قيود التاج

10 3 0
                                    

جلست رودين أمام طاولة الطعام في غرفتها، تحدق في الأطباق الفاخرة بلا مبالاة، وكأن الطعم فقد معناه أمامها. لاحظت لورينا، ملامح سيدتها الحائرة، فتقدمت بخطوات مترددة وسألت:
"ألّا يعجبك الطعام يا آنستي؟"

أجابت رودين بصوت خافت، بالكاد يُسمع:
"لا، لكن... لا شهية لي، لورينا. أتعلمين من جاء اليوم؟"

ردت لورينا، وهي تحاول تفادي القلق في عيني سيدتها:
"سمعت أن مبعوثًا من ليبرتا وصل إلى المملكة. لعله جاء لمناقشة تلك الحادثة الغريبة."

أومأت رودين برأسها وكأنها تفهم، لكنها لم تعلق. استدارت ببطء نحو النافذة، ثم قالت:
"لورينا، لا رغبة لي في الأكل، من فضلك يمكنك أخذ الطعام."

ترددت لورينا للحظة، إذ لم يبدُ لرودين أنها بخير. لكن نظرة الحيرة والانكسار على وجهها منعتها من الاعتراض، فاكتفت بأخذ الأطباق، ثم انسحبت بصمت.

بعد مغادرة لورينا، بدأت رودين تمشي في الغرفة بتوتر يشبه عقارب ساعة فقدت انتظامها. شعور غامض وثقيل كان يضغط على صدرها، وكأن غيمة سوداء توشك أن تمطر فوق هذا العالم الجميل. فجأة، انفتح الباب، ودخل أورفين بوجه اختلط فيه الحزن والغضب. ما إن رأته حتى ركضت نحوه بخطوات قلقة:
"أورفين! ما بك؟ ظننت أني لن أراك قريبًا."

لم يُجبها فورًا، بل حدّق بها بنظرات أثقلتها الكآبة، ثم ضحك بمرارة قائلاً:
"يبدو أني في كل مرة آتي إلى هنا، أحمل معي أخبارًا سيئة. لا أدري لماذا تتبادرين لذهني كأول شخص أود أن أفرغ قلبي أمامه."

زاد قلق رودين، فتشبثت بذراعه وهي تسأله:
"أورفين، ما الذي حدث؟ هل أصاب المملكة مكروه؟"

تنهد بعمق، ثم قال بصوت متهدج:
"أبي، يا رودين... أبي يخطط لبيع أختي بأبشع طريقة ممكنة."

شهقت رودين بدهشة:
"الأميرة ليفيانا؟"

أومأ برأسه، ثم تابع:
"جاء مبعوث ليبرتا ليقدم طلب خطبة رسمي لأختي باسم ملكهم، الملك والد الأميرة أوريليا الراحلة."

ارتبكت رودين، ورفعت حاجبيها بدهشة:
"لكن... أليس كبيرًا جدًا في السن؟"

ابتسم أورفين بمرارة، وقال بصوت يشوبه القهر:
"كبير؟ بل عجوز طاعن في السن! لا أفهم ما الذي بينه وبين أبي حتى يرضخ لهذا القرار المشين."

نظرت رودين إليه بعينين متسعتين من الصدمة:
"وماذا عن الأميرة؟ ماذا ستفعل؟"

رد أورفين بحزن عميق:
"لا شيء، أبي أخبر المبعوث أنه سيرد بعد يومين. وأنا أعرف أبي جيدًا... نظرته وحدها كانت كافية لتخبرني أنه سيقبل بهذا القرار القذر."

مر اليومان ببطء قاتل. حاولت رودين خلالهما التحدث مع أورفين، لكنه بدا مشتتًا وغارقًا في أفكاره. وفي صباح اليوم الثالث، أُعلن رسميًا قبول الملك أمانيثا طلب الزواج. انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم، واجتمعت القاعة الكبرى في القصر لاستقبال مبعوث ليبرتا مرة أخرى لتأكيد الاتفاق.
دخل المبعوث القاعة الكبرى، يحمل بيده وثيقة مختومة بخاتم المملكة، خطواته واثقة كأنها تحمل ثقلاً يحكم على روح بريئة. خلفه تبعه حشد من الحاشية الملكية، وجوههم جامدة كأنهم مجرد ظلال للقرار.

في زاوية القاعة، وقف أورفين، عينيه ملتهبتين بالغضب المكبوت والحزن العميق. كل كلمة تُقال، كل ختم يُوضع، كان كطعنة في صدره. لم يستطع البقاء طويلاً، فغادر المكان بخطوات سريعة قبل أن تخونه مشاعره ويفعل ما قد يندم عليه لاحقًا.

شق طريقه نحو غرفة رودين، يدفعه شعور بالاختناق لا يستطيع الفكاك منه. فتح الباب بعنف، لكنه عندما التقت عيناه بعينيها، كسر صمته بصوت خافت ومتهدج:
"انتهى الأمر يا رودين... ليفيانا بيعت مثل قطعة شطرنج في لعبة سياسية قذرة. أنا عاجز... عاجز تمامًا عن إنقاذها."

تقدمت رودين نحوه بخطوات حذرة، وكأنها تخشى أن ينهار أمامها. وضعت يدها على كتفه، تبحث في كلماتها عن شيء يخفف وجعه، لكنها لم تجد سوى الصمت. نظرت إليه بعينيها المليئتين بالحزن، وفي قلبها اشتعلت نيران الأسئلة: ما جدوى العروش إن كانت تباع عليها أرواح الأبرياء؟

في تلك اللحظة، أدركت أن حتى هذا العالم الذي ظنته من صنيع الخيال ،و بكل ما فيه من عظمة مصطنعة، ليس إلا خشبة مسرح، تحرك أطماع الملوك فيه الدمى بخيوط لا ترحم. ومع ذلك، لم تستسلم لفكرة أن هذا هو القدر المحتوم.

انسابت منها همسة، بالكاد تُسمع، لكنها حملت وعدًا دفينًا:
"لن تكون هذه النهاية يا أورفين... ستشرق شمس العدالة يومًا ما."

رغم أن كلماتها كانت ناعمة، إلا أنها حملت في طياتها تصميمًا صلبًا، زرعت في صدر أورفين بذرة أمل صغيرة، كضوء خافت في نهاية نفق طويل.

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن