الفصل التاسع عشر
في صباح اليوم التالي ..
تململت في نومتها بعدما سمعت صوت أختها تحاول إيقاظها ..
لقد بقيت مستيقظة طوال الليل بعد تركها له بتلك الطريقة فعادت الى المنزل بملامح جاهدت كي تجعلها طبيعية وحمدت ربها إنها لم تجد سوى والدتها التي حيتها بإقتضاب مقصود ثم صعدت الى غرفتها بأقصى سرعة ..
طوال الليل كانت تبكي أحيانا وتتوقف عن البكاء أحيانا أخرى حيث تفكر مجددا بكل شيء يحدث معها ثم تعود كلماته القاسية تخترق عقلها فتنهال الذكريات عليها مجددا لتنخرط في بكاء مرير لا ينضب ...
فتحت عينيها أخيرا تتأمل حنين التي جلست بجانبها على سريرها تسألها بقلق :-
" هل انت بخير ..؟! إنها المرة الأولى التي تبقين بها نائمة كل هذا الوقت .."
اعتدلت حياة في جلستها تسألها بصوت مبحوح قليلا :-
" كم الساعة الآن ..؟!"
ردت حنين بجدية :-
" قاربت الثانية ظهرا .."
سيطرت الدهشة على ملامح حياة للحظات غير مصدقة إنها نامت حتى الثانية ظهرا لكنها عادت وتذكرت إنها لم تغفُ فعليا حتى الساعة السادسة صباحا ...
" لقد تأخرت في النوم قليلا البارحة .."
قالتها بخفوت لتومأ حنين برأسها قبل أن تنهض من جانبها تخبرها :-
" غيري ملابسك بسرعة ثم إتبعيني الى الطابق السفلي فالغداء سيجهز بعد قليل .."
هزت حياة رأسها بعدم إستيعاب لما تسمعه وقد عادت ذكريات ليلة البارحة تهاجمها مجددا ...
انتبهت أخيرا على مغادرة أختها غرفتها لتغمض عينيها وهي تعود بظهرها الى الخلف تحاول طرد تلك الأفكار المؤلمة بعيدا عنها ...
جذبت هاتفها الذي أغلقته البارحة في طريق العودة لتقرر فتحه أخيرا فتجد عشرات الإتصالات منه بل ورسائل لم ترغب بقراءة ما فيها فأغلقت الهاتف مجددا وهي تستند بظهرها على السرير تشرد بما حدث وكيف انقبلت سهرتهما هكذا ...
نهضت من مكانها أخيرا تتجه نحو الخزانة التي تحوي ملابسها بخطوات رتيبة ..
أخرجت ملابس لم تدرك حتى اذا ما كانت متناسقة او لا وسارعت ترتديها وهي تفكر إنها ستتحدث مع والدتها بعد الغداء رغم عدم رغبتها في التواصل معها في أي شيء لكنها مجبرة على ذلك ...
كلام نديم البارحة أعادها الى نقطة الصفر فعاد نفورها من والدتها يطفو على سطح مشاعرها من جديد ..
غيرت ملابسها وسرحت شعرها قبل أن تهبط درجات السلم بملامح جاهدت لجعلها عادية ...
وجدت حنين مع والدتها في صالة الجلوس فألقت التحية بخفوت قبل أن تجلس على مسافة منهما بصمت لتسمع والدتها تسألها بنبرة بدت لها مترددة :-
" هل كنت البارحة مع ذلك الشاب الذي يريد خطبتك ..؟!"
تأملتها حياة للحظة بنظرات لا توحي بشيء قبل أن تومأ برأسها وهي تجيب بإقتضاب :-
" نعم كنت معه .."
زمت أحلام شفتيها تردد بعدم رضا واضح :-
" فكري مجددا في قرارك يا حياة .. أنتِ تستحقين شخصا أفضل .."
عادت حياة تتأمل والدتها مجددا وقد بدت نظراتها هذه المرة غير مريحة فشعرت أحلام إن إبنتها ستقول شيئا يشابه نظراتها الجافة قليلا ..
" نديم غني للغاية .."
قالتها بصوت بارد لا حياة فيه فتتأمل نظرات والدتها التي بدت في البداية غير مستوعبة سبب ما قالته لكن حياة أكملت بنفس النبرة :-
" ورث أموال وشركات عن والده .. "
شعرت والدتها بالبرودة تغزو روحها وقد بدأت تستوعب سبب هذا المسار الذي اتخذته حياة في حديثهما لتضيف حياة بنبرة لا تخلو من القسوة وهي تشدد على كل حرف يصدر منها :-
" أعلم جيدا ما تفضلينه في الرجال عموما ونديم لديه ما ترغبينه أكثر من أي شيء ... لديه الكثير من المال والأملاك وبالتالي سيجعلني أعيش حياة مرفهة رغيدة بل ربما ستكون حياتي أفضل من حياتك انتِ أيضا فوالده رحمه الله اغنى من زوجك حتى ..."
أنهت حياة كلماتها لتلاحظ الجمود الذي كسى ملامح والدتها بينما حنين تتطلع إليها بلوم دون أن تتفوه بحرف واحد ..
