خطواتها كانت تتردد على أرضية الحجارة الباردة، كأنها عزفٌ شارد يحاول مقاومة الصمت القاسي الذي يخنق المكان. أوريليا، التي لم تنسَ هذا البرج منذ طفولتها، كانت الآن سجينةً له مرة أخرى، وكأن الزمن يعيدها قسرًا إلى كوابيسها.
الجدران الصامتة تطاردها، الأبواب المغلقة تخنق أنفاسها، والظلام الكثيف يبتلع حتى الشقوق الصغيرة التي كانت تسرب الحياة ذات يوم.وقفت عند نافذة صغيرة مغلقة بإحكام، تداعت يداها إلى الحاجز الحديدي الذي بدا كأنه يسخر من محاولاتها لاستنشاق الحرية. أغمضت عينيها، لكن الأفكار لم تتركها، تتدفق كأنهار جامحة لا تعرف التوقف: كيف حدث هذا؟ كنت على بعد خطوات من أمانيثا... لماذا ألقتني الأقدار مرة أخرى إلى ليبرتا؟
-----
ذاكرة اللقاء قبل سنتين
قبل عامين، حين وطأت قدماها القصر لأول مرة منذ طفولتها، شعرت أن كل زاوية فيه تحتفظ بصدى رفضها. وقفت أمام والدها الملك، ذلك الرجل الذي لم تكن تذكره إلا من قصص الكراهية التي تُروى همسًا. نظر إليها بنظرة حادة كالسيف، عيناه تحملان كل شيء عدا الحنان. لم تكن هناك كلمات ترحيب، فقط صمت بارد يحمل إدانةً غير معلنة.الملكة، التي كانت تجلس بجواره كتمثال جليدي، لم تكن أقل قسوة. كلماتها كانت كسياط تخترق روح أوريليا:
"لماذا عدتِ؟ هل كنتِ تظنين أننا كنا ننتظرك بشوق؟"لكن أكثر ما أثار القلق في أعماقها كان شقيقها أليكسيوس. وقف في الظلال، مراقبًا بصمت، وعلى شفتيه ابتسامة لا تعرف الرحمة. تلك الابتسامة التي جعلت الدم يتجمد في عروقها. لماذا كذب على والده بشأن وجودها في المنفى؟ لماذا أخفى حقيقتها طوال هذه السنين؟ وماذا يريد الآن؟
---
منذ لحظة عودتها إلى القصر، أُحكمت الأصفاد حول روحها قبل جسدها. سوارٌ صنعه أليكسيوس بنفسه قيّد قواها السحرية بالكامل. لم يكن مجرد قطعة من المعدن؛ كان ينبض بطاقة شقيقها نفسه، ثقيلًا كأنه يحمل عبئًا من النوايا السيئة.
حاولت أوريليا في البداية أن تقاوم، لكن صورة روز وإيلاريوس لم تفارق خيالها. إن تصرفت برعونة، فقد يدفعان الثمن. تراجعت، رغم أن كرامتها كانت تصرخ.أُعيدت إلى البرج الذي قضت فيه طفولتها، لكنه الآن بدا أكثر وحشية. كان الظلام فيه كائنًا حيًا، يتحرك في الزوايا ويهمس باليأس. النوافذ أغلقت بإحكام، والوقت فقد معناه؛ لم تعد تفرق بين النهار والليل، كأنها عالقة في فراغ أبدي.
ورغم هذا السجن، كانت تشعر بشيء آخر، شيء ينبض تحت السطح. السوار الذي يلتف حول معصمها لم يمنعها من الإحساس بالطاقة السحرية التي تغمر البرج. دوائر محفورة في الجدران، خطوط خفية تمتد تحت الأرض. شعرت وكأن البرج نفسه يتحدث إليها بلغة لم تفهمها بعد.
جلست أوريليا على الأرض الباردة، تضم ركبتيها إلى صدرها. عقلها كان يموج بأسئلة لا تنتهي: ما الذي يريده أليكسيوس؟ لماذا كذب على والده؟ لماذا أعادني الآن؟
كان أليكسيوس يزور البرج أحيانًا. لم يكن يأتي للإجابة عن أسئلتها، بل ليجلس أمامها بصمت غامض. كانت نظراته كالسكاكين، تراقب كل تفصيلة فيها، وكأنها لغز يحاول حله.وفي كل مرة يغادر، كانت تشعر أن البرج يزداد ضيقًا عليها. لكنه، رغم كل شيء، لم يكسرها.
رغم السجن، كانت أوريليا تراقب. الطاقة السحرية التي شعرت بها لم تكن عشوائية؛ كانت منظمة، كأنها شبكة تمتد في البرج بأكمله.
"لن أسمح له بأن ينتصر،" تمتمت لنفسها، كلماتها تحمل وعدًا غير معلن. "إن كان يظن أنه سيكسرني، فهو لا يعرفني."رفعت رأسها، وفي عينيها بريق جديد. ربما كانت محاصرة الآن، لكنها كانت تعلم أن هذا البرج الذي شهد ضعفها ذات يوم، سيكون هذه المرة شاهدًا على انتصارها.
"ليون ، رودين أمي، أبي عالمي الجميل سأعود إليكم مهما كان الثمن "

أنت تقرأ
أمانيثا
Fantasíaفي عالم من الخيال، تجد رودين نفسها تواجه واقعها القاسي بعد معرفتها بمرضها وفقدان صديقتها العزيزة. تُخبرها الأسطورة عن "أمانيثا"، المدينة التي يُزعم أنها تحقق الأماني المدفونة. لكن هل هي حقاً مدينة الأماني، أم أن فيها أسراراً أعمق؟ تنطلق رودين في رحل...