غربة الروح

13 3 0
                                    

مرّ أسبوع، ورودين ما زالت حبيسة جدران المشفى، أسيرة بين واقعٍ ثقيل وذكريات تشتعل في أعماقها كجمرةٍ لا تنطفئ. في كل محاولة للهرب من هذا المكان الرمادي، يعيدها الأطباء إلى سريرها، يُغرقونها بمزيد من الأدوية التي تثقل روحها أكثر من جسدها. جلست أمام المرآة، تحدّق في وجهها الشاحب، عيناها تبحثان في ملامحها عن حقيقة ضائعة، عن هويةٍ لم تعد واثقة من وجودها. ما زالت كلمات والدها تتردد في أذنيها، كصدى بعيد يرفض أن يخفت:
"وجدناكِ بعد عشرة أيام من ذهابك إلى منزل ليلى... كنتِ ملقاة على حافة الطريق. غبتِ عن الوعي شهرين كاملين."

قطع صوت الطبيبة النفسية حبل أفكارها، بنبرة هادئة، ناعمة كنسيمٍ يحاول التسلل إلى روحٍ موصدة:
"رودين... هل أنتِ معي؟"

همست رودين، وكأنها تحادث الفراغ، صوتها يترنح بين الواقع والوهم:
"لا أعلم."

ابتسمت الطبيبة ابتسامة واثقة، كمن يمدّ يده إلى قارب يتمايل وسط بحرٍ مضطرب:
"أعلم أن ما مررتِ به كان صعبًا... ولكن، هل تودّين مشاركتي بما حدث؟ أنا هنا لأساعدك، رودين."

رفعت رودين عينيها، شاردة كأنها تنظر من خلال الطبيبة إلى مكانٍ آخر، زمنٍ آخر:
"حتى أنا لا أعرف... لكن كل شيء كان حقيقيًا. لا يمكن أن يكون مجرد وهم."

أومأت الطبيبة بهدوء، كأنها تزن كلماتها بعناية:
"العقل، رودين... هو أعقد أجزاء الإنسان، وأروعها. أحيانًا، يحاول حمايتنا من الألم بطريقة غريبة... يخلق ذكريات بديلة، أحلامًا نختبئ فيها. ربما ما عشتيه كان مجرد حلم يقيكِ من صدمة."

انفجرت رودين، صوتها يرتعش، كأنها تدافع عن آخر ما تبقى من كيانها:
"لا! لم يكن حلمًا! كل شيء كان حقيقيًا... أورفين... أول من منحني الأمان. لم أكن أعرف معنى هذه المشاعر، لكنه جعلني أفهمها. أحببته... من اللحظة الأولى. كلماته، نظراته... كانت حقيقية. أشتاق إليه... أريد رؤيته، أريدهم جميعًا. لقد رحلوا أمام عينيّ ولم أستطع فعل شيء... كنت عبئًا عليهم. أورفين... اشتقت إليك."

تركت الدموع وجنتيها كجدولٍ ينساب بلا توقف، والطبيبة تراقبها بصمت، تمنحها مساحةً للبكاء، تعرف أن الكلمات تُبنى من بين
شظايا الألم.

----
دخلت والدتها الغرفة، تحمل صينية طعام.
ابتسمت بحنان ممزوج بأسى لا يخفى:
"رودين، حبيبتي... تناولي بعض الطعام. صحتك تتدهور."

أدارت رودين وجهها، صوتها هامس، يطفو على حافة الهاوية:
"لا أريد."

قالت والدتها برجاء، عيناها غارقتان في دموعٍ لم تجد طريقها بعد:
"ابنتي، العلاج يحتاج قوة. عليكِ أن تأكلي."

رفعت رودين عينيها، صوتها مختنق، كأن الكلمات تخنقها:
"لا أريد العلاج."

حاولت والدتها أن تتماسك، بصوتٍ يرتجف:
"لا تتحدّثي هكذا... حبيبتي، ماذا حدث لكِ؟"

أغمضت رودين عينيها، كأنها تطلب من العالم أن يتوقف:
"أريد أن أكون وحدي... الآن."

تنهدت والدتها، ثم استدارت لتغادر. لكن قبل أن تخرج، همست رودين فجأة:
"أمي... أين الملابس التي كنت أرتديها؟"

توقفت والدتها، نظرت إليها بدهشة:
"تخلصنا منها... كانت بالية."

همست رودين، بصوتٍ مبحوح:
"والميدالية؟... كانت هناك ميدالية، عليها رموز... أين هي؟"

هزّت والدتها رأسها بحيرة:
"ميدالية؟ لم يخبرني أحد عنها. سأبحث إذا أردتِ."

أشاحت رودين بنظراتها، كأنها ترفض حتى الأمل:
"لا داعي."

راقبتها والدتها بحزنٍ يعتصر قلبها، تتمنى لو تستطيع أن تملأ الفراغ الذي ينخر روح ابنتها. اقتربت منها، همست بحنانٍ يائس:
"أنا هنا... إذا أردتِ التحدث، سأكون دائما بجانبك."

نظرت رودين إليها بنظرة غريبة، كأنها تنظر إلى شخصٍ لم تعد تعرفه:
(من هذه المرأة؟ هل يمكن أن تكون أمي؟)

ظلّت تحدق في الفراغ، كل شيء صار بلا معنى. أمانيثا... تلك المدينة التي لم تعد تعرف إن كانت حقيقة أم سرابًا. دفء غايا، طبيبها المثابر جالينوس، حنان جوليا و لورينا ، وضحكات ليفيانا... وأورفين. مجرّد ذكراه جعل قلبها ينقبض، ودموعها تنهمر بلا توقف.

همست بصوتٍ مبحوح، كأنها تستجدي الغائبين:
"أورفين... أين أنت؟ لماذا رحلت؟ أريد رؤيتك... حتى آخر كلماتك لم أسمعها."

غطّت وجهها بيديها، وبكت بحرقة، كأن دموعها تحاول أن تغسل ألمًا لا ينتهي.

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن