الفصل الثالث عشر
مر الوقت عليها بطيئا للغاية ... عقلها يصور لها أفظع الأشياء وقلبها يبكي دما على من تسببت بأذيته بسبب تهورها وعنادها ..
كان عليها أن تتوخى حذرا منه وهي تدرك مدى حقارته وشيطنته .. كان عليها أن تفكر جيدا قبل أن تخطو خطوة كهذه ..
بالكاد سيطرت على دموعها التي هددت بالهطول وهي تقف في منتصف الممر المؤدي الى الغرفة التي يوجد بها أكرم وحوله مجموعة من الأطباء ..
إنتبهت أخيرا الى والديها اللذين تقدما نحوها بقلق بعدما إتصلت هي بهما تخبرها عما حدث بشكلٍ مختصر ..
" ماذا حدث ..؟! وكيف هو وضع أكرم ..؟!"
سألها والدها بخوف شديد على ابن أخيه وهو يتأمل وضعها السليم تماما بينما والدتها تحتضنها برفق فتجيبه مريم بنبرة ضعيفة :-
" لا أعلم .. الأطباء معه الآن .. "
ثم هطلت دموعها على وجنتيها بغزارة فأخذت والدتها تحتضنها وهي تحاول تهدئتها عندما عاد والدها يسألها :-
" ماذا حدث بالضبط يا مريم ..؟! من فعل به هذا ..؟!"
إبتعدت مريم قليلا من بين أحضان والدتها تنظر إليه برعب لا إرادي بينما نهرته والدتها بضيق :-
" هذا ليس الوقت المناسب لسؤال كهذا .. دعنا نطمئن على أكرم أولا ولكل حادث حديث .."
عادت مريم تلقي نفسها بين أحضان والدتها محاولة الهرب بعيدا عن اسئلة والدها التي لا طاقة لها أبدا لسماعها ...
انتفضت بعيدا عندما وجدت الطبيب يخرج من الغرفة الموضوع بها أكرم لتركض نحوه تسأله بلهفة وخوف نابع من أعماقها :-
" كيف وضعه ..؟! هل هو بخير ..؟!"
منحها الطبيب إبتسامة هادئة وهو يجيب :-
" بخير .. صحيح تعرض للعديد من الكسور والإصابات في مختلف أنحاء جسده لكن الحمد لله لم تتأثر أعضاءه الحيوية بها .."
تنهدت براحة بينما أضاف الطبيب بجدية :-
" سيبقى في المشفى لعدة أيام حتى تشفى أغلب كسوره تماما ..."
هزت مريم رأسها وهي تردد بلهفة واضحة :-
" بالطبع .. بالطبع سيبقى .."
ثم سارعت تجلس على احد الكراسي الموضوعة جانبها ودموعها تتساقط على وجنتيها من جديد ..
أرعبتها فكرة أن يصيبه شيء بسببها وهي التي تبججت وتحدت ذلك اللعين دون أن تضع حسابا لما سيصدر منه ..
والأسوء من ذلك إنه هددها بكل وضوح ومع ذلك عاندت وأبت أن تستمع لتهديداته وهاهو أكرم يدفع ثمن عنادها الغبي ..
شعرت بكف والدتها تربت على كتفها محاولة التهوين عليها ببعض الكلمات بينما والدها يجري اتصالا مع عمها في الخارج يخبره بما حدث ..
بعد مدة قصيرة طلبت منها والدتها مغادرة المشفى معهما فلا داعي لبقائها معه وهو سيبقى الليل بأكمله نائما غير واعيا لأي شيء كما أخبرهم الطبيب لكن مريم أبت ذلك حيث رددت بإصرار لا يقبل جدال :-
" لن أتركه حتى يستيقظ غدا وأطمئن عليه ..."
وبالفعل إضطرا والديها للمغادرة بعدما أخبراها إنهما سيكونان عندها غدا باكرا ..
قضت مريم الليل بأكمله معه تبكي أحيانا وتهدئ أحيانا أخرى حيث تفكر لا إراديا بعمار وهوسه الشديد بها..
نعم لقد أدركت الآن إنه مهووس بها بشكل لا يقبل جدالا ...
مثلما أدركت كم إنه رجل مجرم ومخيف .. مرعب في ردود أفعاله المتطرفة ..
أخذت طوال الليل تفكر في كيفية التصرف مع شخص مثله ..
شخص لا يرحم .. لا يهدئ .. ولا يبالي ..
ولأول مرة تفهمت ليلى وإستوعبت سبب تصرفها الذي كان مجنونا من وجهة نظرها ..
ليلى كان معها الحق فيما فعلته فلولا زواجها منه لربما كان نديم في عداد الموتى الآن وبالرغم من رفضها القاطع لتضحية أختها بحياتها في سبيل الحفاظ على حياة آخر لكنها تتفهم موقفها ففكرة أن يتعرض شخص للأذى بل الموت بعدما رفضت أنت إنقاذه تبدو صعبة بل مرعبة ..
كانت الأفكار تنهشها بلا رحمة وعقلها يصور لها الكثير ..
بعد هذه الحادثة لم يعد أي شيء كالسابق وعمار بات واضحا في تصرفاته وردود أفعاله فالقناع الذي كان يرتديه في بادئ الأمر خلعه ليظهر وجهه الشيطاني بكل وضوح متبججا هو به دون أدنى تردد او خجل ..
وهل يعرف أساسا شخص مثله الخجل ..؟!
إنقشع ظلام الليل وحل الصباح أخيرا وهي ما زالت مستيقظة تماما ...
جاءت الممرضة للإطمئنان على أكرم وبعدها الطبيب حيث إستيقظ أكرم أخيرا وقد بدا الألم والضعف واضحا عليه ..
جاء والديها ومعهما ليلى للإطمئنان عليه بينما إتخذت هي ركنا بعيدا تراقب ألمه الذي تشعر به ينخر قلبها دون رحمة مذكرا إياها كل لحظة بإنها السبب في كل هذا ..
وأخيرا إستطاعت الخروج من المشفى بعدما تحججت بذهابها الى منزل أكرم لتجلب بعض إحتياجاته لكنها في الحقيقة كانت تستعد للذهاب إليه ومواجهته ..
مواجهة تدرك إنها خاسرة لكنها لن تكون مريم إن بقيت في المشفى تبكي بين جدرانها وتندب حظها ..!!
....................................................................
دلفت الى شركته بملامح تقطر غضبا ..
وبالرغم من ملامحها المنهكة وهيئتها المبعثرة كانت تبدو في أوج قوتها وتحفزها ...
اتجهت نحو المصعد ودخلته لتضغط على زر الطابق الذي يوجد به مكتبه ..
خرجت بسرعة منه متجهة الى مكتبه عندما وقفت السكرتيرة في وجهها تخبرها وهي تشير الى الغرفة المجاورة لغرفة مكتبة :-
" عمار بك لديه اجتماع الآن .."
" ابتعدي عن وجهي .."
قالتها وهي تندفع نحو قاعة الاجتماعات غير آبهة بأي شيء ليتجمد مكانه للحظة وهو يراها تتقدم نحوه بنظرات مشتعلة متحفزة قبل أن تنقض عليه غير مهتمة بمن يوجد في الغرفة من موظفين ومدراء أقسام ..
" أيها النذل الحقير .. سأقتلك بيدي هاتين وأخلص العالم من شرك .."
حاول الثبات أمام جميع الأنظار المتجهة نحوه بدهشة وعدم تصديق فهدر بصوت ثابت قوي :-
" اخرجوا جميعا من هنا .. هيا ماذا تنتظرون ..؟!"
خرج الجميع بسرعة لتبقى هي لوحدها معه ..
" اهدئي يا مريم .. اهدئي .."
قالها ببرود يحسد عليه وهي ما زالت تقبض على ياقة قميصه بعنف فصرخت بعصبية مجنونة :-
" كاد أن يموت بسببك .. بسببك انت.."
قبض على كفيها اللتين ما زالتا ممسكتين بياقة قميصه مرددا بهدوء :-
" لكنه لم يمت .. وكوني على ثقة إنني لم أكن أنوي قتله .. ما حدث مجرد تحذير بسيط لا غير .."
ابتعدت عنه بيدين مرتجفتين تهتف بخوف حقيقي :-
" انت لا يمكن أن تكون طبيعي .. أنت .."
توقفت لا تستطيع إكمال حديثها وقد هطلت دموعها على وجنتيها بغزارة أخيرا فما حدث فاق قدرة تحملها ..
نهض من مكانه ووقف أمامه مرددا وهو يحاول إحتضان وجهها :-
" اهدئي يا مريم .. هو بخير .. اطمئني .."
دفعته وهي تقول بضعف :-
" ابتعد عني .. اتركني وشأني .."
ثم سارعت تجذب منديلا ورقيا تجفف به دموعها فهي لا ترغب أن يرى مدى ضعفها بعد كل ما مرت به طوال ليلة البارحة ..
" هل أصبحتِ أفضل ..؟؟"
سألها بنبرة ناعمة وهو يتأمل وجهها الذي استعاد قليلا من هدوئه وطبيعته المعتادة لترفع عينيها نحوه بصمت قبل أن تومأ برأسها دون رد وهي تفكر إن شخص كهذا يجب أن تتعامل معه بطريقة مختلفة ..
طريقة لا تشبه تحديها وتهورها ...
" جيد .. "
قالها بهدوء لتأخذ نفسا عميقا قبل أن تسمعه يسألها بإهتمام :-
" هل ترغبين بشرب شيء ما ..؟! تبدين مرهقة .."
ردت بسرعة :-
" لا أريد .. يجب أن أذهب .."
وقبل أن تتحرك كان يقبض على شعرها بقسوة جعلتها تصرخ وجعا قبل أن ينحني هامسا بجانب أذنها :-
" إلى أين يا صغيرة ..؟!"
نظرت له بدهشة من تغير حاله في لحظة واحدة لتسمعه يهتف بنبرة قاسية متوعدة :-
" ستأخذين عقابك كاملا طالما أصبحتِ بخير .."
وقبل أن تستوعب ما يحدث كان يدفعها على الحائط خلفها قابضا على فكها بأنامله التي كادت أن تكسر عظام فكها بينما لسانه يردد بصوت مخيف :-
" كيف تجرؤن على الدخول هنا والتسبب بفضيحة كهذه لي ..؟!"
همست بضعف وهي تحاول دفعه دون فائدة :-
" ابتعد .. ارجوك .."
لكنه لم يبال بكل هذا وهو يقرب وجهه من وجهها لتشعر بأنفاسه الكريهة تلفح وجهها قائلا بصوته القاسي :-
" ماذا تظنين نفسك يا صغيرة ..؟! هل تظنين إنك قادرة على أن تتحديني ..؟! هل تظنين إن هناك مخلوق على وجه الأرض يستطيع الوقوف في وجهي ..؟! أيتها البلهاء الغبية .. كنت أظنك أذكى يا مريم لكنكِ أثبتِ لي إنكِ لستِ سوى حمقاء صغيرة تتصرف برعونة وطيش .. "
إشتعلت عيناها من تلك الكلمات الغبية التي يطلقها عليها ..
حاولت أن تدفعه لكنه شدد من قبضته لتصرخ وجعا فيكفي ما مرت به الليلة السابقة ليأتي هذا الحقير ويضاعف من ألمها الجسدي ..
" ارجوك ..."
همستها مجددا والدموع بدأت تأخذ طريقها على وجنتيها لتجده يحرر فكها أخيرا لكن سرعان ما قبض على عنقها بقوة مخيفة وهو يهتف بقوة وتجبر :-
" إياك أن تكرريها يا مريم .. إياك أن تتحدي عمار الخولي مهما حدث لإن النتيجة ستكون سيئة للغاية .. أسوء مما تتصورين .."
كان يتحدث ببطأ بينما عيناها جحظتا تماما ورغبتها في الحصول على الهواء وصلت أوجها ..
شعرت إنها ستموت لا محالة قبل أن يحرر رقبتها أخيرا لتنتفض بسرعة وهي تسعل بشدة ..
توقفت عن سعالها أخيرا وهي تشعر بروحها تعود إليها أخيرا لترفع وجهها المفزوع نحو وجهه الذي ينظر إليها بكل قوة وصلابة ممكنة فتسارع للخروج من مكتبه ركضا غير مبالية بأي شيء فهي الآن لا تريد سوى الفرار من جحيمه ولكن قبل أن تتخطى مكتب سكرتيرته كان تسقط أرضا فاقدة للوعي ..
ركض خارج القاعة نحوها ما إن سمع صوت سكرتيرته تصرخ بفزع ليجدها منحنية نحوها تحاول إيقاظها ..
صاح بها وهو ينحني نحو مريم :-
" ابتعدي انتِ .."
ثم سارع يحملها وهو يصيح مجددا بنبرة آمرة :-
" اتصلي بالطبيب حالا .."
دلف بها الى القاعة مجددا ووضعها على الكنبة وهو يميل بوجهه نحوها يربت على وجنتيها برفق هامسا لها :-
" أفيقي يا مريم .. "
ثم رفع وجهه بعيدا عنه صائحا بصوته الجهوري :-
" الطبيب بسرعة .. "
عاد ينظر الى ملامحها الساكنة بقلق وصاح من جديد :-
" هاتي ماء فورا .."
ثم نهض من مكانه متجها نحو طاولة الاجتماعات الطويلة حيث أخذ قنينة الماء واتجه بسرعة نحوها ..
بدأ يرمي قطرات من الماء بخفة على وجهه أكثر من مرة حتى بدأت ملامحها تتشنج قليلا وعينيها ترمشان بضعف ..
فتحت عينيها أخيرا لتجده يطالعها بنظرات تشع خوفا لتبتلع ريقها وهي تحاول الاعتدال في جلستها عندما هتف بها بسرعة :-
" لا تتحركي .. الطبيب قادم .."
وقبل أن تعترض كان الطبيب يدخل بالفعل ويتجه مباشرة نحوها لفضحها بينما أمر عمار سكرتيرته :-
" هاتي شيئا تشربه ... عصير بارد .."
أذعنت السكرتيرة لطلبه وذهبت تجلب العصير البارد لها بينما عاد عمار ينظر الى مريم التي بدورها كانت مستسلمة تماما بين يدي الطبيب الذي فحصها بإهتمام قبل أن يبتسم بهدوء وهو يشير الى عمار :-
" هبوط في الضغط .. يبدو إنها لم تتناول شيئا منذ مدة .. الإرهاق واضح عليها ..."
أضاف مشيرا على عمار بملامحه المترقبة :-
" يجب أن تتناول شيئا يساعد في رفع ضغطها ... كما إنها تحتاج الى الراحة والنوم لفترة جيدة .."
اومأ عمار برأسه متفهما بينما تقدمت السكرتيرة منهم وهي تحمل عصير البرتقال الطازج فأخذه عمار منها بعدما أشار لها أن ترافق الطبيب الى الخارج ..
" اشربي .."
قالها وهو يمد قدح العصير لها بيده لتنظر إلى القدح بجمود للحظات قبل أن تأخذه وهي تفكر إن العناد لا جدوى منه فهي بحاجة شديدة لتناول هذا العصير كي تستطيع النهوض والعودة الى المنزل ...
أخذت تتناول العصير ببطأ عندما وجدته يتجه نحو الطاولة يحمل شيئا ما من فوقها ويتقدم به نحوها .
وضع عمار طبق الحلويات أمامها وهو يخبرها :-
" تناولي هذه أيضا .."
وضعت القدح جانبا وهمت بالنهوض بعدما قالت بسرعة :-
" شكرا لا أريد .."
ولكن عاد الدوار يهاجمها مجددا فسارع يقبض على ذراعها يمنعها من السقوط لتنتفض بفزع قبل أن ترفع عيناها نحوه فتلتقي مقلتيها الزرقاوين بعينيه الخضراوين لتتفاجئ بهما تتأملانها بلهفة وقلق واضح ...
حررت ذراعها من قبضته بسرعة وهي تتحامل على نفسها وتسير مبتعدة عنه خارج المكان لتسمعه يقول بجدية :-
" بإمكانك الإنتظار قليلا حتى يرتاح جسمك قليلا ثم تغادري بعدها .."
إلتفتت نحوه تتأمله بإمتعاض للحظات قبل أن ترد ببرود :-
" مجرد إبتعادي عنك سيجلب لي الراحة ..."
ابتسم بهدوء وقال :-
" الآن فقط إطمئنيت إنكِ عدت لسابق عهدك طالما لسانك الطويل عاد لطبيعته مجددا .."
رمقته بنظرات حادة مشتعلة قبل أن تشيح بوجهها وتندفع خارج المكان مقاومة رغبتها الشديدة في ضربه بأي شيء يحطم وجهه ..
أفاق عمار من شروده على صوت رنين هاتفه الموضوع على طاولة الاجتماع فإتجه نحوه وحمله ليجد جيلان تتصل به ..
رد عليها ليسمعها تقول بسرعة :-
" أريد الخروج مع أصدقائي ... انا بحاجة للترفيه عن نفسي قليلا .. ارجوك لا ترفض .."
" اخرجي يا جيلان .."
قالها بنفاذ صبر ثم أغلق الهاتف في وجهها فلا مزاج لديه بعدما حدث لتحمل دلال أخته الذي لا ينتهي ...
أما جيلان فنظرت الى الهاتف بمشاعر مختلطة .. حزينة لرغبته الواضحة في صرفها وسعيدة لإنها حصلت على موافقته فسارعت تفتح حسابها وتتواصل معه كي تخبره بموافقة أخيها على خروجها معه ..
..........................................................................
أنت تقرأ
حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح )
Roman d'amourهو رجل يشبه الظلام .. رجل طعنه القدر بقسوة ولم يتبقَ منه سوى بقايا روح ترفض الحياة .. أما هي فأتت وإخترقت حياته المظلمة بالصدفة البحته .. بقلب نقي بريء وروح لا ترغب بشيء سوى الأمان وجدت نفسها عالقة بين ظلماته المخيفة .. وأخرى لم تدرك شيئا سوى إنها ت...