رقصة الظلال الأخيرة

43 3 0
                                    


كانت السماء ساكنة، لكن السكون لم يكن هادئًا. كان سكونًا مشحونًا بالكآبة، كأن العالم كله يحبِس أنفاسه انتظارًا لصيحة نهاية. فوق الحافة كانت تقف، جسدها يترنح كريشة في مهب الريح، أمامها القط، عيناه ملتهبتان كجمرتين تحرقان الظلام. همس بصوت كسر جدار الصمت:
"اقفزي."

صوته لم يكن مجرد همس، بل وعدًا بالخلاص أو تهديدًا بمصير أسوأ من الموت. تجمدت للحظة، برودة زاحفة اخترقت عظامها، وكأنها تقف على شفا هاوية تبتلع كل شيء. لكن وسط هذا السكون القاتل، كان بداخلها صوت صغير يصرخ، يرفض الخضوع. أغمضت عينيها، قبضت على يديها بشدة حتى شعرت بسيلان الدم من راحتيها، ثم قفزت.

فتحت عينيها لتجد نفسها في سوق أمانيثا، ولكن شيئًا ما كان خاطئًا. المكان لم يكن كما عرفته يومًا. الحياة اختفت، حلّت مكانها أشباح تتحرك ببطء وسط ضباب قاتم. الأكشاك المتهالكة كانت تنهار تحت وطأة الغبار، وأصوات الباعة التي ملأت المكان يومًا تحولت إلى صرخات مكتومة، كأن السوق أصبح مقبرة تعج بالنحيب.

ضحكات الأطفال كانت تتردد كأصداء حزينة، لكن لا أطفال هنا. فقط أطياف لذكريات لم تعد تنتمي لهذا العالم. الزمن نفسه كان ينساب حولها كبحر متمرد، كل شيء يتلاشى ببطء، وكأن أمانيثا نفسها تحتضر أمام عينيها.

مدّت يدها في محاولة للإمساك بذكرى طافية في الهواء، لكنها توقفت فجأة عند صوت القط الذي ظهر أمامها:
"لا تلمسيها!" صرخ بنبرة مليئة بالذعر، عينيه تضيقان كأنه يرى شيئًا لا تستطيع رؤيته.
لم يكن هناك وقت للتفكير. اهتزت السماء فجأة بصوت أشبه بصرخة تمزق الكون. تحول لونها إلى الأحمر القاني، كما لو أنها تنزف دماء حية، والهواء امتلأ برائحة احتراق لا توصف، ثقيلة تخنق الأنفاس.

السوق تلاشى بالكامل، تحوّل إلى فراغ مطلق. الأصوات تلاشت، والصمت الذي تلا ذلك كان أشبه بوحش يزحف لابتلاع كل شيء. ثم ظهرت الظلال. كانت طويلة، ملتوية، أشبه بكوابيس خرجت من أعماق اللاوعي.

وسط هذا الخراب، كان كاستوس يتقدم بخطوات بطيئة، لكنه بدا كأنه يحمل معه نهاية العالم. درعه المتشقق كان يلمع تحت سماء الجحيم، وخلفه جنود أمانيثا، يقاتلون بشراسة. لكنهم لم يكونوا سوى أصداء ماضية، أرواح مشوهة محاصرة في دوامة الموت.

ثم ظهر شيخ طاعن في السن، وجهه متغضن كأنه نُحت من الألم نفسه. وقف وسط الفوضى، ورفع صوته الهادئ كأنه يتحدث إلى العالم بأسره:
"أردت السلام فقط... هل هذا كثير؟ هل العيش دون خوف خطيئة؟"

كلماته اخترقت روحها كخنجر، شعرت بوزنها يتضاعف تحت وطأة معاناة ليست معاناتها، لكنها كانت تغرق فيها ببطء.

ثم ظهر هو. الكائن الذي كانت تراه في كوابيسها، الهيكل العظمي العملاق، عيناه مجوفتان لكنه كان يرى كل شيء. كان هو الوحش الذي أخذ أورفين منها .

الخوف الذي شعرت به هذه المرة كان مختلفًا. لم يكن خوفًا من الموت، بل من فقدان روحها ذاتها. قدماها ارتجفتا، خيوط خفية من اليأس ربطتها بالأرض، وكأنها لا تستطيع الهرب.
"لقد رآنا!" صرخ القط، صوته مليء بالرعب، "اركضي!"

لكنها لم تتحرك. عيناها علقتا في تلك الفجوات السوداء التي كانت مكان عيني الوحش. شعرت كأن الظلام نفسه يبتلعها.
"التقطي الكتاب!" صاح القط فجأة، مشيرًا إلى شيء يتوهج وسط الأنقاض.

ركضت نحو الكتاب. خطواتها كانت ثقيلة، كأنها تحمل فوقها وزن عالم بأسره. عندما لمست غلافه، شعرت بقوة غريبة تسحبها نحو العدم. كان الأمر أشبه بالغرق في بحر مظلم، لكن النور المنبعث من الكتاب كان يدفع الظلام بعيدًا.

اختفى السوق، ومعه كل شيء. وجدت نفسها وحيدة في الظلام.

---

عندما استعادت وعيها، وجدت نفسها داخل قصر ليبرتا. الجدران كانت تنهار من حولها، والسقف يكاد يسقط فوق رأسها. الهواء كان مثقلًا برائحة الغبار والموت، والمكان كله كان يصرخ بالصمت، يخفي سرًا يرفض الكشف عنه.

على العرش المحطم جلس أليكسويس، وجهه مشوه بابتسامة جنونية. كان يمسك بجوهرة تتلألأ كأنها قلب حي ينبض بين أصابعه.
"كل شيء تحطم بسببهم. لولاهم لكان العالم ملكي!"

ثم قُطع صوته بصيحة حادة كالسيف:
"أفلتها من يدك القذرة!"

التفتت لترى ليون، يقف وعيناه مشتعلة بغضب لا يمكن كبحه. كانت يداه ترتجفان، ليس بالخوف، بل من ثقل الألم الذي يحمله.
ابتسم أليكسويس بسخرية، وقال: "أتريدها؟ تعال وخذها... إن استطعت."

---
الهواء تغير فجأة. العاصفة التي كانت تتخمر منذ البداية انفجرت أخيرًا. الجدران تهاوت كقطع زجاج، الأرض بدأت تبتلع نفسها، والسماء انهارت كأنها مرآة انكسرت فوق العالم.

وسط هذا الانهيار، شعرت بيد باردة تمسك بيدها. كان صوتًا مألوفًا يهمس لها:
"تعالي من هنا..."

جذبتها تلك اليد  بعيدًا عن الفوضى.

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن