبتسم بطمأنينة :-
" كما إنني رغم عدم رضاي عن عجلتك بالقبول لكن قلبي مطمأن .. سبحان الله قلبي مطمئن يا ليلى بشكل لا أفهمه ... أنا أثق بحدسي .. انا والدتك ... بإذن الله ستكون هذا التجربة لصالحك ... توكلي على الله يا ابنتي ولكن إسمعي ما سأقوله ..."
نظرت لها ليلى بإنصات لتهتف والدتها بصوت متحشرج :-
" صلي صلاة الإستخارة يا ليلى قبل أن تحددين موعدا لقدومه ... صلي يا إبنتي كي يهديكِ الله الى الصواب و كي يطمئن قلبي وقلبك وقتها تماما يا صغيرتي ..."
ابتسمت لها بهدوء وهي تهز رأسها موافقة على حديثها ...
.........................................................
في صباح اليوم التالي ..
في قصر آل نعمان ...
كانت شريفة تتناول طعام الإفطار مع زوجها في الشرفة كعادة ملازمة لهما منذ وقت طويل ...
تأمل كمال ملامحها المتجهمة منذ ليلة البارحة فقال بخفة :-
" ألن تتخلي قليلا عن هذا التجهم الذي يسيطر على ملامحك منذ ليلة البارحة ..؟!"
تنهدت مرددة بحنق :-
" هل أعجبك تصرف ولدك ...؟! يجلب فتاة غريبة الى هنا ..."
قال كمال بجدية :-
" أليس أفضل من أن يتركها وحيدة في الخارج ... ؟! تصرفه كان شهما يا شريفة .. وانا فخور بما فعله ..."
تمتمت شريفة بضيق :-
" الفتاة متزوجة يا رجل وحامل أيضا .. هاربة من زوجها .. ربما تتسبب لإبنك بمشاكل هو في غنى عنها ..."
قال كمال بهدوء :-
" أيا كان .. سيف رجل قوي .. لا تخافي عليه .. هو يستطيع تدبر أمره جيدا ..."
قالت شريفة بعدم تصديق :-
" برودك يا كمال سيصبني بالجلطة يوما ما .."
ثم توقفت عن حديثها وهي تشاهد إبنها الأكبر يتقدم نحوها وإبتسامة عريضة مرتسمة على شفتيه فتهتف بدهشة من قدومه في هذا الوقت :-
" كنان ..!!"
" صباح الخير ..."
قالها كنان وهو ما زال محتفظا بإبتسامته ثم إنحنى معانقا والده قبل أن يتجه نحو والدته فيقبل كفها بحركة تحبها والدته للغاية قبل أن يقبلها من وجنتيها وهو يردد :-
" كيف حالكما ...؟!"
ردت شريفة بخفوت :-
" بخير الحمد لله ..."
سحب كنان كرسيا له وجلس عليه مرددا وهو يتأمل المكان حوله :-
" حقا إشتقت لتناول الإفطار هنا معكما ..."
قال كمال بجدية :-
" أنت من إخترت الوحدة يا بك ... "
قاطعته شريفة تسأل ولدها بإهتمام جلي :-
" مالذي أتى بك في هذا الوقت المبكر يا كنان ..؟؟ هل هناك مشكلة ما ..؟!"
قال كنان مبتسما :-
" إشتقت لكما فقلت لأمر عليكما قبل ذهابي الى الشركة ..."
تأمله والده بصمت بينما عقدت شريفة حاجبيها تهتف بتهكم :-
" منذ متى وأنت تشتاق لنا ..؟! في العادة لا نراك سوى مرة واحدة كل عدة أيام ..."
قال كنان بملامح منشرحة :-
" بالله عليك لا تبدئي الآن .. لقد أتيت لتناول الفطور معكما فلا تجعليني أندم على مجيئي ..."
أشار كمال الى زوجته :-
" أخبري الخادمة أن تجهز القهوة لكنان كما يحبها ..."
هزت شريفة رأسها بصمت ثم نهضت واتجهت نحو زوجها تهمس لها :-
" سأرى ولدك الذي لم يستيقظ حتى الآن وأفهم ما ينوي أن يفعله مع تلك المصيبة التي أتى بها إلينا .. لا تخبر كنان بشيء الآن .."
هز كمال رأسه بإذعان لتغادر شريفة المكان فيتسائل كنان بخفة :-
" ماذا يحدث يا والدي العزيز ..؟! مالذي كنتما تتهامسان به ..؟!"
قال كمال بإستخفاف:-
" لم أعهدك فضوليا يا ولد .."
أضاف وهو يتأمل ملامحه المنشرحة :-
" والآن تحدث .. ما سبب هذه الزيارة ..؟! من الواضح إن هناك شيء ما مهم حدث معك ... شيء جيد للغاية فملامحك تشيء بذلك .."
ابتسم كنان متمتما :-
" دائما كا كنت تجيد قراءة ملامحي بسهولة ..."
" وسأظل .. انت ولدي الكبير ... البكري ... أول فرحتي ..."
أضاف يتسائل بفضول :-
" هل الأمر يتعلق بما أفكر به ..؟!"
سأله كنان بخبث :-
" ومالذي تفكر به يا بك ..؟!"
رد كمال بمكر :-
" هناك فتاة ...أليس كذلك ..؟!"
تراجع كنان الى الخلف وهو يومأ برأسه مجيبا :-
" نعم ، هناك فتاة بالفعل .. لقد وجدت المرأة التي أبحث عنها منذ سنوات .. المرأة التي سأتزوجها ..."
ظهرت الفرحة جليا على ملامح الأب الذي ردد بسعادة :-
" وأخيرا يا ولد .. ستفعلها وتتزوج وتجعلني أفرح بك ..."
ابتسم كنان مرددا :-
" وأخيرا يا بابا .."
ثم أطلق تنهيدة صامتة وقال :-
" لكن هناك مشكلة بسيطة ...؟! "
صما للحظة ثم أكمل :-
" طبعا ليس بالنسبة لي وإنما لماما تحديدا .."
سأله كمال بقلق :
" ماذا هناك ..؟!"
رد كنان بجدية :-
" إنها مطلقة يا أبي ..."
حل الصمت للحظات أخذ يتأمل فيها كمال ولده دون كلمة ..
نطق والده أخيرا يسأله :-
" أنت تريدها رغم كونها مطلقة ..؟! أليس كذلك ..؟!"
هز كنان رأسه مرددا بثقة :-
" بالطبع يا بابا والدليل إنني أتيت اليوم لأخبركم بالأمر كي نخطبها فورا ..."
سأله والده بحذر :-
" أليس هناك القليل من التردد او الضيق بسبب تجربتها السابقة ..؟!"
تنهد كنان وقال بصدق :-
" أبدا يا بابا .. لا أعلم لماذا تعتقد إن هناك مشكلة داخلي بسبب هذا الأمر ..؟!"
رد والده بجدية :-
" بسبب شخصيتك يا كنان .. شخصيتك تبرهن على ذلك .. ربما لم يسبق لي أن سمعت وجهة نظرك في هذا الأمر لكن شخصيتك التي أعرفها تمام المعرفة تبدو حساسة في أمور كهذه ..."
ابتسم كنان مرددا :-
" يؤسفني إخبارك إنك أخطأت في تقييم شخصيتي عند هذه النقطة .. انا رجل متحضر يا بابا .. صحيح انا متملك وصارم وأحب الكمال و المثالية في كل شيء وما زلت ولكن لم أنظر يوما الى المرأة الأرملة أو المطلقة على إنها شيئا منقوصا .. ربما تستغرب هذا لكنني لا أرى إن الطلاق ينتقص من المرأة شيئا ولا أهتم بمبدأ العذرية السخيف ... لا يهمني أن أكون الرجل الأول في حياتي إمرأتي .. المهم أن أكون الوحيد والأخير ... أنا إخترت ليلى لإني وجدت فيها المرأة التي أريدها كزوجة .. لم أنظر الى مالها او جمالها او وضعها الإجتماعي .. نظرت إلى ليلى نفسها ... والشيء الوحيد الذي يهمني هو ليلى نفسها ..."
ابتسم والده قائلا بفخر حقيقي :-
" أنت لا تعلم مقدار سعادتي بكلامك هذا يا كنان .. انا فخور بك جدا .."
قال كنان بدهشة :-
" أنت موافق إذا .."
قال كمال بجدية :-
" ولم سأرفض ..؟! انظر يا كنان ... انا لا يهمني سوى شيء واحد في الفتاة التي إخترتها زوجة لك .. أخلاقها فقط .. أخلاقها ولا شيء عدا ذلك .. فقيرة أم غنية .. ؟! عزباء او مطلقة او حتى ارملة ..؟! كل هذا لا يهمني طالما أنت تريدها ما عدا الأخلاق .. إذا كان الأمر يتعلق بأخلاق الفتاة فحينها سأقف ضدك ولن أقبل بهذه الزيجة ..."
إسترسل وهو يبتسم لها :-
" مبارك يا كنان .. حدد موعدا سريعا كي نذهب إليها ونخطبها ..."
أضاف يتسائل بإهتمام :-
" هل لديها أطفال ..؟!"
هز كنان رأسه نفيا مرددا :-
" كلا يا بابا ..."
" حسنا .. أين تعرفت عليها إذا ..؟!"
سأله والده ليرد كنان :-
" في الحقيقة جمعتني صفقة معها .. مع شركة والدها .."
" من يكون والدها ..؟!"
رد كنان يخبره :-
" ليلى تكون إبنة أحمد سليمان .. والدها أحمد سليمان .. رجل أعمال معروف ... ووالدتها من عائلة صفوان .. عائلة والدتها أيضا كبيرة ومعروفة ومحترمة ..."
هز كمال رأسه مرددا :-
" نعم ، أسمع عن والدها وعائلته وكذلك عائلة والدتها لكن لم يسبق لي التعامل مع أحدهم ..."
قال كنان بجدية :-
" لقد تعرفت عليها أثناء العمل ومع مرور الوقت وجدت نفسي معجبا بها ووجدت بها الزوجة التي كنت أبحث عنها .."
" على بركة الله .."
قالها والده مبتسما ليضيف بحذر :-
" ولكن والدتك لن يعجبها وضع الفتاة الإجتماعي .."
تنهد كنان مرددا بضيق :-
" أعلم يا بابا ..."
ليكمل بعزم :-
" ولكنها يجب أن توافق ... لا حل آخر أمامها .."
ثم نهض من مكانه مرددا :-
" سأذهب وأتحدث معها .."
هز كمال رأسه بتفهم قبل أن يقول ممازحا :-
" إذا إحتجت مساعدة ستجدني في الخدمة ..."
.............................................................
تقدم كنان الى الداخل يبحث عن والدته فوجدها تهبط درجات السلم بملامح متجهمة ليشير لها مرددا :-
" يجب أن نتحدث يا ماما ..."
قالت شريفة وهي تسير أمامه متجهة نحو صالة الجلوس :-
" كنت أعلم إن مجيئك هذا ليس بدافع الإشتياق كما تدعي ..."
جلست على الكنبة ووضعت قدما فوق الأخرى تضيف متسائلة :-
" ماذا هناك يا كنان ...؟! أنا أسمعك ..."
جلس كنان قبالها يخبرها :-
" سأتزوج ... وجدت الفتاة المناسبة وأريد خطبتها ... "
تهلل وجه والدته فرحا وهي تردد :-
" حقا يا كنان ..؟! وأخيرا ستفعلها .. ؟! وأخيرا ستدخل الفرحة الى هذا القصر مجددا ..؟!"
أكملت تستجوبه :-
" من هي الفتاة ..؟! إبنة أي عائلة ..؟! من يكون والدها ..؟! والدتها ..؟!"
أجاب كنان بجدية :-
" والدها أحمد سليمان ... رجل اعمال معروف ووالدتها أيضا من عائلة معروفة .. "
صمتت لوهلة تتذكر الإسم فتقول :-
" عائلة سليمان جيدة .. "
ثم أكملت بقليل من الوجوم :-
" لا بأس بهم مع إنني كنت أفضل مصاهرة عائلة أرفع مكانة وشأنا ..."
" عائلة سليمان معروفة وذات شأن مرموق ..."
قاطعته ببرود :-
" هناك من أفضل منهم ... "
زفر أنفاسه مرددا :-
" نحن لسنا في سباق يا ماما ..."
قالت شريفة :-
" أين الخطأ في كوني أريد مصاهرة عائلة توازي عائلتنا مكانة ..؟! هم عائلة راقية وذات مكانة جيدة ولكن ليس بقدر مكانتنا ولا مكانة الكثير من معارفنا ..."
" ماما من فضلك ..."
قالها بعصبية مكتومة لتزم شريفة شفتيها بعبوس مرددة رغما عنها :-
" حسنا .. كما تريد .. انا فقط أنصحك ليس إلا ..."
أضافت تتسائل بفضول :-
" هل هي جميلة ...؟! "
هز رأسه بصمت لتعاود السؤال :-
"جميلة للغاية أم .."
قاطعها :-
" سترينها بنفسك غدا ..."
هتفت بدهشة :-
" سنخطبها غدا ..."
اومأ برأسه مرددا :-
" نعم .. أنا أريد الزواج منها بأقرب وقت ..."
" أين رأيتها ..؟! كيف تعرفت عليها ..؟!"
تنهد مجيبا :-
" هناك صفقة عمل مشتركة بيننا .. رأيتها وأعجبتني منذ أول نظرة ثم تحدثنا عدة مرات .. هكذا عرفتها ثم قررت خطبتها .."
صمتت والدته وقد بدا عليها التفكير العميق ليضيف :-
" لكن هناك شيء يجب أن تعرفينه ..؟!"
نظرت والدته له بترقب ليكمل :-
" ليلى سبق لها الزواج ..."
اتسعت عينا شريفة ليحسم حديثه بهدوء :-
" ليلى مطلقة يا ماما ..."
" مطلقة .."
همست بها والدته بعدم تصديق قبل أن تنتفض من مكانها تصيح بلا وعي :-
" لا وألف لا ..."
أكملت وهي تشير إليه بعصبية نادرا ما تظهر عليها وهي المرأة الحديدية الصلبة في أصعب مواقف الحياة وأقساها :-
" انت لن تتزوج مطلقة يا كنان .. "
إعتدل في جلسته بثقة يردد بهدوء :-
" إجلسي يا ماما من فضلك .."
أكمل بجدية وهو يشير الى الكرسي الذي كانت تجلس عليه منذ لحظات :-
" إجلسي يا شريفة هانم ودعينا نتحدث .."
أضاف بلهجة حازمة :-
" عليك أن تفهمي إنني لا أستشيرك بهذا الأمر .. أنا أخبرك يا ماما بقراري ... "
جلست فوق كرسيها مجددا بعصبية ليضيف بتأني :-
" أنا أريد ليلى يا ماما .. أريدها هي دونا عن غيرها .. لذا تقبلي قراري وإختياري ولا تماطلي لإنك تعرفينني جيدا وتعرفين إنني لن أتراجع عن قراري مهما حدث .."
نطقت شريفة بأعصاب مشحونة :-
" الآن تركت جميع الفتيات حولك .. تركت أجمل وأفضل الآنسات اللواتي نعرفهن وإخترت مطلقة ..."
أكملت تتسائل بحنق :-
" لماذا تفعل هذا يا كنان ..؟! لماذا تختار مطلقة ...؟! هناك الكثير من الفتيات حولك .. ألم تعجبك سوى تلك المطلقة ..؟!"
نهض كنان من مكانه مرددا بأعصاب مشدودة :-
" من فضلك يا ماما ... ليلى لا يعيبها شيء .. الطلاق لا يعيب أي إمرأة.... انا عندما إخترتها لم أفكر في وضعها الإجتماعي ... "
أضاف بحزم :-
" قراري لا نقاش فيه ... سأتزوج ليلى ... "
قاطعته وهي تنهض تقابله :-
" لا تتعجل يا كنان .. الفتاة مطلقة ... راجع نفسك ... انت رجل عازب ولم يسبق لك تجربة الزواج بل لم يسبق لك إن خطبت حتى فلماذا لا تختار فتاة مثلك ..؟! راجع نفسك بالله عليك .."
" ألم تفهمي حقا إنني إتخذت قراري بالفعل .. ؟! ماما إسمعيني .. انا أريد ليلى وسأتزوجها .. أريدها بقناعة تامة ودون أدنى ذرة من التردد ..."
زفرت أنفاسها بحنق مكتوم قبل أن تسأله بعبوس فشلت أن تخفيه :-
" ولماذا تطلقت الهانم ...؟!هل سألت عن السبب أم لا تهتم به كغيره ...؟!"
رد ببرود :-
" كلا لم أسأل ... كما قلت .. السبب لا يهمني .."
هتفت من بين أسنانها :-
" لا تجعلني أجن يا كنان .. يجب أن تعرف سبب الإنفصال ... ماذا لو كانت عاقرا مثلا ..؟!"
نطق بضيق :-
" ما هذا الكلام يا ماما ..؟!"
قالت ببرود :-
" لماذا تطلقت إذا ..؟! الطلاق له أسبابه ... "
أضافت تسأله عن قصد :-
" كم سنة إستمر زواجها ..؟!"
رد بجمود :-
" خمس سنوات او اكثر بقليل .."
لوت فمها تردد :-
" ولم تنجب طفلا .. خمس سنوات دون طفل .. "
أضافت وهي تنظر له ببرود :-
" هذا يعني إنها لا تنجب وإلا من غير المعقول أن تبقى على ذمة رجل لخمس سنوات دون إنجاب طفل .."
بدا له الحوار مملا للغاية .. غير مرضيا له .. لم يحب أن يصل الى هذه النقطة .. هو واقعيا لم يفكر بالأمر .. ربما لإنه يعلم أسباب الزيجة وبالتالي لم يستغرب سبب عدم وجود طفل كنتاج عنها ...
هتف بجمود منهيا الحوار :-
" غدا مساءا سنذهب لخطبتها .. إستعدي ..."
ثم تحرك خارج المكان بسرعة كبيرة غير سامحا لها أن تنطق بحرف آخرى بعدما حسم قراره دون رجعة ...
........................................
كانت تتأمل صورته بجمود ..
منذ أن رأت صورته بجانب عروسه قبل أيام وهي لم تتوقف عن تأمل الصورة بين الحين والآخر ..
تتأمل إبتسامته الرزينة ووسامته الواضحة بتلك البذلة الأنيقة التي يرتديها وعروسه تلك التي لا تعرف سوى إسمها تبتسم بسعادة ...
في كل مرة تتأمل بها الصورة تشعر بنفس الألم الذي شعرت به للمرة الأولى عندما سقطت عيناها على تلك الصورة وأدركت إنه تزوج ...
تزوج ببساطة ونسيها بسهولة ..
تخطاها وكأنها شيء لا يذكر ..
وكأنهما لم يحبا بعضهما لسنوات ولم يتفقا على الزواج منذ زمن ...
لقد تجاوزها بهذه السهولة .. تجاوزها بأخرى دون حتى أن يمنحها حق المعرفة .. !
أليس من حقها أن تعلم بقراره .. ؟!
أليس من حقها أن يخبرها إنه قرر إنهاء كل ما يجمعهما ..؟!
لكنه لم يفعل ...
لقد ابتعد لأشهر قليلة ثم فاجئها بتلك الصورة التي جمعته بعروسه ..
صورة نشرها على صفحته الشخصية ومعه عروسه مكتفيا بملصق يمثل قلب ذو لون أحمر وجانبه إسم العروس وكأنه يعلن حبه لها وليس فقط زيجته منها ..
هل أحب تلك الفتاة حقا ..؟!
متى أحبها ..؟!
لم يمر على سفره سوى أشهر قصيرة ..؟!
كيف نسيها بهذه السرعة بل وأحب أخرى ...؟!
تشعر بخطأ ما ..
تريد أن تفهم لا بل تريد أن تصرخ به وتلومه وتضربه لإنه ورط قلبها في حبه ثم رحل ...
هل كان الخطأ منها ..؟!
نعم هي فسخت الخطبة ولكنها كانت مجبرة وأخبرته بذلك وإن لم يكن بشكل مباشر ..
هي لم يكن بوسعها سوى فعل ذلك ..
أرادت إبعاده لفترة محددة حتى تتخلص من ذلك اللعين ثم تعيد المياه الى مجاريها بينهما ...
لكن كل شيء تدمر بزواجه الذي لم يخطر على بالها في أسوء توقعاتها ...
عادت تنظر الى الصورة فتشعر بإنقباضة شديدة في قلبها ...
كان يجب أن تكون هي العروس وليست تلك الفتاة ..
هي من كانت ستكون زوجته ..
هي حبيبته وخطيبته ...
هي بالتأكيد ليست مسؤولة عما حدث فهي كانت مجبرة ..
ولا حتى هو مسؤولا عن ذلك فهو لا يعرف شيئا ..
المسؤول هو ذلك الحقير الذي ينعم بحياة هانئة مع زوجة محبة بينما آثار أفعاله ما زالت تحطم جميع من حوله ...
شعرت بالقهر والغضب يسيطران عليها في آن واحد ..
كان من المفترض أن يتزوجان في هذا الصيف بعد إنهاء دراستها ...
كان كل شيء سيصبح رائعا كما أرادا ..
لقد خطط لكل تفاصيل زواجهما ...وما سيليه ...
تمردت دموعها عليها فهطلت وكم كرهت بكائها ...
هي لا تريد أن تبكي ..
لا أحد يستحق دموعها ...
لا أحد ...
