بين ظلال الغابة

31 7 0
                                    


---

قضت رودين وأورفين يومين كاملين في الكوخ الصغير، مختبئين في أعماق الغابة التي احتضنتهما كحارس صامت لا يُهزم. كانت الأشجار الكثيفة تمتد كأنها جدران خضراء تعزل بينهما وبين العالم، تنثر حولهما هالة من الغموض والسكينة، وتُغرق المكان بجوٍّ ساحر ينبض بأسرار خفية. تسللت أشعة الشمس برفق بين الأوراق، تضيء الكوخ بأشعة ناعمة تتراقص على الجدران، تبعث في القلب دفءً وطمأنينة.

استيقظت رودين على صوت حفيف النار المتراقصة في المدفأة، ورائحة الخشب المحترق تعانق الهواء بنعومة، فتغمرها بشعور بالأمان وسط هذا العالم البعيد. أخذت نفسًا عميقًا، وأغمضت عينيها، مستمتعة بلحظة نادرة من السكون. فتحت عينيها ببطء لترى أورفين أمامها، يُعد شيئًا على النار، وعيناه تلمعان بنور الصباح.

قال أورفين بصوت خافت ينساب كصدى عميق بين أصداء الغابة: "صباح الخير، آنستي." كانت ابتسامته الدافئة تنير وجهه، كأنها شعاع يشق طريقه إلى قلبها، ليوقظ فيها أحلامًا نسيتها منذ زمن.

ابتسمت بخجل وردت بصوت ناعم: "صباح الخير." شعرت بشيء من الامتنان يتسلل إلى داخلها، وكأن ابتسامته أضاءت زاوية معتمة في روحها.

على مدار اليومين التاليين، تقاسما لحظات عفوية تُنير وحدتهما. كان أورفين يأخذها في جولات قصيرة بين الأشجار، يُعرّفها على أسرار الطبيعة، ويُريها الأعشاب الصالحة للأكل والفواكه البرية. كلما تذوّقت التوت البري، شعرت بانتعاش جديد في قلبها، وكأن الحياة تعود لتنبض فيها. كانت ضحكاتها تتناثر كنسائم رقيقة بين الأشجار، تضفي على اللحظات سحرًا فريدًا.

في إحدى جولاتهم، التفتت إلى أورفين وهي تراه يجمع الأعشاب، فسألته: "أراك تجمع الأعشاب كثيرًا... هل أنت معالج بالأعشاب؟"

ضحك برفق وقال: "لا، لكني أتعلم القليل. هذه العشبة، مثلاً، تخفف الألم وتمنح بعض الراحة لمن يعانون من الأمراض المزمنة." أمسك بعشبة صغيرة ذات أوراق ناعمة، وناولها إياها، وصوته يحمل نبرة من الشفقة والتعاطف.

شعرت رودين بوخزة في قلبها، عندما عادت إليها ذكرى مرضها الذي أفقدها الأمل في الشفاء. كانت كلمات الطبيب ترنّ في ذهنها حين قال لها إن مرضها قد وصل إلى مرحلة لا علاج لها. تأملت العشبة بعيون شاردة، كأنها تبحث عن أمل في شيء هش كهذا.

لكن الليل كان يحمل معها خوفًا جديدًا، إذ كانت أصوات الفرسان تتردد بين أغصان الغابة، بحثًا عن أورفين. في كل مرة تسمع فيها وقع أقدامهم البعيدة، كان الخوف يتسلل إلى أعماقها، ويعيد إلى ذهنها ذكرى صديقتها ليلى. همست لنفسها بصوت شجي: "ليلى، لو كنتِ هنا، لكانت الأمور أفضل بكثير..." كانت تشتاق إلى حضور ليلى الباسم، وكأن عناقها الدافئ كان سيخفف عنها عبء الوحدة والمخاطر.

في الليلة الأخيرة التي قضتها في الكوخ، جلست هي وأورفين قرب المدفأة يحتسيان مشروب النعناع الدافئ الذي صنعه. كانت الأجواء هادئة ومريحة، لكن في أعماقها كانت مشاعر القلق والتردد تتصارع، تشعر برغبة في الهرب والبحث عن بداية جديدة، رغم غموض ما ينتظرها.

قال أورفين بصوت خافت، كأنه يخشى أن يكسر سحر اللحظة: "غدًا سأعود إلى أمانيثا. هل قررتِ ما ستفعلين، رودين؟" كانت عيناه مليئتين بالتفهم، كأنهما يفتحان لها بابًا إلى عالم جديد.

أجابت بصوت مثقل بالشك: "بصراحة، لا أعلم. جئت إلى هنا بحثًا عن مدينة الأماني كما قيل لي، لكني وجدت شيئًا آخر... لا أعلم كيف أعود، مدينتي بعيدة وكأنني فقدت طريق العودة."

ابتسم أورفين وقال بنبرة مطمئنة: "أعتذر إن كنت قد خيبت آمالك، لكن أمانيثا مكان ساحر حقًا... ربما تجدين فيها شيئًا لم تتوقعيه، قد يكون هناك ما يضيء لك الطريق."

ابتسمت رودين، وكأن كلماته نسجت في داخلها خيطًا جديدًا من الشجاعة والأمل، وقالت: "في الواقع، لا أرغب بالعودة إلى منزلي الآن، ولن أمانع اكتشاف شيء جديد."

تبادلا الابتسامات، وتألقت عيونهما بوهجٍ هادئ، وكأن النار التي تشتعل أمامهما لم تكن فقط نار المدفأة، بل شعلة أمل تضيء في أعماقهما، وتفتح لهما طريقًا نحو غدٍ ما زال يختبئ بين أسرار الغابة.

---

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن