ليلٌ هادئ كأن السماء تغفو بين أحضان الأرض. الحديقة الملكية تُحيطها الأشجار كحراسٍ صامتين، وأضواء النجوم ترسم ظلالًا متراقصة على الممرات المرصوفة. جلست رودين تحت شجرة بلوط عتيقة، تستمد هيبتها من قرونٍ مضت، تتأمل بحزنٍ انعكاس ماضيها في الحاضر. كان النسيم يحمل رائحة الأرض المبتلة بالرطوبة الصيفية، ينساب بهدوء بين الأغصان، لكنه لم يستطع أن يمحو ثقل الأفكار التي أثقلت صدرها.
تلوم نفسها بصمتٍ قاتل، كما لو أنها تقف على حافة هاوية لا ترى قاعها. (لو أنني لم أتبع تلك الرغبة الغريبة ودخلت البوابة المجهولة، لربما بقي هذا العالم الجميل كما كان. لكن الآن؟ يبدو أن كل شيء انكسر بسببي، لا لقد نذرت نفسي أن أنقذ ليفيانا لكن كيف أفعل هذا لا سحر لي هنا في هذا العالم السحري، ولا قوة لي ). رفعت عينيها إلى السماء، حيث النجوم تتلألأ كحبات لؤلؤ مبعثرة، بدت لها بعيدةً و غريبة ، مثل مشاعرها المختلطة بداخلها .
وفي لحظة شرودها تلك، شعرت بحركة بالقرب منها. التفتت بسرعة، وإذا بشخص يجلس بجانبها بهدوءٍ غريب. شهقت وهي تهمس بصوتٍ مرتعش:
"الملك؟!"قفزت واقفة، تنحني برهبة واحترام شديدين. لم تكن لتتصور أنها ستلتقي بالملك في هذا الوقت، لا سيما في مكانٍ كهذا. أشار إليها الملك بيده بثبات، يأمرها بهدوء لا يقبل الرفض:
"اجلسي."كانت نبرة صوته تحمل ثقلًا يفوق الكلمات. ترددت رودين، لكنها أطاعت على الفور، محاولةً تهدئة ارتباكها. جلست مجددًا، والرهبة تغمرها. كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها الملك عن قرب، ووجوده كان أشبه بظل جبلٍ عظيم، صامت لكنه لا يُقاوم. على عكس الملكة التي تحمل حنان الأم في عينيها، كان للملك هيبة القائد الذي تحمل على عاتقه عبء القرون.
قطع الصمت بصوت عميق، كأنه يخرج من قلب الجبال:
"أنتِ الفتاة التي أحضرها أورفين، أليس كذلك؟"ردت رودين متلعثمة، محاولًة ترتيب أفكارها:
"نعم... نعم، جلالتك. اسمي رودين."أومأ الملك برأسه، بينما كانت عيناه تحفران في أعماقها:
"أعرف. لقد بحثت عنك. لكنك... مجهولة الهوية."شعرت رودين بأن كلمات الملك كانت كالصاعقة، تضرب أرضها وتزلزلها. حاولت الدفاع عن نفسها، لكنها لم تجد الكلمات:
"جلالتك، أنا... أنا فقط..."قاطعها الملك بحركة من يده:
"لا يهمني من تكونين أو من أين أتيت. ما يهمني أنك أصبحتِ جزءًا من حياة أورفين. وهو يثق بك. وهذا أمر نادر بالنسبة له. لقد وصلني أنكِ تعلمين بما حدث للأميرة أوريليا."حدقت رودين فيه بدهشة، وكأن الأرض قد ابتلعتها للتو. كيف يمكن للملك أن يعلم؟ لم يكن من المفترض لأحد أن يعرف. كانت كلمات أورفين عن الأميرة أوريليا سرًا لا يتجاوز صدريهما، وها هو الملك يكشفه وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح.
ابتسم الملك بخفة، لكن عيناه بقيتا صارمتين:
"أنا ملك، يا رودين. لا شيء يخفى عني، لا سيما تحركات أورفين. هو يظن أنه يخفي عني الكثير، لكنه مخطئ."حاولت تبرير نفسها، بينما تزداد برودة أطرافها:
"أنا... لم أخبر أحدًا، جلالتك. أقسم بذلك."هز الملك رأسه بتفهم، لكنه أردف بهدوءٍ مخيف:
"أعلم. لو كنت فعلت، لما كنتِ على قيد الحياة الآن."شعرت رودين وكأن الحياة قد انسحبت من جسدها. كانت كلمات الملك تحمل وزنًا لم تتوقعه، وكأنها تُحاكم على جرمٍ لم تقترفه.
لكن نبرته خفتت قليلًا وهو يقول:
"لا تخافي. لم آتِ إلى هنا لأقتلك. بل أريد منك شيئًا."رفعت رأسها بتردد، تحدق فيه بعدم تصديق:
"تريد شيئًا مني؟"أومأ الملك بجدية، وأردف بثقل:
"أورفين متهور. يسير دائمًا خلف مشاعره، لا عقله. الآن، هو ماضٍ لإنقاذ ليفيانا. ولن يتوقف حتى لو كان ذلك على حساب حياته. أريدك أن تذهبي معه."بدت رودين مشدوهة، وقالت بصوت يرتعش من الحيرة:
"ألحق به؟ إلى أين؟"رد الملك بصوت هادئ كأنه يلقي بأمر لا يقبل النقاش:
"ليبرتا. إذا كنت أعرف أورفين جيدًا، وهو ما أفعله، فهو بالفعل في طريقه إليها. عليكِ اللحاق به فورًا."حاولت الاحتجاج بصوت مرتجف:
"لكن... جلالتك، أنا لا أملك قوى خاصة، ولا خبرة. كيف سأساعده في مغامرة خطرة كهذه؟"ابتسم الملك ابتسامة صغيرة، لكنها حملت تحذيرًا أشد من أي كلمة:
"ألم تأتي إلى هنا دون معرفة بما ينتظرك؟ ومع ذلك، مضيتِ في طريقك. الحياة لا تحتاج دائمًا إلى القوة الجسدية. الذكاء، الصبر، والحدس هي أدواتك. وستعرفين قيمتها حين يحين الوقت."ترددت للحظة ارادت سؤاله لم فعل كل هذا إذا كان يحب أطفاله إذا لم يدمرهم هكذا، ولكن من هي لتسأل هذا ، كتمت هذا بداخلها .
مع ذلك كلماته كانت كالشرارة التي أشعلت عزمها. وقفت بسرعة، وانحنت له احترامًا، وقالت بصوت يحمل قوة جديدة:
"سألحق به فورًا، جلالتك."راقبها الملك وهي تغادر بخطوات متسارعة نحو المجهول. وبينما اختفى ظلها بين أشجار الحديقة، أغمض الملك عينيه للحظة، كأنه يدعو أن يكون حدسه في مكانه . أما رودين، فكان الخوف يتصارع مع العزيمة داخلها ، لكنها كانت تعلم شيئًا واحدًا: أنها تود مرافقة أورفين ، مهما كان الثمن.
أنت تقرأ
أمانيثا
Fantasyفي عالم من الخيال، تجد رودين نفسها تواجه واقعها القاسي بعد معرفتها بمرضها وفقدان صديقتها العزيزة. تُخبرها الأسطورة عن "أمانيثا"، المدينة التي يُزعم أنها تحقق الأماني المدفونة. لكن هل هي حقاً مدينة الأماني، أم أن فيها أسراراً أعمق؟ تنطلق رودين في رحل...