الفصل الثامن عشر

4.5K 187 14
                                    

الفصل الثامن عشر
كلماتها كانت تقتله دون رحمة ...
مشاعره متخبطة وأفكاره مشتتة ..
عقله يحاول أن يستوعب .. أن يفهم ... هل كانت زيجتهما على الورق طوال تلك السنوات ...؟! هل حافظت على نفسها لأجله ..؟! هل حاولت أن تتخلص من حياتها بسبب ذلك ..؟!
أغمض عينيه بقوة وهو يعتصر كلتا قبضتيه بينما يشعر بروحه تحترق بعذاب لا يظن إنه سينتهي يوما ..
" نديم ..!!"
همست بها بضعف وهي تمد يدها محاولة لمس جانب وحهه لكنه كان أسرع منها وهو يفتح عينيه ويصيح بها بصوت يحمل الكثير من الآلم والعذاب .. وربما العشق ..
"يكفي ..."
تراجعت الى الخلف تضع كفها على فمها تكتم شهقة باكية ستخرج منها في لحظة بعدما صرخ بها بتلك الطريقة وبعدما رأت تلك النظرات داخل عينيه ..
تقدم نحوها يقبض على ذراعيها الاثنتين يهزها بعنف وهو يردد بلا وعي :-
" ماذا تريدين مني ..؟! لماذا تفعلين هذا ..؟! لماذا ..؟! هل تذكرتِ الآن أن تخبريني بهذه الحقيقة ..؟! ما غايتك من إخباري بكل هذا ..؟! ماذا تريدين من ذلك ..؟! "
أغمض عينيه يأخذ نفسا عميقا وكفيه ما زالا يعتصران ذراعيها بقسوة مؤلمة :-
" لقد عشت سنوات من الجحيم وأنتِ بعيدة عني .. سنوات تمنيت بها الموت في كل لحظة وكل ثانية ..، سنوات وأنا أكره نفسي أكثر وأكثر ... سنوات كنت أتخبط بها بين مستقبلي وحياتي التي تدمرت كاملا وبين خيانتك لي وهجرانك بتلك الطريقة الحقيرة ... "
أضاف وعيناه تحاصران عينيها الباكيتين بقوة :-
" هل تظنين إنك عانيت لوحدك في زيجة لم ترغبيها يا ليلى ..؟! هل تظنين إنك الضحية الوحيدة في هذه القصة ..؟! "
صرخ بوجع وعيناه تذرفان دموعا تصدر لأول مرة منه فرغم كل ما مر به لم يبكي أبدا حتى جاءت هذه المواجهة وحررت كل أوجاعه دفعة واحدة :-
" انا عانيت أضعف معاناتك ... أنا تألمت أضعاف ألمك ... أنا تدمرت .. مت وأنا حي ... "
أنهى كلماته فدفعها بقسوة لتتراجع الى الخلف تترنح في وقفتها للحظات قبل أن تهتف أخيرا وهي تسيطر على أعصابها التي تدمرت تماما في تلك اللحظة :-
" وهذا هو السبب الي جعلك تخطب أخرى ..؟! ما غايتك من هذه الخطبة ..؟! ماذا تريد أن تثبت لنفسك ...؟! "
احتقنت ملامحه كليا وقد أغضبته تلميحاتها الصريحة فأجاب بقوة وثبات لا يشبه إنهياره وثورانه منذ لحظات :-
" السبب الذي جعلني أخطب حياة هو إنني وجدت فيها كل ما أريده وأتمناه ... وجدت بها ما فقدته منذ أعوام ... حياة هي شعلة الأمل التي أضاءت ظلام حياتي يا ليلى .. حياة هي الأمل الوحيد المتبقي لي .. معها سأبدأ من جديد وأنا أثق بشدة إنها ستكون أكبر عون وسند لي .. "
ترقرقت الدموع داخل عينيها فسألته بصوت متردد بطيء :-
" والحب ..؟! ماذا عنه ..؟!"
أجاب بمرارة :-
" لقد جربت الحب مسبقا ولم أجنِ منه سوى العذاب ... أنا الآن لم أعيد أريد الحب يا ليلى ... ليس هو ما أحتاجه ... تجربتي معك أثبتت لي إن هناك أشياء أهم بكثير من الحب ... أشياء وجدتها معها هي دونا عن غيرها .."
" إذا أنا لم أمنحك ما تحتاجه .. لم أكن سندا لك يوما .. انا لم أمنحك سوى العذاب لا غير .."
نبرتها وهي تتحدث كانت مثقلة بالألم والخذلان ... الأسف ظهر في عينيها العسليتين بوضوح عندما رددت وهي تمسح دموعها بخفة :-
" الآن فقط أدركت مدى خطأي .. اخطأت في حق نفسي عندما منحتك مكانة داخل قلبي لا يصل إليها أحد .. عندما عانيت وتعذبت لسنوات من أجلك .. الآن فقط أدركت إنك لا تستحق ... لا تستحق أي شيء ... "
سحبت نفسا عميقا ثم قالت وهي تحاول السيطرة على دموعها التي تهدد بالظهور :-
" أشكرك يا نديم ... هذه المواجهة كانت لصالحي حقا .. بهذه المواجهة أدركت مدى أنانيتك وسلبيتك .. أدركت إنك لم تكن تستحق مشاعري يوما فأنت لا تهتم سوى بنفسك ومستقبلك ولا تنظر للأمور سوى من جانبك وصالحك .. لكن الحمد لله فهمت وإستوعب أخيرا وإن جاء هذا متأخرا .."
شمخت برأسها عاليا وقد لمعت عيناها بنظرات قوية ثابتة :-
" أعدك من الآن فصاعدا سأخرجك من قلبي وعقلي يا نديم .. من الآن فصاعدا انت ابن خالتي فقط لا غير ... ومهما حدث وحتى لو جئت وبكيت وترجيت أن أسامحك فلن أفعل يا نديم لإنني تعلمت الدرس جيدا وهذا كله بفضلك .."
اندفعت خارج الغرفة بعدما أنهت كلماتها تاركة إياه خلفها يراجع كلماتها بمشاعر مختلطة ...
...................................................................
اندفعت داخل منزل عائلتها ترتقي درجات السلم بخطوات سريعة تحاول السيطرة على دموعها التي تهدد بالهطول ...
دلفت الى غرفتها أخيرا تغلق بابها خلفها بعنف قبل أن تسقط باكية على أرضية الغرفة والدموع اللاذعة تغطي وجنتيها ...
كانت تنتحب حبا خسرت لأجله سنوات .. حبا ظنت إنه كل شيء وأهم من أي شيء لتظهر اليوم الحقيقة كاملة وبوضوح .. هو لا يستحق ... هكذا فقط ...
نديم لم يكن يستحق حبها ولا تضحيتها ولا أي شيء ..
لقد حطمها بكل أنانية وقسوة رغم يقينه من عشقها الخالص له ..
بينما كانت هي تعاني وتبذل الغالي والنفيس لأجله كان هو يبحث عن أخرى تداويه من ألامه .. أخرى يرى فيها ما يحتاجه وما عجزت هي عن منحه وكأنها لم تمنحه عشق وتضحية وأخلاص وسنوات من عمرها ذاقت فيها كل معاني الألم والخذلان ليأتي هو ويفضل أخرى عليها .. أخرى تقسم إنها لو كانت محلها ما كانت لتدمر حياتها ومستقبلها لأجله ..!!
ارتفع صوت نحيبها وهي تلوم نفسها هذه المرة ..
ما كان عليها أن تفعل ذلك .. ما كان عليها أن تمنحه كل شيء بسخاء مبالغ .. ما كان عليها أن تهين كرامتها مرارا وهي ترجوه أن يسامحها ويعود إليها ..
صرخت وهي تضرب على الأرض بكفيها :-
" اللعنة عليك يا نديم ..اللعنة عليك وعلى قلبي الذي أحبك يوما ..."
توقفت عن نحيبها المؤلم وقد ظهرت قسوة مريبة داخل عينيها حيث أخذت تهمس بنبرة مشحونة :-
" لم أظن طوال حياتي إنني أراك بهذه الصورة لكنني اليوم تأكدت إنك أضعف بكثير مما ظنت ... إنك أناني لا تفكر سوى بنفسك ... "
ترقرقت الدموع الحارقة داخل عينيها مجددا وهي تغمغم :-
" أنت ضعيف يا نديم .. مثير للشفقة وعاجز ... عاجز حتى أن تحافظ على حبك وتدافع عنه ... أناني لا يهمك سوى راحتك وسعادتك .. "
مسحت وجهها بكفيها وهي تضيف بإصرار وعزيمة :-
" لكن لا بأس ...كل شيء سيتغير بعد الآن ... كل شيء يا نديم .. ليلى القديمة ماتت بفضلك والآن هناك ليلى جديدة  ولدت .. ليلى لا تهتم بك ولا تمثل أنت لها شيئا من الأساس .."
نهضت أخيرا من مكانها وسارت نحو طاولة التجميل خاصتها ... وقفت تتأملها ملامحها الحزينة للحظات قبل أن تحسم أمرها ...
اتجهت نحو خزانة ملابسها تفتحها وتخرج منها صندوقا صغيرا .. فتحت الصندوق حيث وضعت داخله خاتم خطبتها منه ... أول هدية منحها لها بعد إعترافه بعشقه .. صورة خاصة تجمعهما ليلة خطبتهما ... وباقة زهور التوليب التي أهداها لها في نفس اليوم ...
أغلقت الصندوق مجددا ثم حملته ووضعته فوق السرير ثم عادت نحو الخزانة وقد أخرجت منها هذه المرة فستان خطبتها التي ما زالت تحتفظ به ككنز ثمين ...
وضعته بجانب الصندوق وعادت وأخرجت ألبوم الصور الذي يحوي صورا لهما في مختلف مراحلهما العمرية ...
اتجهت أخيرا خارج الغرفة وهي تحمل الصندوق ومعه ألبوم الصور في يد والفستان في يدها الأخرى ..
وصلت حيث سلة المهملات الموضوعة في الحديقة الخارجية فنظرت الى ما تحويه يديها بتردد وتسلل الألم داخلها من جديد لكنها سرعان ما تذكرت قرارها فأزاحت ترددها جانبا و تجاهلت ألمها وهي ترمي الأغراض داخل سلة المهملات وهي تدرك جيدا كم تقسو على نفسها بما تفعله ...
امتدت يدها تلمس القلادة التي أهداها لها في يوم ميلادها العشرين حيث تحمل اول حرف من إسميهما ..
تلك القلادة التي لم تخلعها يوما حتى عندما هددها عمار أكثر من مرة يأمرها بضرورة خلعها ..
شعرت بأناملها ترتجف لا إراديا وهي تقبض على القلادة  .. لحظات مرت عليها كالدهر قبل أن تحسم أمرها وتسحبها من فوق رقبتها بعنف ثم ترميها مع المهملات وقد تأكدت في تلك اللحظة إن هناك شيئا ما تحطم داخلها لا يمكن أن يعود ..
.....................................................................

حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن