الفصل الثاني والعشرون

561 11 148
                                    

الفصل الثاني والعشرون

الفرح يطرق بابك بنفس الطريقة التي يغادر بها، لا عليك هناك قانون يُجبرنا على تصديق مقولة "مغادرة الفرح أسرع من قدومه" لكن يبقى إصرارك هو الهدف الأهم في الحفاظ عليه لمدة أطول.
وقف أمام المرآة بسعادة رسمت خطوطها على محياه بتملك، لا يصدق أنه بعد بضع ساعات ستكون مَن تمناها زوجته قبل حبيبته بين أحضانه، قلبه يقفز من الفرحة لقرب إرساء سفينته على ضفاف فؤادها، روحه ترقص أملًا في مرور تلك الدقائق حتى يذهب إليها لتشارك روحها بفرحته أما عقله فأبدع في رسم لوحة لحياتهما معًا يكون حبهما كالشمس تنيره بالبهجة، صخبهما كالقمر ينير العتمة، حديثهما موسيقى كلاسيكية توافق بين إيقاعهما ليندمجا، هي خلقت من ضلعه وبعد قليل من الوقت ستكون بالقرب من قلبه حيث مكانها الطبيعي.
لازال يتذكر بكونهما غرباء أول أمس كل منهما بطريق موازي للآخر، أمس تلاقت طرقهما واليوم ستكون ملكه أما الغد ستشاطره بكل شيء حتى أنفاسه.
دقات على باب الغرفة أيقظته من ذكرياته الحالمة ليسمح للطارق بالدلوف والذي لم يكن سوى والده وبعض من أصدقائه المقربين، اقترب منه أباه ليحتضنه بحنان مع دموع تلألأت في عينيه ليقول غيث اندهاش
- لِم البكاء أبي؟
تنهد ثم أخبره بنبرة مُقرة
- وجب عليك الفرح فاليوم سيزداد أفراد أسرتنا الصغيرة فرد آخر.
أطلق والده رأسه للأسفل بحزن ليردف بعدها بحنان
- أرادت رؤيتك بيوم عرسك بل وتشاركك إياه لكن القدر له رأي آخر.
وهي ضمير مستتر عائد على والدته الراحلة، حاول تجاوز الأمر لكنه لم يستطع ليمرر يده على صفحة وجهه بألم تبعه قوله المتسائل
- حسنـًا سيدي ما رأيك برابطة العنق هذه.
عدَّل من وضعيتها بضجر حتى يتنفس بصورة أكثر راحة ليخبر والده بعدها بتبرير
- تخنقني وملامح وجهي توشي بذلك.
قال كلمته الأخيرة بنبرة هازئة ليقول أحد أصدقائه بسخرية عله يخفف من وطأة الموقف حولهما
- وجب عليك الاعتياد غيث فبعد لحظات ستجد مَن تحاصرك بنظراتها وتجادلك بلسانها كما أن ملامح وجهك توشي بالسعادة لا شيء آخر.
صاحب قوله غمزة من طرف عينه بتسلية ليبادله غيث بنظرات أكثر استخفافًا قبل أن يتفوه بنبرة هازئة
- لن نتجادل باسل فقط دعك مني وتزوج أنت الآخر حتى نستمتع بصياحكما طوال الأسبوع.
نشله من جداله مع صديقه حركات والده ليزيل رابطة عنقه، أعطاها لصديق غيث تبع ذلك إخراج علبة من جيبه ليقول بهدوء مصاحبـًا قوله إظهار ما بداخلها
- ذات يوم اختارت والدتك رابطتي عنق إحداهما لي ارتديها بعرسك والأخرى لك لنفس المناسبة.
ولأول مرة منذ دخول والده ينتبه إلى تلك الرابطة التي تزين عنقه، يعلم بأنه امتنع عن ارتداء تلك الأشياء بعد وفاة والدته واليوم يتشاركا نفس الشيء من أكثر إمرأة أحباها في حياتهما.
وضعها له مصاحبـًا قوله بنبرة رخيمة
- والدتك اختارت خاصتي باللون الأسود.
أشار إلى رابطة عنقه ليستمع بعدها إلى صوت والده يُكمل بحنان
- وخاصتك باللون الأسود ممزوجًا ببعض الخطوط البيضاء والسبب واضح أنك جزء من حياتي بل نورها بوقت العتمة عزيزي.
قبَّل جبين والده بحنان عاجزًا عن الرد حامدًا الله على وجوده جواره، كل هذا لم يغب عن ناظري أصدقائه ليلتقطوا لهما العديد من الصور المميزة انتهت بصورة تجمعهم سويًا الوالد جالس على أحد المقاعد والشباب متناثرون حوله كحبات عقد تناثرت حباته بأنحاء الغرفة.
نظر غيث في ساعته ليردف بتوتر اجتاحه فجأة
- حان الوقت.
مباركات من أصدقائه ووالده انتهت بمعرفته لذهاب أقاربه إلى الفندق المقام به الحفل على أن يلتقي الجميع هناك.
أثناء هبوطهم السلم سأله أحد أصدقائه بحيرة
- لِم رفضت استئجار غرفة بالفندق لتكون بالقرب من عروسك!
- لا أحب تلك الأمور.
صمت قليلًا يُعدل من ثيابه ليُكمل بعدها بهدوء
- كل شيء في الفندق بحساب أما بالمنزل أستطيع فعل أي شيء دون أن يقول أحد "انتبه فالجميع يراقب تصرفاتك لذا احذر"
وجه نظراته إليه قبل ان يتساءل باستفهام
- أتفهم قصدي!
- لا تريد أن تكون مُحاصر من الآخرين.
قالها صديقه بإقرار ليكتفي غيث بتحريك رأسه علامة الموافقة ما لبث أن تذكر شئ ما ليُخبره بهدوء
- هذا ما أود قوله صديقي.
حرك كتفيه علامة اللامبالاة قبل أن يُكمل بنبرة هازئة
- هناك تصرفاتك تقاس بمدى رُقيك وأنا لا أريد أن أكون شريحة لحم يلوكها الجميع بفظاظة لأنهم خبراء في التذوق.
اختتم كلماته بغمزة ليضحك الجميع على طرافته قبل خروجهم من المنزل بأكمله ليصعد الأصدقاء بسيارة غيث والبعض الآخر في سيارة باسل تاركين أغراضهم في منزل غيث لوجودهم بجوار الوالد حتى يعود العروسان من رحلتهما بأمان.
على الجانب الآخر عند العروس...
وافقت على مضض التجهز بالفندق بعد إصرار خطيبها لضرورة وجودها، أما هو سيكون بانتظارها أمام الباب في الوقت المناسب حاملًا باقة ورود اختارها لها.
متوترة منذ الصباح وملامحها توشي بخوف من القادم بالرغم من وجود حياء جوارها إلا أنها لم تستطع التهوين وكأن وجودها يشبه عدمه لتحدثها بدبلوماسية أغلب الوقت كما أن شعورها بوجود خطب ما يحدث خلف ظهرها أرهق أعصابها حد النخاع.
ارتدت ثوب زفافها بمساعدة حياء ووضعت خبيرة التجميل اللمسات الأخيرة لتشبه إحدى أميرات ديزني بثوبها المصمم من التُل الأبيض ضيق من الصدر ويتسع بالتدريج من الخصر حتى نهايته، مزركش بنقوش مختلفة ما بين أوراق شجر ورود من الأسفل ليطابقها بعض النقوش المنثورة عند الخصر، الثوب ذو فتحة رقبة مثلثة لتزين منطقة الصدر بنقوشات الورود مع حمالات عريضة استكانت أعلى الذراع.
فضَّلت خبيرة التجميل رفع شعرها لأعلى ووضع تاج مرصع بحبات الكريستال اللامعة ليحتويه بتملك مع ترك بعض الخصلات تتحرك بعشوائية حول وجهها.
أما العروس بعد انتهاء الخبيرة أخذت تتأمل نفسها بالمرآة واستكانت عينيها على انعكاس العُقد الموضوع حول جيدها بتملك لتتذكر حينما أهداها السيد عمار والد غيث بعد حفل الخُطبة بقليل ليخبرها بأنه أعطاها أغلى ما يملك حيث أنه ينتمي لزوجته الراحلة وبالطبع طفله الذي سيصبح زوجها بعد فترة قصيرة.
تحسست العقد بأنامل مرتعشة لتضحك بخوف من القادم قبل قولها بنبرة سعيدة
- أعدك أمي بكون طفلك لن يكون سوى أغلى شخص بحياتي منذ الآن.
قاطع شرودها إخبار حياء بوجود المصور بالخارج يريد التقاط بعض الصور قبل حضور زوجها المستقبلي وبالرغم من اندهاشها إلا أنها وافقت على مضض.
دلف المصور وكذلك حياء وقبل بدئه في العمل صدح رنين هاتف حياء برقم خاص لتستئذن من كارمن قبل فتح الخط وخروجها من الغرفة بأكملها على أمل أن تعود السيدة رحمة والدة العروس لتكون جوارها، وضعت الهاتف على أذنها وقبل شروعها في الحديث أخبرها الطرف الآخر بفظاظة
- أردت رؤيتك في ثوب الزفاف سيدة حياء.
صمت قليلًا ينتظر رد فعلها قبل استكماله بشماتة
- لقد نسيت بأن خطيبك السابق تركك وقت العُرس ليتوفى والدك بسببك صغيرتي.
- مَن تكون!
قالتها بغضب ليقهقه باستمتاع ليقول بسخرية طفيفة
- قدرك.
كلمة مقتضبة أخبرها بها لتعقد حاجبيها بدهشة من حديثه لتستمع إلى صوته يخبرها باسترخاء
- لكن أردت إخبارك بشيء.
صمت لتقول بنفاذ صبر وأعصابها على وشك الانفجار غيظًا من حماقات يتفوه بها
- وما هو هذا الشيء سيد مجهول.
ضحك على لقبها الساخر لكنه لن يصمت عند هذا الحد ليُكمل باستفزاز
- أحببتُ اللقب صغيرتي لكن وجب عليك حفظه والاعتياد على نغمة صوتي في الأيام القادمة لأني سأكون كابوسك أنتِ ومن حولك.
أغلقت الهاتف دون كلمة إضافية، يكفي حديثه المثير للأعصاب، نظرت حولها لتجد بأنها قد ابتعدت كثيرًا عن غرفة العروس لتعود أدراجها مجددًا لترى هل هي بحاجة إلى شيء أم لا.
عند غيث كان التوتر قد تسرب إلى داخله بالبطيء وخاصة بعد محاولاته المتكررة للاتصال بكارمن دون نتيجة ومن ثم أُغلق الهاتف نهائيًا ليضرب عجلة القيادة بعنف، حاول أصدقائه تهدئته معللين بأن انشغالات العروس تُنسيها تناول الطعام ليس فقط ترك الهاتف بعيدًا عنها ليهدأ ظاهريـًا وداخله عاصفة تود الفتك بتلك البلهاء التي جعلت القلق ينهشه بالبطيء.
زاد من سرعة سيارته حتى يصل للفندق علَّ قلبه يطمئن بوجودها ولو قليلًا، يود فقط التأكد بأنها بخير ولا يريد شيء آخر.
بعد قطع مسافة لا بأس بها في زمن قليل هبط من السيارة برفقة أصدقائه ليعطي المفاتيح للعامل أمام الفندق قبل انتظاره وصول والده والبقية حتى لو على حساب قلبه.
وبمجرد وصولهم دلفوا للداخل حيث استقبلهم السيد علي وزوجته السيدة رحمة بحفاوة مع وجود بضع من أقاربهم، اتجه فقط والدي العروس، العريس ووالده للأعلى بينما ذهب البقية إلى قاعة الاحتفالات.
وأمام باب الغرفة تلاقت حياء معهم لتقوم بتهنئة الجميع قبل قولها باندهاش
- أليس من المفترض أن تكوني بالداخل سيدة رحمة!
نظرت لها رحمة باندهاش مماثل لتقول بهدوء
- لقد كنت بالأسفل في استقبال الضيوف صغيرتي وتركت لك مهمة الاعتناء بالعروس.

"من بين الرماد"- "أسماء رمضان"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن