هُنَاكَ فِي أعالي الفُرَات حَيثُ أُرْكِبَت الأَمِيرَةُ المُقَدَّسَةُ قَارِبَ السَّبْيِ وسُيِّرَتْ المَرَاكِبُ فِي النَّهْرِ، كَأَنِّي بِهَا اضْطَرَبَتْ قَلِيلاً، فَهِيَ بَينَ يَدَي أَعْدَاء أَغْرَابِ، لا يَرْحَمُون، ولَرُبَا وُضِعَتْ مَعَ وَصِيفَاتِها دَاخِلَ أَقْفَاصِ، فَكَأَنِّي بِهَا أَمْسَكَتْ بِكِلتَي يَدَيْهَا المُرتَعِشَتينِ بَعْضَ أَعْوَادِهَا الخَشَيَّةِ، تَنْظُرُ مِنْ خِلَالِهَا تَتَأْمَلُ طَرِيقَهَا، لَعَلَّهَا تَجِدُ مَا يُسَكُنُ رَوعَهَا، فَقَد كَانَ نَهَارَاً مُفْعَةٌ بِالْمُغَامَرَاتِ وَالمَخَاطِرِ، بالأمس كَانَتِ ابْنَةَ مَلِكِ، وَهَا هِيَ اليَومَ أسيرة، تَتَجَرعُ مَرَارَةَ الذُّلِ وَتَقَلبَ الأَحْوَالِ، فَقَدَرُ العُظَمَاءِ تَوْأَمْ يُكَرِرُ نَفْسَهُ عَلَى مَدَى الْأَزْمَانِ، يَتَبَدَّلُ الأَشْخَاصُ لَكِنَّهُ هُوَ هُو ، فَعَجَبَا لَقَدْ أَشْبَهَتْ قِصَّتُها قِصَّةَ النَّبيِّ الَّذِي أَصْبَحَ عَزِيزاً لمِصرَ، فَكَانَ لا بُدَّ هَا مِنَ النَّهْرِ كَمَا كَانَ لا بُدَّ لِيُوسُفَ مِنَ البِيْرِ، وَلا بُدَّ لها أن تُبَاعَ فِي سُوقِ النَّخَاسِينَ كَمَا بِيعَ يُوسُفَ فِي مَزَادِ العَبِيدِ... هناكَ انْتِرَى يُوَاسِيّها جَمَالُ النهر، كأنه فَرحُ بِحَمْلِهِ مركب هذا الملاك، فأخذ يُتَمَوجُ بِحَنَانِ يُدَاعِبُ قَارِبَها وَعَيْنَاهَا الذَابِلَان غَادَرَهما التَعَبُ وَهِي تنظر إلى يسخر الفُرَاتِ، فَمَاؤُهُ يَجْرِي مُلتَوِياً يَشُقُ طَرِيقَهُ كَبِطُونِ الحَيَّاتِ بَينَ الهِضَابِ، تَسْمَعُ صَدَى تَدَفْقِهِ، وَقَــد اندمَـجَ مَعَ خَفِيفِ الشَّجَرِ، وَسْطَ زَقْزَقَةِ العَصافير، وشَدْوِ البَلابِل، وَالنُخَيلاتُ عَلى ضِفَافِهِ تَتَرَاقَصُ سَعَفَاتُهَا، جَميعُها تُرَحْبُ بأميرتها القديسة.. كانَ مَشْهَداً خَلابَاً، يُضَمَّدُ شَيْاً مِنَ جرَاحِهَا، ويُنسِيهَا مَا هِيَ فِيهِ، وَقَدْ قَرُبَتْ مِنْ مَدِينَة بغداد.
