تحت جنح الليل، خطت رودين بهدوء نحو جناح الأميرة ليفيانا بخطوات كأنما تحسب المسافة بينها وبين الألم. طرقت الباب بخفة، وتوارى صوت الطرق خلف دقات قلبها المضطرب. فتحت الخادمة الباب، ورمقتها بنظرة مليئة بالأسى قبل أن تنسحب بصمت، تاركة رودين تدخل .كانت ليفيانا جالسة أمام مرآتها، لكنها لم تكن تنظر إلى نفسها كالأميرات. بل كانت تحدق في انعكاسها، كأنما تبحث عن فتاة أضحت سرابًا. شعرها الطويل ينساب حول كتفيها، وعينيها تشعان بالخواء.
"سموك..." نادت رودين، لكن صوتها بالكاد خرج.
رفعت ليفيانا عينيها ببطء نحوها. تلك النظرة، المثقلة بالخذلان والوجع، اخترقت قلب رودين.
"أنتِ هنا؟" همست ليفيانا بصوت يشبه الريح الهائمة. "ظننت أنكِ ستبتعدين... كالجميع."اقتربت رودين بخطوات ثابتة، رغم اهتزاز مشاعرها. جلست بجانبها، أمسكت بيدها، وقالت بلطف يشوبه ألم:
"كيف لي أن أبتعد وأنتِ تحملين هذا العبء وحدك؟"عند تلك الكلمات، انهار السد. انفجرت ليفيانا في بكاء مرير، شهقاتها تتردد في أرجاء الغرفة كأنها صدى لكسر لا يمكن إصلاحه. احتضنتها رودين بحنان، تشعر بارتعاش جسدها وكأن الألم قد تجسد أمامها.
بين شهقاتها، قالت ليفيانا بصوت مخنوق:
"حاولت يا رودين... حاولت أن أكون قوية، أن أجد مخرجًا. لكن أين المخرج من قفص صنعه أبي بيديه؟ كيف أهرب من صفقة بيع جردتني من أحلامي و شبابي ؟"شعرت رودين بمرارة العجز وهي تسمع كلماتها. كيف يمكنها أن تهوّن عليها، وهي ترى الظلم يحيط بهما من كل اتجاه؟
بعد لحظات من البكاء، مسحت ليفيانا دموعها، وقالت بصوت بالكاد تسمعه:
"ربما لن أراكِ ثانية. أردت فقط أن أقول... شكرًا، رودين. كنتِ لي أكثر من أخت. لحظاتنا كانت قليلة، لكنها كانت كافية لتجعلني أشعر بسعادة إمتلاك أخت . أرجوكِ... لا تتركي أورفين، احرصي على أن يجد السعادة التي لم أستطع أنا الوصول إليها."تجمدت الكلمات على شفتي رودين، رغبت في إخبارها أن ما بينها وبين أورفين وهم، كذبة بدت لهما في بدايتها بيضاء ، لكن لم يكن هذا وقت الحقيقة. أمسكت يدها بقوة وقالت بنبرة صارمة:
"سموكِ، هذه ليست النهاية. حتى لو ذهبتِ بعيدًا، لن أتوقف عن البحث عن طريقة لإعادتكِ. لن أترككِ تواجهين هذا القدر وحدكِ."ابتسمت ليفيانا، ابتسامة واهية لكنها مليئة بالامتنان، وقالت:
"أحيانًا، كلمات مثل هذه تكفي لتخفف وطأة الألم. شكرًا، رودين."---
مع أول خيوط الفجر، اصطف القصر بأسره عند البوابة الرئيسية. عربة ملكية تزينت بالورود البيضاء والحبال الذهبية، لكنها في أعين الجميع بدت كعربة نعي، تحمل أميرة بريئة إلى قدرها المجهول.
الملك أمانيثا وقف صامتًا بجانب الملكة، ملامحه كالصخر، جامدة لا تحمل سوى برود قراره. لكن عينيه لم تستطع إخفاء القلق العميق الذي ينبض في داخله. أما الملكة، فكانت غارقة في دموعها، تمسك بمنديلها وكأنها تمسك بآخر خيط من طفلتها التي تساق إلى ما وراء الأفق.
ولي العهد، وقف شاحب الوجه، عاجزًا حتى عن البكاء أو الغضب. كانت نظراته تحمل استسلامًا مخزيًا، وكأنما سحقته قرارات أبيه قبل أن تسحق ليفيانا.
خرجت ليفيانا بخطوات بطيئة، ترتدي فستانًا أحمر مزينًا بزخارف ذهبية، فوق رأسها حجاب أصفر في الأصل يرمز إلى الدفء، لكنه في هذه اللحظة بدا كالشعلة الأخيرة لشمعة تذوب ببطئ. ملامحها كانت كقناع جامد، لا حياة فيه، وعيناها لم تفارقا الأرض.
عندما وصلت إلى العربة، التفتت للحظة نحو الملكة التي اندفعت نحوها، ممسكة بيدها بلهفة أُم فقدت جزءًا من روحها. تمتمت الملكة بصوت مختنق:
"سامحيني... ابنتي، سامحيني لأنني لم أستطع أن أحميكِ."لم تقل ليفيانا شيئًا، فقط احتضنت والدتها بصمت، قبل أن يقترب الحراس وينزعوها برفق، كأنهم يخشون كسر ما تبقى من روحها.
في الخلف، وقفت رودين بجانب أورفين. كان صامتًا، لكنه أشبه بعاصفة تتهيأ للانفجار. همست له رودين:
"أورفين..."قاطعها بصوت خافت، كهمس ريح عبر غابة مهجورة:
"أبي يظن أن حبسي سيمنعني. لكنه لا يدرك أنني قررت. سأضع حدًا لملك ليبرتا، حتى لو كلفني ذلك الحرب. لم يعد هناك ما أخسره، يا رودين."نظرت إليه رودين مليًا، لم تقل له شيئًا.لكن عينيه كانتا تخبرانها أنه سيقف على خط النار، مهما كلفه الأمر.
صعدت ليفيانا إلى العربة، وأغلقت الأبواب خلفها. بدأت عجلات العربة بالدوران ببطء، تصاحبها شهقات الملكة ونحيب غايا، التي لم تستطع كبح دموعها. كان الصمت يخيم على الحراس والوزراء، لكنه كان صمتًا يصرخ بكل الخيبات الممكنة.
.
وقفت رودين تحدق في العربة التي تتلاشى شيئًا فشيئًا في الأفق، كأنها تحمل معها شطرًا من روحها. شعرت بغصة تخنق أنفاسها، مزيج مرير من الغضب والحزن. كانت دموعها تلمع في عينيها، لكنها أبت أن تنهمر. وسط ذلك الألم، بدأ شيء آخر يتشكل في أعماقها، كشرارة صغيرة وسط رماد الذكريات.
همست لنفسها بصوت بالكاد يُسمع، لكنه كان مثقلًا بوعد أشبه بالقدر:
"إذا كانت هذه الخيوط قد نسجت لتخدم أطماع الملوك، فسأكون اليد التي تقطعها. ربما... ربما لهذا جئت إلى هنا. لم أستطع إنقاذ ليلى من قدرها، وقد لا أستطيع النجاة من مصيري المحتوم، لكنني أقسم، إن كان لي أن أحقق شيئًا قبل النهاية، فسيكون إنقاذ ليفيانا. حتى لو كان هذا آخر ما أفعله في حياتي، فهذا هو الآن شغفي الدفين، ورغبتي التي لن أتخلى عنها."كانت كلماتها تحمل نبرة أشبه بنبوءة خفية، كأنها خاطبت الكون بأسره. شعرت في أعماقها أن الحكاية الحقيقية قد بدأت للتو.
![](https://img.wattpad.com/cover/381203597-288-k84802.jpg)
أنت تقرأ
أمانيثا
Fantasiفي عالم من الخيال، تجد رودين نفسها تواجه واقعها القاسي بعد معرفتها بمرضها وفقدان صديقتها العزيزة. تُخبرها الأسطورة عن "أمانيثا"، المدينة التي يُزعم أنها تحقق الأماني المدفونة. لكن هل هي حقاً مدينة الأماني، أم أن فيها أسراراً أعمق؟ تنطلق رودين في رحل...