سمعت صوت على طرقات الباب فأغلقت هاتفها بسرعة وهي تجفف دموعها بأناملها لكنها فشلت فقفزت من فوق فراشها تركض نحو الحمام لتغسل وجهها فهي لا تحب أن يراها أحد ما وهي تبكي ..حتى والدتها وشقيقتها ..
خرجت من الحمام بعد دقيقتين وهي تجفف وجهها بالمنشفة لتجد ليلى أمامها تتأملها بهدوء قبل أن تلقي التحية :-
" صباح الخير ..."
ردت مريم بخفوت :-
" صباح النور .."
تأملت ليلى شقيقتها بصمت ..
شقيقتها التي باتت معزولة عنهم أغلب الوقت ...
لا تغادر غرفتها إلا قليلا ..
صامتة أغلب الوقت ومتباعدة عن الجميع ...
شعرت بالشفقة لأجلها ..
هي تتألم لكنها تحاول إخفاء ذلك ..
ترتدي قناعا صلبا تخفي به وجعها ...
لم تتفاجئ بردة فعلها بعدما علمت بخبر زواج أكرم ..
لم تتفاجئ عندما عادت من سفرتها متلهفة عليها لتجد البرود لسان حالها وكأنها لم تتصل بها وتخبرها بذلك النبأ الصادم بنبرة عاجزة تملؤها الخيبة والإنكسار ..
لكن لم تجد كل هذا بل وجدت صمود مدهش ولا مبالاة مقنعة لمن لا يعرف مريم ...
لكنها تعرفها وتعرف مدى إعتدادها بنفسها مثلما تعرف طبيعتها التي لا تسمح لها بإظهار ألمها أو ضعفها لأي شخص مهما بلغ مقداره ...
لم تستطع أن تفعل شيئا وقتها .. التزمت الصمت والمتابعة من بعيد فمريم لن تتقبل أي حديث بعدما إختارت تجاوز الأمر وكأنه لم يكن ...
رغم عدم رضاها عن إسلوب التجاهل الكاذب الذي تتبعه وكتمانها مشاعرها كليا داخلها لكنها مضطرة أن تسايرها .. لا حل آخر لديها ..
" جئت لأخبرك أن تتجهزي .. الليلة سيتقدم كنان لخطبتي ..."
سيطر الجمود عليها لثواني .. ثواني ونطقت ببرود :-
" جيد .."
ثم أضافت بملامح ساكنة :-
" مبارك لك ..."
تقدمت ليلى نحوها ووقفت أمامها مباشرة لتلمس كتفها تتسائل بإهتمام :-
" أنت بخير، أليس كذلك ...؟!"
ابتسمت مريم بتصنع مرددة بمرح مقنع :-
" بخير جدا ... حتى إنني كنت سأخرج لتناول الغداء مع صديقتي ظهرا ..."
قالت ليلى بتردد :-
" ما رأيك أن تبقي معي اليوم فأنا أحتاجك ..؟!"
عاد السكون يسيطر على ملامحها بينما شعرت بالضيق داخلها فهي كانت ستخرج بالفعل وتتحدث مع كنان وتمنعه من الإستمرار في هذه المهزلة ..
شقيقتها لا تستحق أن تمر بأزمة جديدة ...
شقيقتها التي لا تعلم عما يجمع كنان بنديم ولا عما ينويه كنان لعمار والأسوء إنها لا تعلم بما جمع بينها هي وكنان وما فعلاه سويا من خطط لأجل الإيقاع بعمار ...
عندما تعلم بهذا ستكون الصدمة شديدة عليها ...
صدمة لن تتحملها ..
أرادت أن تعتذر وتتحجج بأي سبب مهم للخروج لكنها وجدتها تضيف بترجي :-
" من فضلك يا مريم ... لا تتركيني اليوم ... اليوم فقط ..."
لم تستطع الرفض فهزت رأسها موافقة لتقبلها ليلى من وجنتيها وتخبرها عن بعض الأشياء التي ستذهب لفعلها بينما كانت مريم تستمع لها دون تركيز ...
غادرت ليلى وعادت هي تجلس فوق سريرها تهز قدمها بعصبية واضحة ..
ذلك اللعين يعبث بحياة شقيقتها ...
لكنها لن تسمح له بذلك ...
هذه الزيجة لن تتم .. لن تكون مريم سليمان إن سمحت لذلك المستغل أن ينال شقيقتها ..
.........................................................
تقدمت نحوه بعدما إنتهت من إعداد طعام الغداء فوجدته ما زال نائما بعمق منذ عودته متأخرا ليلة البارحة حيث طلبت منها أن ينم ويرتاح بعد إنهياره المؤلم بين ذراعيها ...
وهاهو منذ ليلة البارحة وحتى ظهر اليوم ما زال نائما وكأنه وجد في النوم الملاذ الذي يهرب إليه من الوضع الحالي برمته ...
جلست جانبه على السرير تتأمل ملامحه الهادئة أثناء نومه فتبتسم بألم وهي تتذكر البارحة وما أصابه ...
لم تتخيل أن تشهد يوما ما إنهيار عمار بهذه الصورة لكنه قد حدث وشهدت إنهياره فعليا بعد مصاب شقيقته ...
لا تعلم لماذا تشعر إن ما حدث البارحة مجرد بداية وإن القادم سيكون أسوء ..
شعور داخلي يخبرها إن نهايته إقتربت ..
نهاية ظلمه وطغيانه باتت وشيكة ...
شعرت بالدموع تحتقن داخل عينيها وهي تتأمله ينام بذلك السلام الذي لا يشبه حياته ولا أفعاله ..
ليته لم يفعل كل هذا ... ليته لم يلوث يديه بكل تلك الآثام ..
كانت تعلم إنه سيأتي اليوم الذي سيدفع به ثمن أخطاؤه وعلى ما يبدو إن موعد حدوث ذلك بات قريبا للغاية ...
تمنت لو كان بإمكانها إنقاذه ... إنتشاله من كل هذا السواد الذي أحاط به نفسه .. لكنها لن تستطيع .. وهو بدوره لا يشعر بذلك ولا يعترف بمقدار سوء ما فعله ...!
مدت كفها تلمس لحيته النامية قليلا تدعو ربها أن يهديه ويزيل تلك الغمامة التي تغطي عينيه ..
ترجوه أن يسامحه و يغفر له خطاياه بعدما يعيد صوابه إليه ويبعد عنه شيطانه الذي ما زال يسيطر على أفكاره وأفعاله ...
تنهدت بتعب وأناملها تتحرك فوق لحيته قبل أن تهمس إسمه بخفوت ...
رغما عن كل شيء كانت تعلم إنها تحبه بل تعشقه ...
هي مدلهة في غرامه بلا حول ولا قوة ...
مهما حاولت أن تتوقف عن حبه فلا تستطيع ...
وجدته يرمش بعينيه لتضغط على عينيها تخفي الدموع المحتقنة فيهما قبل أن ترسم إبتسامة مرتعشة فوق شفتيها وهي تراه يفتح عينيه الخضراوين أمام عينيها ...
" شيرين .."
قالها بصوته المبحوح لتهمس له وهي تبتسم :-
" مساء الخير .."
إعتدل في جلسته بتعب ليتأملها للحظات قبل أن ينطق بتذكر :-
" جيلان .. جيلان يا شيرين ..."
تمتمت بترجي :-
" جيلان ستكون بخير ... صدقني ..."
هز رأسه نفيا وهو يردد :-
" لا أعتقد ذلك ..."
أكمل بأسف ؛-
" جيلان باتت تكرهني فعلا يا شيرين ولا تريدني في حياتها .."
هتفت بتروي تحاول بث القليل من الطمأنينة داخله :-
" لا بأس يا عمار ... كل شيء سيصبح أفضل .. صدقني ... هي الآن ما زالت مصدومة ... لم تستوعب بعد ما حدث ... هذا أمر طبيعي .. ستحتاج الى وقت طويل كي تتجاوز مصابها ..."
" أنا حطمتها ... دمرت حياتها .."
قالها ببؤس لتكتفي بالصمت فهي وبكل آسف تدرك صحة قوله ولا تستطيع أن تنكر ذلك ...
نظر لها وقال :-
" لقد دمرتها يا شيرين وهي لن تغفر لي هذا مهما حدث ومهما مرت السنوات .."
قالت بسرعة :-
" ستغفر يا عمار .. انت في النهاية أخوها .. مهما حدث ستبقى كذلك .."
هتف متهكما بمرارة :
" أخوها الذي تخلى عنها وألقاها بين أحضان ذلك النذل ... أخوها الذي باعها دون ثمن بحجة إنه يريد حمايتها وحماية سمعتها وشرفها ..."
" أنت أخطأت يا عمار ولكن خطئك لم يكن مقصودا بشكل كامل .. انت للأسف تسرعت بتزويجها من مهند ..."
