العودة

9 3 0
                                    


وقفت رودين على ناصية السفينة، تتأمل الأفق الممتد أمامها، والرياح تعصف من حولها كأنها تهمس بأسرار البحر الغامضة. كان البرد يعانقها كذئب جائع، والأمواج تتلاطم كوحوش هائجة، تعكس فوضى مشاعرها التي تتراقص على حافة الانهيار. كل شبر في جسدها يئن، وكل نفس يخرج منها يُغرقه زمهرير الرياح. شربت آخر قطرات من الدواء، لكنّها لم تجدِ نفعًا. أرادت أن تهرب من الألم، أن تذوب في صقيع البحر اللامتناهي، علّها تجد خلاصًا من وجعٍ أثقل روحها وقيد قلبها.

في حجرة القيادة، كان زيف يوجّه السفينة ببراعة بواسطة سحره، بينما ليفيانا استسلمت للإرهاق ولجأت إلى الحجرات السفلية لتغرق في سبات أشبه بالهروب. على السطح، كان أورفين يسير في صمت، خطواته تحمل عبء الأيام الماضية. لمح رودين تقف وحدها، جسدها النحيل يكاد يختفي تحت رداء البرد. اقترب منها بصمت، وضع بطانية على كتفيها برفق كأنّه يخشى أن يجرحها. همس بصوت دافئ، اخترق هدير البحر:

"ماذا تفعلين هنا؟ البرد شديد، انزلي للأسفل مع ليفيانا، خذي قسطًا من الراحة."

لم تلتفت، ظل بصرها معلقًا بالأفق الذي تلاطمت أمواجه، وكأنّها تبحث فيه عن إجابة مستحيلة. ردّت بصوت خافت، كأنّ الكلمات تخرج من أعماق جرح:

"شكرًا... لكن لا أشعر بالنعاس."

تنهد أورفين، ووقف أمامها، تتلاعب الرياح بشعره كأنّها تحاول أن تسرق شيئًا من قوته. قال بصوت يحمل كل ما في قلبه من قلق:

"من كان يظن أن كل هذه الأحداث ستقع لنا؟"

بصوت مبحوح، كأن الألم يزاحم كل حرف يخرج منها، همست:

"أظن أنّ هذا بسببي..."

دهشة غطّت ملامحه، ثم نظر إلى وجهها الشاحب، والعلامات التي حفرها المرض على محيّاها. قال بصوت يملؤه القلق:

"رودين، هل أنتِ بخير؟ وجهكِ شاحب، عليكِ الدخول."

حاول أن يمسك بيدها ليقودها إلى الداخل، لكنها سحبت يدها، وكأنها ترفض النجاة. قالت بصوت مرتجف:

"أورفين... أشعر أنّني السبب في كل هذا. منذ دخولي هذا العالم، والأمور تتدهور. كنتم تعيشون في سلام، وعندما أتيت... كل شيء تغيّر."

قاطعه الألم وهو يسمع كلماتها. قال بنبرة جازمة:

"رودين، ما تقولينه هراء."

لكنّها لم تسمح له بإكمال حديثه. انهارت دموعها كطوفان، وجعٌ قديمٌ أخيرًا وجد مخرجًا:

"أمّي كانت محقّة... أنا لعنة على الجميع. منذ ولادتي، كل شيء انهار. حتى ليلى... ماتت لأنّها كانت صديقتي. الآن أنتم تعانون بسببي."

ظلَّ أورفين يحدّق بها، عينيه تشعّ بحنانٍ عميقٍ لا يعرف الحدود، حنانٍ يرفض أن ينكسر أمام أيّ شيء. اقترب منها بهدوء، رفع يديه برفق ليحيط كتفيها المرتجفين، وكأنّما يريد أن يرفع عن قلبها عبء السماء بأسره. همس بصوت دافئٍ، يحمل في طياته عذوبة وحقيقة لا يمكن إنكارها:

"رودين... لا أحد يختار مصيره. وجودكِ بيننا ليس لعنة. بل نعمة من عالمٍ آخر. أنتِ أكثر شجاعة مما تظنين. لولاكِ، لكان مصيرنا الضياع."

انهارت بين ذراعيه، وكأنّها أخيرًا وجدت ملاذًا من العاصفة التي كانت تعصف بروحها. احتضنها برفقٍ، كما لو أنّه يحاول أن يمحو كلّ الألم الذي تحمله في قلبها. مسح على شعرها بلطفٍ، همس في أذنها بصوتٍ يكاد يكون أقرب إلى الوعد:

"لن أترككِ وحدكِ، مهما كان ما ينتظرنا. سنواجه كل شيء معًا."

بينهما، لم يكن هناك حاجة للكلمات أكثر من تلك الهمسات. مشاعر لم تُعلَن بعد، لكنّها كانت واضحة في كلّ نظرة، وكلّ لمسة، وكلّ
همسة.
-----
كانت الأيام تمرّ ببطءٍ خانق، كلّ لحظةٍ ثقيلة كأنها تحمل آلاف الأوزان. البحر كان لا يرحم، أمواجه العاتية تقذف بالسفينة في كلّ اتجاه، والصقيع يخترق العظام ويجمد الروح. كلّ ليلة كانت رودين تستفيق على ألمٍ جديد، من شدة البرد أو من الذكريات التي تعصف بها. لكن أورفين، رغم العذاب الذي يعيشه  لم يتركها لحظة. كان يقف بجانبها، يراقبها بعينين مليئتين بالقلق والحب الصامت.

وفي الأفق البعيد، بعد أيامٍ من الإبحار في بحرٍ هائج، حيث لا تبدو للعيون سوى دوامةٍ من العذاب، بدأت معالم أمانيثا تلوح. المدينة التي كانت منذ وقت طويل كسرابٍ بعيد، بدأت تأخذ شكلاً حقيقيًا، أبراجها ترتفع كالحراب الموجهة نحو السماء، وأضواؤها الخافتة تلمع في الظلام كنجومٍ تائهة في قاع البحر.

رودين، التي كانت تستند على سور السفينة، تلمع عيناها بشيء أشبه بالأمل، ذلك الأمل الذي كان يكاد يغيب تحت وطأة العاصفة. أورفين وقف بجانبها، نظر إليها للحظة طويلة، ثم أدار نظره نحو أمانيثا التي كانت تقترب، كأنها قد أضاءت الطريق بعد طول ظلمة. همس بصوتٍ ضعيفٍ لكنه حازم:

"أمانيثا... ها قد عدنا."

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن