لم يعد يتذكر المرات القليلة التى بكى فيها من قبل .. كان يجاهد طويلاً كى لا يبكى فى طفولته .. قامته الفارعة نسبة لأقرانه .. كانت تمنعه من ذلك .. كان يخجل من أن تنساب دموعه أمامهم مهما بلغت آلامه .. كان حراً صغيراً مزهواً بصلابته ..
أما الآن فهو عبد ليس إلا .. حقير ملقى فى غرفة مظلمة رطبة بإحدى زوايا القصر العتيق .. دموعه باتت الشئ الوحيد الذى يملكه ويحق له أن يذرفها كما يشاء .. سوف يهدرها كلها الآن عله يتخلص منها ..
أجهش بالبكاء غير عابئ بدموعه الملتهبة التى غمرت جراحه الدامية فزادتها اشتعالاً وألماً ..عندما جفت دموعه أخيراً كان قد اتخذ قراراً ....
نعم .. سيحيا عبداً لعام واحد .. واحد فقط .. سيعيش فيه العبودية ويستسيغها بكل مرارتها وآلامها .. سيتقبل الهزيمة بقلب رحب ما دامت جولته الأولى لا الأخيرة .. سيتحرر بعدها ويتفرغ للانتقام منهم جميعاً ..
ما تبقى من المنافسة سيكون ملكاً له .. فهو على يقين من فوزه فى حلبة المصارعة بلا منازع .. المهم هو أن يصل إليها فى الوقت المناسب .. بداخله بركان سوف يفجره ما أن يوضع فى مواجهة عادلة
الأيام التالية كانت ثمناً لا مفر من تسديده طالما أراد الخلاص من براثنهم .. ثمن حريته المطلقة .. بعدها لن يحيا أسيراً لأحد ..
يوماً ما .. وسوف يأتى .. سيملك نفسه كما وعدها ...
لم يكن فى حاجة إلى جهد يذكر لإتقان دوره الجديد .. الانكسار الذى لحق به إثر هزيمته الأخيرة أحنى رأسه مرغماً .. لم يعد يجرؤ على رفع عينيه ليواجهها كلما تحدثت إليه .. ولن يجرؤ أبداً حتى ينتقم منهم .. سيثأر لنفسه منها ومن خورشيد ومن شفيق .. من كل هؤلاء الذين عقدوا حياته وجعلوا منها سلسلة متصلة من عذاب لا يحتمل
حاول أن يبدو طبيعياً أمام استفزازها وسخريتها فى صباح اليوم التالى .. فما أن رأته حتى ابتسمت فى مرح وهى تتأمل وجهه قائلة :
- بصمتى فوق وجهك أكثر من رائعة .. خدوشى منحتك المزيد من الوحشية والشراسة
غمغم فى لامبالاة أدهشته قبل أن تدهشها :
- أشكرك يا سيدتى
التفتت إلى خورشيد وابتسمت فى رضا بينما تعلقت نظرات الأخير بوجه باسل الذى أحنى رأسه أرضاً متصنعاً المزيد من الخضوع والطاعة .. تمثيله متقن ربما لطفلة مثلها .. إن كان استطاع أن يخدعها فهو لن يخدعه .. طريقته الجديدة فى الحديث وتهذيبه المفرط لا يمكن أن يكون حقيقياً .. العناد الذى استشعره فيه مسبقاً من المحال أن يضمحل بهذه السرعة ..
من خبرته فى الحكم على البشر يستطيع أن يقسم بأن هذا العملاق يضمر لها شراً .. ما أقسى أن يخشى عليها حتى من حارسها ..!
ولكن لا بأس .. إن كان هذا المغفل يعتقد نفسه ذكياً فذلك لكونه لا يعرف بعد من هو خورشيد .. ولا يعرف كيف يمكنه أن يحمى مقتنياته النفيسة .. ونانا أغلى مقتنياته ..
راح يراقبه صامتاً وهو يتولى خدمتها فى تملق أزعجه بقدر ما أرضى غرورها الساذج .. قال أخيراً وهو يغادر المائدة بصبر نافذ :
- نانا .. أريدك فى غرفتى
نهضت فى دهشة لتلحق به عندما هتف باسل فى مزيد من التملق :
- هل أتبعك يا سيدتى ؟
استدار إليه خورشيد فى حدة قائلاً :
- كلا .. ابق أنت هنا .. وحذار أن تقترب من غرفتى أو غرفتها دون أن أطلب منك ذلك
أحنى رأسه فى استسلام زاد خورشيد ضجراً وهو يدفع نانا لتتقدمه .. وما أن اختفيا عن عينيه حتى ابتسم هازئاً .. أيعقل أن يكون ذلك الكهل المراهق قد شعر بالغيرة من أجلها ..؟
لماذا لا يريده أن يقترب من الغرفة .. ؟
ربما لا يريده أن يستمع لتأوهات النشوة المصطنعة التى تطلقها هذه الغانية القذرة لتوهمه برجولته الزائفة .. هذا المتصابى الوقح أسير المنشطات ..!
فى غرفته وقف يتطلع إليها طويلاً قبل أن يذرع الأرضية ذهاباً وإياباً .. لا يرغب فى إخافتها ولكن لابد من تحذيرها منه حتى تحترس له .. ابتسم عندما أقتربت لتحيط عنقه فى دلال قائلة :
- حبيبى .. ماذا حدث .. تبدو قلقاً ؟!
تنهد فى حيرة قبل أن يتطلع إلى وجهها الذى يعشقه ويطبع على جبهتها قبلة حملت كل الحنان الذى يملكه قائلاً :
- فقط .. أرى أنكِ صدقت الخضوع الزائف لذلك العملاق الأبله
- لمَ لا يكون قد تغير بالفعل ؟
- مستحيل ..
عضت على شفتيها وهى تبتعد عنه وقد انتقل شيئاً من قلقه إليها .. يبدو واثقاً .. وهى تثق فى حكمه دائماً .. خورشيد لا يخطئ أبداً .. خبايا البشر بالنسبة له كتب مفتوحة ولغة يتقنها .. خلق للزعامة والتفرد بشهادة كل من عملوا معه ووقعوا فى أسر عقله وأفكاره الاستثنائية ..
قالت بعد فترة صمت :
- هل تخشى أن يقتلنى لينتقم منى ؟
- لن أسمح له بذلك .. تأكدى بأننى سأقتله قبل حتى أن يفكر فى الأمر
- لمَ لا تطرده ما دمت لا تثق به ؟
- لأننى اكتشفت فيه غباءً يشفع له .. سأستغله لصالحنا فى الوقت المناسب ..
- لم أعد أفهمك ..!
ابتسم ليخفف من اضطرابها وأمسك بكتفيها قائلاً :
- من يتغاض عن كبريائه لينقذ خادمة وعم عجوز .. يمكنه أن يضحى بحياته أيضاً فى سبيل واجبه إذا اقتضى الأمر ..
- وما المطلوب منى إذاً ؟
- كل ما أريده منكِ هو أن تكونى حريصة فى تعاملك معه مهما أظهر لكِ من ولاء .. ولا تجزعى .. تأكدى بأن كل الخيوط فى يدى كالعادة
أنت تقرأ
فى قبضتى .. جائزة كتارا 2019 كاملة
Romanceتطلع إلى نفسه في المرآة ساخطاً : ما جدوى كل هذه العضلات المفتولة إن كانت المرأة الوحيدة التي يريدها لا ترى فيه رجلاً ..؟!