الفصل الخامس والأربعون ..
( الجزء الثاني )
منذ أن غادرت ليلى وهو يجلس مكانه شاردا كليا وأفكاره كالعادة تتقافز داخل رأسه دون توقف ..
زفر أنفاسه بتعب وهو يجذب قدح الماء نحوه ويرتشف القليل منه وعقله يستعيد ذكرى لقائه بها منذ دقائق معدودة ...
يراجع الذكرى ويراجع حديثهما وإقرارها بضرورة فراقهما الذي أقره هو قبلها ...
يتذكر كلماتها التي تحمل في طياتها الغفران ويتذكر حديثها عن مشاعره لأخرى يتهرب منها ...
هل هو حقا يتهرب من مشاعره ناحية حياة ..؟!
هل مشاعره تحركت نحوها بالفعل ..؟!
هل هو مغرم بها ..؟!
والأهم هل نسي ليلى ..؟!
هل توقف عن حبها أم دفنه داخله دون رجعة ...؟!
عند هذه النقطة توقف عن أفكاره وعقله يسترجع لحظة اللقاء الأولى بينهما بعد آخر مرة رأها فيها وهي تودعه في المطار ...!!
في البداية الصدمة لجمته فهو لم يتوقع رؤيتها فور عودته ...
لكن ما تلا الصدمة لم يكن كما تخيل ..
لا ينكر إنه شعر بالحنين ..
ربما لها هي أو لأيام مضت كانت جميلة بكل ما فيها ..
لا يهم السبب لكنه شعر به وهذا منطقي جدا ..
لكن الغير منطقي هو الكثير ..
مشاعره التي لم تتدفق بسرعة شديدة حالما رأها ..
قلبه الذي لم ينتفض بلهفة داخل أضلعه عندما وقع بصره عليها ...
في السابق كان ينتفض قلبه عشقا عندما يراها ...
كل شيء به كان ينبض بالحب عندما يكون معاها ...!
لكن الآن مشاعره لم تعد كالسابق ..
هناك شيء ما إختلف .. شيء لا يفهم كيف ومتى تغير ..
هو لم يعد كالسابق ...
مشاعره تغيرت ..تغيرت كثيرا ...
هل فقدت ليلى تأثيرها عليه أم إن قلبه من تحرر من هواها ...؟!
أم ربما الإثنين معا ..؟!
أخذ يحاول تذكر شعوره أثناء حديثهما وما تلاه ...
حاول أن يبحث عن لمحة ما تدل على عشق ما زال موشوم في صدره فلا يجد سوى الحنين ...
لا يجد شوقا ملهبا لروحه ولا وجع على حب فقده مرغما ولا حسرة كبلت قلبه لسنوات ...
لا يجد رغبة في العودة رغم كونه لم يتوقف عن التفكير بها أبدا طوال الأشهر الفائتة ..
هل حقا مشاعره نحوها إقتصرت على الندم وتأنيب الضمير كما قالت هي ..؟؟
هل حقا هذا ما جعلها رفيقة عقله طوال الفترة السابقة ...؟!
نعم هو نادما على كل شيء ..
نادما على كل ما سببه لها ولو عاد الزمن به الى الوراء ما كان ليتصرف بنفس الطريقة ..
هو يقر ويعترف بذنبة ومستعد لتحمل العقاب الذي يناسب هذا الذنب ...
ولكن هل مشاعره نحو ليلى باتت مقرونة بذنبه نحوها فقط ..؟!
هل مات العشق ..؟! الشغف ..؟!
هل ماتت مشاعر سكنته لسنوات ..؟!
ماذا يحدث معه ..؟! و مالذي كان ينتظره ...؟!
وماذا عن حياة ...؟! ما دورها في هذه الحكاية ..؟!
هل هي الفتاة التي إختارها كبداية جديدة لحياته ..؟!
هل هي الراحة والسكينة والأمان وكل ما يتم ضمه لهذه المسميات ..؟!
هل هي الروح التي تعلق بها على حين غرة ..؟!
هل مكانتها واضحة كما يدعي وثابتة لا جدال فيها ..؟!
هي الزوجة و المأوى والملاذ والسكن ...!
هل هذه فقط مكانتها ..؟! أم إنها تخطت الدور الذي أراد منها تأديته ..؟! تخطت الحدود التي رسمها لها ولنفسه ...؟!
قفزت الى قلبه دون إرادة منه وبلا وعي فملكته بأكمله ..؟!
هل حياة ليست زوجته فقط بل باتت حبيبته ..؟!
هل حقا هذه مشاعره نحوها ..؟!
عاد يسأل نفسه مجددا ولكن هذه المرة عن مشاعره ناحية حياة ..
يسأل قلبه ويريد منه جوابا صريحا ..
جوابا محددا لا شك فيه ...
جوابا شافيا لا مهرب منه ..
هل هو يتهرب من مشاهره نحوها حقا ...؟!
هل يتعمد تجاهلها ..؟!
هل كان العشق مشكلته العظمى ..؟!
كلا ، لم يكن كذلك ولن يكون ..!
هل يكره العشق ..؟! لا يعتقد ذلك ..
هل يهرب منه ..؟! ربما ...
هل يرتاح بدونه ..؟! طبعا ...
وهل يتألم بوجوده ..؟!
وأمام هذا السؤال وقف حائرا ...
العشق جميل لكن دون شروط ..
العشق لذيذ لكن دون قيود ..
وهو رجل مقيد بسلاسل الإنتقام والماضي ...!
لا يعلم إذا ما كان يخاف من العشق على نفسه أم عليها ...!!
هل بات عشقه لعنه تصيب أي إمرأة تنال من ذلك العشق ..؟!
هل هو رجل موشوم بعشق مؤلم نهايته سوداء ..؟!
أم هذه مجرد هواجس تسيطر عليه ..؟!
هواجس لا أساس لها ...؟!
العشق .. كلمة تتكون من ثلاث حروف .... كلمة جميلة .. محببة .. لطيفة ...
العشق شعور يرغب الجميع أن يعيشه .. أن يتذوق حلاوته ..
وهو سبق وتذوقها ... تذوق حلاوة العشق ومرارته ..
تذوق الحب وألمه .. الشغف والفراق ...
لقد جرب العشق بمختلف صوره ..
لا ينكر إن ذكرياته مع العشق تحمل الكثير من الذكريات الجميلة .. ذكريات لطيفة ... صور لماضي مشرق ولكن ذكرياته المريرة غلبت تلك الصور .. !
لقد جاهد لسنوات حتى يتخطى عشقه الأول .. حبه الضائع ونجح .. بشكل أو بآخر هو نجح .. تخطى عشقه وسار في دربه الجديد ... درب أراد فيه كل شيء إلا العشق ..
لقد نجح في البداية وما زال كل شيء كما هو يريد ولكن رغما عنه هناك شيء ما يبرز في الأفق ..
شيء يخشاه ويرغبه في ذات الوقت ..
شيء ليس واثقا منه ...
شيء لو صدقه سيدخل في جحيم جديد لا يختلف عن سابقه ...
وهنا خفق قلبه .. نبض مجددا ... لم تكن المرة الأولى التي ينبض بها هكذا لكنها المرة الأولى التي يرى تلك النبضة بمنظور مختلف ...
المرة الأولى التي يشعر إنها ليست نبضة عادية ...
هي نبضة تحمل الكثير ..
نبضة أتت بعد سنوات توقف فيها قلبه عن النبض ..
صاحبة تلك النبضة هي من أحييت قلبه الذي مات لأعوام ...
صاحبة تلك النبضة هي التي منحته روحا جديدة وحياة مختلفة ...
صاحبة تلك النبضة هي حياة ...
هي الفتاة اللطيفة التي إنجذب لها من حديث عابر جمعهما وإبتسامة ناعمة أظهرت غمازتيها تصحبها لمعة خاصة في عينيها ...
هي حياة التي لا يعلم إذا ما كان هو من جذبها نحو عالمه دون أن يعي أم هي من جذبته نحوها بكامل وعيها ...
هي حياة التي دخلت حياته في وقت كل شيء فيه كان فاقدا لمعاني الحياة فمنحت الحياة مجددا لها ...
هي حياة التي جعلت مشاعره تتحرك لأول مرة منذ سنوات ورغبته في العودة كما كان تسيطر عليه ...
هي حياة التي أتت وهي تحمل معها قلبه فقدمته له على طبق من ذهب ..
هي حياة التي بعشقها حررته من عزلته التي ظن إنه سيبقى أسيرها لأعوام ..!
هي حياة التي باتت له كل شيء ..
الملاذ والمأوى الذي يلجأ إليه كلما ضاقت به دنياه فتستقبله بصدر رحب وتصبو عليه بعشقها الجارف الذي لا نهاية له ..
هي حياة التي سطعت شمسها في حياته لتنير ظلام قلبه السرمدي ..
هي حياة التي أحييته وحررته قلبه من ظلماته ...
والعشق هو ذلك الشيء الذي يمنحك شعورا جديدا قد يكون محمل بالألم او الحياة ...
نعم العشق قد يكون حياة جديدة تحيي العاشق من جديد ...
إذا كان العشق هو الحياة ..
إذا فالعشق هو حياة ...
..................................................
إذا كان العشق هو الحياة ..
إذا فالعشق هو حياة ...
نعم العشق هو حياة .. العشق يتمثل بحياة ..
لم يكن إعترافا منه بقدر ما كان شعورا صريحا أيقنه كلا من قلبه وعقله معا ...
لقد أدرك نديم أخيرا الحقيقة التي لا يعلم إذا ما تجاهلها أم كان يتهرب منها أم لم يكن يدركها من الأساس ..!!
لكن لا يهم .. المهم إن الحقيقة باتت واضحة ..
مشاعره التي لم يجد لها مسمى باتت معروفة وتحمل مسمى واحد يتمثل بكلمة مكونة من ثلاثة حروف .. العشق ...!
وأخيرا تحرر قلبه من تلك القيود وأعلن العشق مجبرا لا مخيرا ..
قلبه الذي قتله عشق سابق وأحياه عشق جديد ..
عشق يتمثل بالحياة ..
الحياة التي تنبض منها ..
نهض من مكانه متجها إليها بلهفة يدرك سببها للمرة الأولى ..
لهفة كان يمنحها جميع المسميات مسبقا ويعللها بكل الأسباب الممكنة بإستثناء شيء واحد .. حقيقة واحدة ... وهي العشق...!!
قاد سيارته بصمت وقلبه لا يتوقف عن النبض ...
وصل أخيرا فهبط من سيارته وسار بلا وعي الى شقته ...
فتح الباب ودلف الى الداخل يبحث بعينيه عنها ..
يبحث بشوق لم يعد مشروطا ...
يبحث بلهفة بات لا يستطيع إنكارها ...
وأخيرا وجدها تقف في المطبخ تعد شيئا ما بتركيز شديد ...
خفق قلبه بعنف وهو يتأملها بذلك الفستان القطني القصير حيث تقف وهي تضع بعض البهارات فوق شيء ما ..
تضع الملعقة داخل القدر ثم ترفعها وتتذوقها بتلذذ فتنفرج إبتسامة رضا تظهر غمازتيها ...
كان يتابعها ببطء وكأنه يراها للمرة الأولى ..
نعم هو بالفعل يراها لأول مرة بنظرة عاشق ...
تأمل تفاصيلها بسكون ...
سابقا كانت تمثل الحياة له وهو لم يدرك وبكل أسف إن أسمى أنواع العشق ذلك الذي يتمثل بحياة كاملة تعيشها رغما عن كل الظروف ...
حياة ... حياته .. عشقه ... ملاذه ... وطنه ...
حياة إمرأة دخلت حياته بكامل إرادته وزرعت حبها داخل قلبه دون إرادته ...
هي إمرأة يصعب تجاوزها ...
لا يستطيع المرء تجاهل مشاعرها ..
يعجز عن تخطي رحيلها ...
هي روح كاملة وشمس دافئة وقطرات مطر رقيقة سقطت على قلب سكنه الجفاف لسنين ..
هي معجزة أتت في زمن باتت فيه المعجزات مستحيلة ..
هي أنثى بوجودها تختفي جميع النساء وبرحيلها يفقد كل شيء قيمته و
معناه ..
هي المرأة التي لا يريد سوى معانقتها للأبد والتمتع بنعيم جنتها ..
هي الأبدية..
إلتفتت أخيرا فخفق قلبه مجددا ...
إبتسمت له رغم دهشتها من قدومه ...
إبتسامتها العفوية تمنحه السعادة لا إراديا ..
تزرع الفرحة داخله وترسم البسمة فوق شفتيه ...
إبتسامتها وحدها كفيلة بتهدئة روحه الثائرة وتحطيم قيوده المتعبة ..
إبتسامتها لوحدها كانت حياة يتوق لإمتلاكها ...
نطقت إسمه بسعادة ...
سعادة ظهرت في كل جزء منها ..
سعادة تملكت منه هو الآخر لا يعلم إذا ما إنتقلت إليه منها أم سيطرت عليه بعدما أدرك أخيرا حقيقة مشاعره نحوها ..
الآن لا شيء يهم ...
الآن سيتجاهل كل شيء ..
سيحرر نفسه من قيوده جميعها ...
سيتناسى عن قصد ماضيه وحاضره وما يخطط له مستقبلا ..
الآن وفي هذه اللحظة سيلغي كل شيء من عقله عداها هي ...
هو وهي فقط ولا شيء غيرهما ...
الليلة فقط سيسمح لنفسه بتجاهل كل شيء عداها وسيمنحها قلبه وعشقه كما منحته هي قلبها وعشقها منذ أشهر دون تردد ..
تقدمت نحوه ترتمي داخل أحضانه ...
إرتجف جسده كليا ...
لم يتوقع هذه المباردة منها ..
هل يعقل إنها شعرت بشيء ما ..؟!
هل أدركت مشاعره من عينيه فبادرت تعانقه أم هذا عناق عفوي ليس إلا ..؟!
سمعها تنطق بنبرة فرحة :-
" انا سعيدة جدا ..."
وهو سعيد جدا في هذه اللحظة ..
هكذا فكر وهو يحيط جسدها بذراعيه ..
هي الآن داخل أحضانه ... هي بين ذراعيه ..
نبضات قلبه تنبض بهدوء والسعادة تملأ كيانه والراحة المنشودة نالها أخيرا ...
أغمض عينيه متلذذا بوجود جسدها داخل أحضانه ...
طبع قبلة فوق شعرها ثم تمتم :-
" حياة ..."
توقف للحظة فسمعها تقول :-
" نعم ..."
غمغم وهو يبعدها قليلا من بين أحضانه محيطا وجهها بين كفيه :-
" شكرا يا حياة .. شكرا على كل شيء ... "
توقف للحظة يتابع نظراتها الحائرة قبل أن يسترسل :-
" شكرا لإنك هنا .. معي وحانبي .. شكرا لوجودك في حياتي ..."
أخذ نفسا عميقا ثم هتف :-
" هل تتذكرين عندما أخبرتك إنه لولاك ما كانت هناك حياة يا حياة ..؟!"
هزت رأسها بتوتر ظهر في عينيها ليبتسم وهو يقول :-
" أنا كنت أعنيها بكل ما فيها ... "
صمت مرغما يتأمل الفرحة التي ظهرت في عينيها ليكمل بعدها :-
" أنت حياتي التي إمتلكتها رغم كل شيء ..."
أخذ نفسا عميقا من جديد ثم سألها :-
" ما هو الحب يا حياة ...؟!"
نظرت له للحظات ثم همست :-
" الحب .. الحب هو ما أشعره نحوك ..."
سألها وهو يبتسم :-
" ومالذي تشعرينه نحوي ...؟!"
ردت بعد لحظات من التفكير :-
" الكثير .. أشعر بالكثير نحوك ولكنني لا أعرف كيف أصف مشاعري تلك بدقة ... "
هتف أخيرا :-
" برأيي إن الحب لا يمكن حصره في قالب معين .. وإن المشاعر عندما تقتحم القلب لا يوجد شيء قادر على إيقافها .."
أضاف وعيناه تلمعان ببريق مختلف تماما هذه المرة :-
" الحب أعمق من أن تصفه بضعة كلمات .. أكبر من أن يتم حصره بكلمة واحدة .. وأهم من أن يكون مجرد شعور يسيطر عليك .. الحب هو رباط روحي أبدي ومشاعر قوية تجتاح روحك وتستحوذ على قلبك كاملا فلا تترك به مجالا للخلاص ..."
نظرت له بتشتت ليتنهد براحة أخيرا :-
" وهذا هو ما أشعره نحوك .."
شعرت بنبضاتها تتوقف داخل صدرها وعقلها يحاول تفسير مقصده ..
هل فهمت ما يعنيه ..؟!
هل هذا إعتراف مبطن بالحب أم إنها تتوهم ذلك ...؟!
ولكن الوهم بات حقيقة عندما إسترسل هو :-
" كل شيء بيننا .. جميع ما أشعره نحوك .. جل ما يربطنا لا يمكن سوى منحه مسمى واحد .. الحب ..."
توقف للحظة وأكمل بثبات ويقين :-
" أنا أحبك يا حياة ..."
إرتجفت كليا وهي لا تصدق ما سمعته ..
تلألأت العبرات داخل عينيها فأضاف وكفه تسير فوق وجنتها :-
" أحبك أكثر مما تتصورين ..."
تساقطت عبراتها وهي تهمس بنبرة متوسلة :-
" نديم ..."
" أنت حياتي .. شمسي وملاذي .. حبي الذي وجدته أخيرا .. أنت بدايتي ونهايتي ... أنت كل شيء وبدونك أنا لا شيء ..."
تأمل عينيها الباكيتين ليضيف وهو يبتسم لها بمشاغبة محاولا تخفيف أجواء اللحظة :-
" لقد ربحت يا حياة .. هزمتني انا وقلبي معا .. مبارك لك ... مبارك لك يا حياتي ..."
وما إن أنهى كلماته حتى هبط بشفتيه نحو شفتيها يقبلها بشوق ورغبة ولهفة والأهم بعشق حقيقي لا جدال فيه ..
يتبع
أنت تقرأ
حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح )
Romanceهو رجل يشبه الظلام .. رجل طعنه القدر بقسوة ولم يتبقَ منه سوى بقايا روح ترفض الحياة .. أما هي فأتت وإخترقت حياته المظلمة بالصدفة البحته .. بقلب نقي بريء وروح لا ترغب بشيء سوى الأمان وجدت نفسها عالقة بين ظلماته المخيفة .. وأخرى لم تدرك شيئا سوى إنها ت...