صمت تام سيطر على المكان .. صمت امتد للحظات مرت كالدهر على ثلاثتهم خاصة حياة ووالدتها ..
أخيرا كسرت أحلام هذا الصمت حيث هتفت بصوت هادئ رغم الألم الشديد الذي ظهر في عينيها :-
" انا كنت أتحدث عن وضعه كونه سجين سابق وفي تهمة كهذه ... كنت أفكر في مصيرك ومصير اولادك مستقبلا عندما يدركون ماضي والدهم ..."
" أخبرتك إنه بري .."
قالتها حياة بهدوء لا يخلو من الجمود لتهتف والدتها بجدية محاولا نحي ألمها جانبا في هذه اللحظة :-
" الناس والمجتمع لا يدركون ذلك .. بالنسبة لهم هو مجرم كان يتاجر في الممنوعات ... "
قاطعتها حياة بقوة وثبات :-
" لا يهمني الناس ولا المجتمع .. لا يهمني أي أحد .. أنا أثق كونه بريء وهذا أكثر من كافي بالنسبة لي .."
تبادلت مع والدتها النظرات قبل أن تستمعا الى صوت اقدام احدهم تقترب منهما فوجدا أشرف يتقدم نحوهم ملقيا التحية عليهم حيث قد عاد لتوه من عمله ..!!
......................................................................
بعد الغداء ...
دلفت حياة الى غرفتها تتبعها والدتها حيث طلبت حياة منها أن تتحدث معها على إنفراد وفضلت أن يتم الحديث في غرفتها ...
أغلقت أحلام الباب خلفها ثم وقفت بالقرب منها تتأمل إبنتها التي تقف مقابلة لها تعقد ذراعيها أمام صدرها تبدو متأهبة لقول شيء ما ..
" أسمعك يا حياة ..."
قالتها والدتها بجدية وهي تتأمل تردد ابنتها الذي ظهر بوضوح على ملامحها ..
تردد سرعان ما سيطرت عليه حياة وهي تتحلى بالثبات وتخبرها بهدوء :-
" سأغادر اليوم وأعود الى منزلي ..."
تجهمت ملامح والدتها للحظات قبل أن تسألها بنبرة خافتة منزعجة :-
" لماذا ..؟! "
أضافت تسألها مجددا بلهفة :-
" ألستِ مرتاحة هنا ..؟! هل أزعجك أحدهم ..؟! "
ردت حياة بسرعة :-
" أبدا .. الأمر ليس كذلك .. انا فقط أشتاق لمنزلي .. أرغب بالعودة إليه .. ذلك هو منزلي حيث قضيت فيه كل سنوات عمري ... "
أضافت بجدية وصدق :-
" لكنني سآتي دائما الى هنا لأجلك ولأجل حنين .."
قاطعتها والدته بترجي :-
" لا تفعلي هذا يا حياة .. لم يمر سوى القليل جدا على بقائك هنا حتى إنني لم أشبع منك بعد .. لا تغادري الآن ... انتظري قليلا من فضلك .. انا لم أصدق موافقتك على البقاء هنا بجانبي .. لم تسعني الفرحة وقتها لتأتين وتخبريني بعد أيام معدودة إنك ستغادرين .."
" افهميني من فضلك .. انا بالفعل لا أرتاح سوى هناك ... أعدك إنني سأزورك دائما .."
قاطعتها والدتها مجددا بألم :-
" ولماذا لا تعيشين معي كما يفترض أن يحدث مع كل ام وابنتها ..؟!"
تنهدت حياة وقالت بخفوت موجع :-
" هذا الكلام لا يناسبنا نحن وأنتِ تعلمين هذا .. سنوات وكلا منا تعيش في عالمها لوحدها ... لذا ما تقولينه غير منطقيا على الإطلاق .."
" لكنني كنت أرغب بوجودك معي طوال تلك السنوات ... كنت أريد أن تعيشي معي بين أحضاني ... وأنت تعلمين هذا جيدا يا حياة ..؟!"
ردت حياة بجمود لم يقتصر على نبرة صوتها فقط بل كسا ملامحها ايضا :-
" لم أكن لأفعل ذلك .. لم أكن لأتخلى عن والدي .."
همست أحلام بألم :-
" لكنكِ تتخلين عني أنا ، أليس كذلك ..؟!"
إسترسلت بصوت موجوع :-
" رفضتني سابقا وتفعلين المثل مجددا ..."
صاحت حياة بلا وعي :-
" هل أصبح الذنب ذنبي الآن ..؟! أنا من رفضتك بينما أنتِ كنت الضحية ...؟! هل هذا حقا ما ترينه وتشعرين به ..؟! متى تستوعبين بعد إنك المذنبة الأولى في كل شيء ..؟! متى ستفهمين مقدار ذنبك في حقي وحق والدي بل مدى أنانيتك وجحودك ..؟؟"
تطلعت إليها والدتها بعينين باكيتين تهذي بعدم تصديق :-
" انت لم تسامحيني بعد .. لم تغفري لي ذنبي كما أخبرتني ... ما زلتِ تتحدثين بنفس الطريقة السابقة وترينني بنفس السوء .."
" الغفران ليس سهلا يا والدتي العزيزة ... خاصة في حالة كحالتنا .. لكنني مع هذا أحاول .. أحاول أن أنسى وأسامح .. أحاول بإستمرار والله يشهد على ذلك ... أحاول أن أتجاوز كل ما مررت به .. أن أتناسى على الأقل .. أحاول أن أقوم بواجبي نحوك كما يتطلب الدين والمنطق ... ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك ..؟! ماذا تنتظرين مني أكثر ..؟! "
توقفت حياة عن حديثها بأنفاس لاهثة وقد شعرت إن هذا الحديث كان قاسيا عليها مثلما كان قاسيا على والدتها ..
" انا اخطأت .. نعم اعترف بهذا لكنني أدركت خطأي بعد أعوام قليلة وجاهدت لإصلاحه ..."
قالتها والدتها بقوة وثبات لترد حياة بألم :-
" هناك أخطاء يصعب تجاوزها خاصة عندما تأتي من أقرب الناس إليك ..."
أضافت والدموع بدأت تأخذ طريقها على وجنتيها :-
" انت لا تعلمين ما عايشته بسببك وما شعرت به .. لا تعلمين كيف إستطعت تقبل ما فعلتيه وتناسيه وإدعاء عدم الإهتمام بما فعلته .. انا وصلت لمرحلة تمنيت فيها لو متِ بدلا مما فعلتيه ...!!"
وضعت أحلام يدها على فمها تكتم شهقة كادت أن تصدر منها بينما إسترسلت حياة وهي تهز رأسها بإبتسامة متألمة :-
"نعم تمنيت ذلك ... فشعور الفقدان أهون بكثير من شعور النبذ والخذلان ...نعم تمنيت ذلك مرارا حتى إنني تمنيت لو كذب والدي علي وأخبرني إنك ميتة ولستِ حية ومتزوجة من أخر وجدتيه أفضل منه ..."
هزت والدتها رأسها نفيا عدة مرات تحاول أن تكذب ما سمعته عندما قالت أخيرا بصوت باكي :-
" انا اخطأت نعم لكنني كنت مضطرة لذلك ... كنت صغيرة ولم أتحمل الفقر والحاجة ... كنت أرغب بحياة مترفة .. منزل كبير وخدم ... كنت أشعر دائما إنني أستحق حياة أفضل بكثير من تلك الحياة البائسة التي أعيشها ..."
" هذا ليس مبررا .."
قالتها حياة بإباء لتومأ أحلام برأسها وهي تمسح دموعها بأناملها وتقول :-
" معك حق .. هذا ليس مبررا بالفعل ...لكنني كما اخطأت حاولت تصحيح خطأي .. حاولت التواصل معك مرارا لسنوات .. لم أمل يوما من تلك المحاولات .
" بعد ماذا ..؟! لقد تأخرت كثيرا على ذلك .. لقد تأخرت لدرجة إنني كبرت وفهمت ما يحدث .. فهمتِ سبب غيابك ... فهمتِ وليتني لم أفهم فتلك كانت اسوء طعنة تلقيتها في حياتي ..."
" حياة .."
قالتها والدتها وهي تحاول التقدم نحوها وإحتضانها لكنها ابتعدت وهي تضيف باكية :-
" ربما قد يكون كلامي قاسيا للغاية لكنه لن يوازي قسوة ما مررت به وما شعرت ... كان أسوء شعور مررت به عندما أدركت إن أول وأقسى ألم تلقيته في حياتي جاء من الشخص الأقرب لي .. ممن يفترض إنها الأقرب لروحي وقلبي .. منكِ انت ِ .. أمي ..."
أكملت بنشيج خافت :-
" عليكِ ان تعلمي أيضا إنني حاولت .. حاولت تجاوز مشاعري هذه وفتح صفحة جديدة معك حتى البارحة .. كلمات قليلة سمعتها من أحدهم كانت كافية لتحطيم جميع محاولاتي البائسة لأدرك إنني لن أتحرر من ألم تخليك عني مهما حدث .. "
أنهت كلماتها واندفعت خارج الغرفة ودموعها تهطل على وجنتيها بغزارة ...
هبطت درجات السلم بخطوات سريعة ثم اتجهت نحو الباب المؤدي للحديقة عندما توقفت على صوت نضال يناديها مستغربا حالتها تلك وخطواتها الراكضة ..
إلتفتت نحوه بنصف إستدارة فرأى وجهها الباكي قبل أن يجدها تندفع خارج المنزل غير آبهه بنداؤه القلق عليها ..
......................................................................
أنت تقرأ
حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح )
Romansaهو رجل يشبه الظلام .. رجل طعنه القدر بقسوة ولم يتبقَ منه سوى بقايا روح ترفض الحياة .. أما هي فأتت وإخترقت حياته المظلمة بالصدفة البحته .. بقلب نقي بريء وروح لا ترغب بشيء سوى الأمان وجدت نفسها عالقة بين ظلماته المخيفة .. وأخرى لم تدرك شيئا سوى إنها ت...