قاطعها وهو ينتفض من مكانه مرددا :-
" نعم أخطأت ... أخطأت خطئا جسيما وهي وحدها من دفعت وستظل تدفع ثمن هذا الخطأ ..."
أكمل وهو ينظر لها :-
" ولكنني لم أكن أفكر بشيء سوى بإيجاد حل لتلك المصيبة التي وقعت فيها .. كل تفكيري كان منحصرا في كيفية إنقاذ شرفها المهدور على يد رجل حقير لا أعرفه حتى .. "
نهضت شيرين تخبره بجدية :-
" وهذا ما ستتفهمه جيلان فيما بعد ... ستتفهم إن خطئك لم يكن مقصودا فأنت أردت حمايتها ..."
أضافت بثبات :-
" ما تفعله ليس حلا يا عمار .. انت أخطأت وقد حدث ما حدث .. المهم ما هو قادم .. جيلان تحتاجك .. ما زالت تحتاجك .. حتى لو رفضتك وطردتك مرارا ستظل داخلها تحتاجك .. فأنت أقرب شخص لها ..."
سألها بعدم تصديق :-
" هل تعتقدين ذلك حقا ..."
هزت رأسها بصمت ليزفر أنفاسه بتعب وهو يعاود الجلوس فوق السرير لتجلس جانبه ثم تقبض على كفه وهي ترجوه :
" تماسك يا عمار .. جميعنا نحتاجك وأولنا جيلان ..."
نظر إليها للحظات قبل أن يهبط بعينيه نحو بطنها فيسألها :-
" منذ متى وأنت تعرفين ..؟!"
تشكلت إبتسامة فوق ثغرها وهي تضع كفها فوق بطنها بحركة عفوية تجيبه :-
" منذ أربعة أيام فقط ... "
أضافت بسعادة جلية :-
" أنت لا يمكنك تصور حجم فرحتي عندما علمت بهذا الخبر .."
هتف بقهر :-
" ليتني شاركتك تلك الفرحة .. لكننا كنا بعيدين تماما عن بعضنا .. بسببي كالعادة ..."
قبضت على كفه تؤازره وتحاول التهوين عليه :-
" لا بأس يا حبيبي .. ما زال أمامنا الكثير من الأيام التي ستقضيها سويا .. المستقبل بأكمله أمامنا ان شاءالله .."
سأل بتردد :-
" هل تعتقدين إن مستقبلنا سيكون جيدا ..؟؟ وهذا الطفل .. هل سيولد بجو أسري مريح ويعيش سعيدا في حياته ..؟!"
قالت بهدوء :-
" سيكون كذلك عندما نخلق نحن له هذه الحياة .. حياة أسرية هادئة وسعيدة ... عندما ننسى الماضي بكل ما فيه ونفكر في مستقبلنا وما ينتظرنا .. "
ترددت لوهلة ثم قالت :-
" عندما نسعى لتطهير أنفسنا من جميع آثامنا ونخلق بداية جديدة لنا لأجله هو ولأجلنا ..."
جمدت ملامحه وهو يتسائل :-
" ماذا تعنين ..؟!"
عاد التردد يظهر ملامحه .. تردد سرعان ما أزاحته جانبا وهي تقبض على كفه تخبره بعزيمة :-
" أتحدث عن ذنوبك يا عمار .. ذنوبك التي ستظل لعنة تطاردك وتطارد كل من تحبهم ما لم تتحرر منها ... ذنوبك في حق من حولك ..."
تجاهلت نظرات عينيه القاتمة وهي تسترسل بثبات :-
" عندما تسعى لإصلاح أخطائك في حق جميع من حولك وأولهم أخيك ... نديم يا عمار .. نعم سيكون صعبا لكن حياتك وحياة طفلك القادم وحتى جيلان تستحق التضحية ...لا بأس في بعض التضحية مقابل حياة سوية هانئة مع أحب الناس لقلبك .. جيلان وطفلك القادم ..."
يتبع
تكملة الفصل بعد حوالي ساعة باذن الله
رأيكم بالفصل ..؟!❤️
أنت تقرأ
حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح )
Romanceهو رجل يشبه الظلام .. رجل طعنه القدر بقسوة ولم يتبقَ منه سوى بقايا روح ترفض الحياة .. أما هي فأتت وإخترقت حياته المظلمة بالصدفة البحته .. بقلب نقي بريء وروح لا ترغب بشيء سوى الأمان وجدت نفسها عالقة بين ظلماته المخيفة .. وأخرى لم تدرك شيئا سوى إنها ت...