الفصل الرابع

948 34 5
                                    

《الفصل الرابع》

في المشفى الخاص..
يقولون دائمـــًا أنه وقت محنتك أقرب طريق للشكوى الصلاة، أقصر طريق للفضفضة السجود، أجمل أصوات تلك الأصوات الخاشعة بأعذب آيات القرآن؛ تهدهد النفس، تريح القلب، دواء لكل داء، فرج لكل ضيق، فرح لكل حزن، سعادة بعد غيمة من الآلام.
صامتة من يراها للوهلة الأولى يظن بأنها تمثال متحجر لولا حركة بؤبؤيها لشك الجميع باحتمالية بقائها على قيد الحياة، خسرت الكثير من الوزن، ازداد شحوب وجهها بصورة ملحوظة، لـ دموعها حديث آخر، هاجرت عينيها تضامنـًا مع وجنتيها، تربت عليهما بنعومة فـ تلك الحياء لم تجد من يربت على كتفيها، يبثها الأمان، الطمأنينة مطلبها، أرادت أن يتفوه أحدهم بقول"كل شيء سيعود كما كان" لكنه لن يعود شيء فـ الأشياء المهشمة لن تعود كسابقتها وان عادت إما ستكون مشوهه مع أول مشكلة ستتفتت تاركةً مهمة الزمن بجرفها بعيدًا، أو تظل كما هي كلما اقترب أحدهم ازدادت جروحه من حدة ملمسها، الاختيار صعب والقرار معروف، لكن أولئك المشوشين فـ لنترك لهم فرصة تقرير المصير حتى لا يكونوا عبء بالمستقبل القريب.
على الناحية الأخرى، سمح الطبيب برؤية زوجها، حنون القلب هو، أخ رائع، أب حنون، زوج مثالي، عقلاني في تفكيره، هاديء في قراراته، قدم تتسابق لرؤيته وأخرى تخاف المواجهة، رفرف قلبها طربـًا حينما خطت أولى خطواتها تجاه غرفته، وكأن الفرحة لا تكتمل، سهام القدر خذلتها حينما أبصرت زوجها الحبيب على تلك الحالة، ليدمي قلبها حزنـًا على ما وصلت إليه الأمور، غرفة متوسطة الحجم، فراش بمنتصفها، أجهزة لا تعلم ماهيتها، صفير الجهاز المنتظم قطع صمت الغرفة، ليكونا سيمفونية هدوء يتخللها بعض الفوضى.
نائم على فراشه بإعياء، مرضه انعكس على صفحة وجهه بذبول، ظل عقلها يردد"متى فات العمر حتى لا أدرك تقدمه به" لفت نظرها قناع أكسجين على وجهه، اقتربت منه حتى صارت جواره، دموعها سقطت بغزارة على وجنتيها، طبعت قبلة طويلة على يده قبل جلوسها على كرسي بجوار الفراش، تألمت ملامحه المرهقة بحزن واضح، بشرة قمحية اتخذ الإرهاق منها مبلغه لتحكم سيطرتها المتعبة عليه، أنف لازال يحمل قناع الأكسجين بكبرياء، عيون مغلقة لكنه أورثهم لطفلته، شعر فضي إلا من بعض الخصلات السوداء التي تفرض وجودها بأنها لازالت هنا، ملأت رئتيها بالهواء قبل إحساسها باختناق يمزق داخلها، تحدثت بصوت خافت غلفه الحزن قبل ارتفاع وتيرته تدريجيـًا
- عزيزي خلدون، كم اشتقت لسماع صوتك بالصباح، رؤية بسمتك في المساء، حديثك العقلاني، تفكيرك الهاديء، بسمتك المطمئنة..
صمتت قليلًا تزيح بعض من دمعاتها الثائرة قبل قولها بحزن على ما آلت إليه الأمور
- أريدك جواري.
لتصمت ثانيةً قبل قولها بتقرير
- بدونك معتمة، شاحبة كزهرة امتنع صاحبها عن الاعتناء بها فتحولت بين ليلة وضحاها إلى أوراق تساقطت بخزي من مواجهة الحقيقة.
تنهدت بيأس قبل استئنافها قائلةً
- حقيقة أني بدونك ضعيفة تخشى مواجهة القدر بكافة مفاجأته.
تهاوت ولم يستطع صوتها على الخروج باتزان أكثر لتقول بحزن وصوت بكائها ارتفع ليشارك صفير الجهاز عويله
- غيابك كـ الصبار، أشواكه تهدم لحظات حياتي.
توقفت عن متابعة لومها حينما أمسك يدها يإعياء، انتبهت كافة حواسها لـ لمسته الحنون، ابتسمت بحزن أثر لمسته ليتحدث بحشرجة متألمة بعدما أزاح القناع قليلًا
- عزيزتي ديما انا بأفضل حال لذا لا داع لقلقك هذا، سأكون بخير لذا كوني قوية لأجلك ولأجل حياء.
لا تعلم ما أصابها لكن عند ذكر اسمها، انتفضت خلايا جسدها كالمصعوقة، التهبت عيناها بشر قبل قولها الغاضب
- تلك الفتاة أمقتها بحق، هي السبب فيما آلت إليه الأمور.
صبَّت جم غضبها عليها وقلبها يلعن تلك الساعة التي قررا إقامة زفافها سعلة خفيفة من خلدون حذرتها بأنه غير قادر على المجادلة  ليقول بعدها بإعياء
- حيائي.
ثم شرد في ذكرى بعيدة يوم أخبره الطبيب بعدم وجود عيب به أو زوجته لكن الانتظار هو الحل الأسلم ليقول بعدها بهدوء
- لطالما تمنيتها وعندما رزقني الله بها كنت أسعد شخص بالكون، عزيزتي..
قالها لتنتبه له بعدما شردت في حديثه ليتحدث بحذر وكأنه لا يريد أي شيء يعكر صفو حياة زوجته وابنته
- لا تنسي بأنها طفلتي، انا من علمتها قواعد الحياة، كبرت أمامي يومًا بعد يوم.
ثم ضغط على يدها برفق قبل قوله بهدوء
- غرستِ بها كل صفاتكِ الجميلة لذا لا تمقتيها، كما أنها ليست السبب في أي شيء، تعلمين عزيزتي بأني لم أوافق يومًا على تلك الزيجة لكن لأجل سعادة طفلتي وافقت ثم.....
قاطعته ديما بحزن
- لكنها سبب كل شيء، تدهور صحتك بسبب عِنادها قبل قرارها، حسنـًا هي طفلتك وانا من اعتنيت بها لكن هذا لا يمنع بأنها خاطئة.
وراحت ذاكرتها تحوم بين طيات الزمان خاصةً بعدما علمت بأمر زواج والدها ثانية من أخرى غير والدتها المتوفاة لتقرر السفر حيث موطن أمها حينما سنحت الفرصة خاصة بأنها قضت معظم فترات حياتها هناك غير عابئة بتوسلات والدها بالبقاء لكنها تقبلت أمر زواجه وتحاملت فـ اعتادت حتى أحبت زوجة أبيها، ذكراها الثانية يوم أخبرها والدها بضرورة الابتعاد عن صهيب فهو لا يرتاح له لكنها أخبرته بأنها تحبه وهو يبادلها الحب بأضعاف عشقها مع قرارها بأنها ستبقى في الفترة الراهنة حتى تنتهي أجازتها ليقاطع هو سيل أفكارها قبل قوله بحشرجة طفيفة
- لا تزيدي من هموم قلبي، فـ طاقته مستنزفة بالفعل وليس لديه القدرة على تحمل المزيد.
صوب نظارته نحوها قبل قوله برجاء
- أرجوك!! بعد قليل ستكون الجراحة، ولا أعلم احتمالية خروجي على قدمي......
قاطعته بالضغط على يده لتوقفه عن التفوه بالمزيد، دموعها ازدادت انهمارًا لمجرد تخيلها فقدانه لذا قالت بدون تردد " حتى يطمئن قلبه
- حسنـًا عزيزي، الحزن سأمحيه لكن عدني بأنك ستعود لنا.
- طفلتي أمانتك لا تؤذها بالحديث أو حتى النظرات حتى لا أنجرح.
تلك كانت آخر كلماته قبل خروجها من الغرفة، تأملت طفلتها بعيون ذابلة قبل السماح لها بالدخول، اتخذت موضعها كالسابق جالسة بيدها المصحف، عقلها يقرأ المزيد من آيات الله، قلبها تشبث بالدعاء أملًا في التخفيف عنه.
أما حياء، فقد أذن لها الطبيب بالدلوف أيضًا؛ تحقيقـًا لرغبة والدها قبل إخضاعه للجراحة، دلفت بهدوء، عكس صخب وجيبها، أنفاس مضطربة تتمنى لو كانت مكانه ولا يصيبه مكروه، استغفرت ربها كثيرًا قبل انحنائها لطبع قبلة هادئة على جبينه، سقطت دمعاتها على وجهه، فتح عينيه بإعياء قبل ابتسامة واهنة رسمت لأجلها، ثنت قدمها على الأرض لتكون بنفس المستوى، همست ببكاء
- أرجوك تقبل فداحة ذنبي.
قبَّلت يده قبل استئنافها قائلة
- اعتذر لك عما بدر مني، أبصرت الدنيا للمرة الأولى من نافذة عينيك، لم تبخل بشيء لأكون الأفضل لكني خذلتك، وما أقساه من شعور.
صمتت مجبرة حينما وضع والدها يده على ثغرها يمنعها التفوه بالمزيد لتقول من بين شهقاتها
- والدي، يـ أول حب بحياتي أرجوك سامحني.
قالت كلماتها الأخيرة وأجهشت بالبكاء، قطع نياط قلبه حزنها ذاك، فهي طفلته مهما فعلت لذا ربت على يدها بوهن قبل قوله بانهاك
- لا داعِ لاعتذارك فـ أنت طفلة خلدون، أخلاقي غرستها بـ طفولتكِ، لتزدهر في شبابكِ، أعلم بأنك تلومين نفسك على ذنب لم تقترفه يدك لذا لا تعتذرِ من كائن إلا إذا كان يستحق هكذا تعلمت وهكذا ستفعلين.
قال آخر كلماته بإقرار لتمسح وجنتؤها بحزن طفولي قبل قولها
- لكنك أسير تلك الحالة بسببي و....
- عزيزتي، تلك الحالة أمر محتوم لذا لا تضعي اللوم على عاتقك.
قالها خلدون بهدوء مقاطعًا إياها قبل ربته على يدها بحنان، استئنف حديثه قائلًا
- ألن تطربي أذني بكلمتك المحببة لقلبي؟!..
ابتسمت رغمًا عنها، عدة إيماءات من رأسها كانت جوابـًا لتقول بهدوء
- ألدوني كن قويـًا لأنك نكهة حياتي، وفي رواية أخرى خلدوني.
ابتسم بسعادة لسماعه لقبله المحبب منها هي، ربت على يدها قبل قوله
- سأظل ألدونك قبل خلدونك حيائي الصغيرة.
ابتسمت بحزن على ذلك اللقب المحبب له، قضت بعض الوقت برفقته قبل خروجها، ارتاحت قليلًا لكنها لن تسامح نفسها في حال حدوث مكروه له، الدنيا بكفة ووالدها بالأخرى، دعت الله كثيرًا رغبة في شفائه، فهو مصدر قوتها بالحياة.
..........................
في شركة الأغذية.
دلف أوار إلى الشركة بثقته المعهودة، ألقى نظرة شاملة على الموجودين بانتظاره، شرد قليلًا فيما مضى، لا ينكر بأن الأربع سنوات الماضية تكفلت بتغيير حياته، حائر بمسار حياته سواء أفضل أو أسوأ، متأكد فقط من شخصيته الجدية التي لم تكن موجودة سابقًا، ازداد هيبة وثقة بالنفس، داعب طيفها مخيلته ليبتسم بهدوء على ذكراها القريبة من قلبه بعيدة من حياته.
انفتح المصعد على مصرعيه معلنًا الانتهاء من مهمته، لاح على ثغره ابتسامة هادئة، فقبل دقائق كان بالأسفل، عجبـًا لتلك التكنولوجيا التي تسلبنا أعز لحظاتنا، وبخطوات رزينة سار تجاه مكتبه حتى بلغه، نظرة سريعة كانت من نصيب مساعدته قبل تخطيها والدلوف لمكتبه، تبعته بهدوء حاملة بيدها مفكرتها الصغيرة، وقفت أمامه ثاغرة أملًا في تدوين مايرغب به سيدها.
- مواعيد اليوم!
قالها أوار باقتضاب وعيناه لم تحد عن الأوراق أمامه، أخبرته بهدوء
- اجتماع في التاسعة صباحًا لمناقشة صفقة اللحوم، مقابلة مع السيد عامر في الثانية عشر ظهرًا، عشاء عمل في السابعة مساءًا فقط.
- جدولك مزدحم عزيزتي نيا.
قالها أوار بتذمر مرح بعدما ترك الأوراق جانبًا للعبث في بريده الإلكتروني، ابتسمت بهدوء لتحل أخرى عملية مكانها بعد قوله
- أحضري قهوتي أولًا، أوراق الصفقة لمراجعتها قبل الاجتماع.
صمت لحظات حينما وصل لمبتغاه قبل قوله بهدوء
- بالمختصر أي ورق بمكتبك تريدين التخلص منه أحضريه لي.
أومأت برأسها إيجابـًا قبل قولها بهدوء منتظرة القادم
- أوامر أخرى سيدي؟!
- حاليـًا لا.
قالها بعملية لتنصرف بهدوء رغبة في تحقيق أوامر رب عملها، لاح طيفها بمخيلته مرة أخرى، وضع يده على قلبه عله يخفف من وطأة دقاته، أيضـًا يطمئنه بقرب اللقاء، تنهد بحرارة قبل تفوهه بكلمات لا يعلم أيواسي بها قلبه الملكوم أم روحه الجريحة أو كلاهما معًا فهو بعبارة أخرى مشرد في حُرم عشقها.
- لا تقلق أيها الفارس النابض بالحياة، أعلم مقدار تعلقك بها لكن تلك رغبتها وانا لم أعارضها سابقًا ولن يحدث الآن، أعلم بأنك كالطير الجريح التي خانته رصاصات أحدهم، ليحرق داخله قبل إصابة خارجة، يتألم ليس لدنو أجله لكن بسبب الألم البطيء الفاتك لروحه قبل جسده.
نقر بهدوء على المكتب أمامه قبل قوله بألم من تراكم ذكريات ظن يومًا بأنها ستصبح أفضل
- جروح مُهلكة للروح ، مُدمية للجسد لن تتركها إلا بحلول الخراب، وتحويل تلك الروح إلى رماد..
تأمل ضحكاتها بإحدى الصور على حاسوبه الخاص قبل قوله بهدوء وعيناه لا تحيد عن وجهها
- أعدك بأنه لن يسكنك سواها، ستربت على قلبك يومًا وما عليك سوى الانتظار فهو العطش الذي يجاهد الصائم في الامتناع عنه، وباقتراب الآذان يهم بالارتواء عله يهدأ جسده الهائج بعد ثورته العنيفة على كافة خلايا جسده، لذا اصبر، أعدك في المرة المقبلة سترتدي واق للرصاص حتى لا تنزف روحك كعادتها وحينما يحين موعدك آذان قلبك ستكسر صوم عشقك معها دون قيود.
قال آخر كلماته وهو يدور حول نفسه مستخدمـًا مقعده في حرية التحرك وضحكاتها تتراقص على أوتار سمعه.
.........................
في مكتب التحقيقات بلندن.
- اعتذر عن المقاطعة، لكن تم الانتهاء من التشريح النهائي للجثة، والنتائج تشير....
صمتت فيولا قليلًا جاذبة كافة حواسهم فيما ستقوله، أشار لها أبيل بالاستمرار، ابتلعت ريقها بهدوء قبل نظرة رانسي الفاحصة لتعبيرات وجهها المشدودة، لذا رددت بهدوء عكس اهتزاز داخلها
- النتائج تشير بخضوعه لجراحة قبل قتله ببضعة أيام، سابقًا خمن معظمنا عن وجود ورم خبيث تم استئصاله لكن مع التشريح أكدت نظرتي بوجود نوع من السم بجسده.
- سم؟!
قالتها رانسي باستنكار مما تقوله الأخرى قبل قولها بتساؤل حذر من احتمالية سوء القادم عما هو أسوأ
- أي نوع سيتكفل بالعبث بداخله دون إدراكه؟!
"خاطئة" أرادت لو تصرخ بها في وجه فيولا لعدم تصديقها وجود سم قد يُنهي صاحبه هكذا وعقلها يصور لها غفلته في عدم شعوره بالصخب داخله، عدلت فيولا من نظارتها الطبية قبل قولها
- عند ذكر -Diamond dust- "تراب الماس" فـ تأكدي بعدم إحساسه سوى بالألم، بعض الحبوب لتروضه بوداعة قبل عودته بقوة ثانية، تناوله تراب مع طعام أو شراب ماهو إلا مرحلة أولية لفرض سيطرته بالجسد قبل تحوله لشظايا بداخله، تبدأ بتخريب كل ما تطاله مسببة الألم، بالأشعة كتلة خبيثة لكن للتحاليل رأي آخر، هذا السم موت بالبطيء لمتناوليه وما عليك سوى انتظار أجلك.
- لكن كيف يفعل المرء بآخر هكذا؟ أين الإنسانية؟
قالها أبيل بصدمة، بالرغم من طرق القتل البشعة بمعظم قضاياه لكنه لم يتخيل حدوث ذلك مع تلك الضحية بالأخص
- الانتقام عزيزي هو ما يقتل الإنسانية بداخلنا، يدمر كافة بتلات الحب بقلوبنا أملًا بزرع الشوك لذا لا داع لاندهاشك ذاك.
قالتها رانسي بهدوء قبل أن تظلم عيناها نصرًا لما حققته القضية، أما مسارها سيكون بين قبضة آخر دقائق بحياة القاتل المطلوب، أردفت بهدوء عكس سيمفونية الانتصار بداخلها
- المخضرم.
أومأ برأسه إيجابـًا قبل ذهابه لتنفيذ أمرها، بينما اتجهت إلى مكتبها وهي تدندن بشرود ويبدو بأنها على وشك "كش ملك" فعلاً قبل قولًا.
..................
في تلك البناية القابع بها الراديو.
ترجلت من سيارتها بحماس عكس الحزن الذي أثقل روحها، خذلتها الحياة مرارًا لتكون رافضة للقيود، اليوم رأت ماجعل بدنها يقشعر خوفًا من القادم، بمجرد تذكرها فرت دمعاتها من أسرهما، خذلتها يدها رافضة عدم وئدهن من مهدهن، لا تعلم كيف أخذتها قدمها لتجد نفسها أمام غرفة التسجيل، يبدو بأن عقلها المغيب قد ترك العنان لزمام قدمها قبل إغماءته الإجبارية، دون التفوه بحرف كانت تجلس على الكرسي المخصص لها، نظرات حائرة طغت على ملامح الكثير، أما القلة فلم يتأثروا كأنهم أحجار نقشت للعمل ضاربين المشاعر عرض الحائط، أشار لها منسق الصوت بالتحدث بعد إعداد اللازم، والاطمئنان عليها قبل البث المباشر، نظرت للورقة أمامها وهي تستنكر الموضوع بالرغم من تحمسها له في السابق، رددت بهدوء
- مرحبًا مستمعيني الكرام، أهلًا متابعيني من كل مكان على راديو اف ام تردد 129.1FM
أخذت نفسًا عميقـًا لظبط أنفاسها قبل قولها
- أود الاعتذار بشدة، اغفروا لي ذلتي، فاليوم استثنائي بكل المقاييس، سنتناقش حول موضوع لم يتم التطرق إليه ولم يكن ضمن ترشيحاتكم تلك المرة، لذا سامحوني، موضوع اليوم سيتم تأجيله للحلقة القادمة، وبالطبع ستكون المداخلات الهاتفية مباشرة هنا، أهديكم تلك الأغنية قبل بداية فقرتنا بعد العودة من فاصل قصير.
قالتها بهدوء قبل قطع البث، انطلق بجم غضبه إليها، كيف تتصرف هكذا دون إخبار أحدهم، لذا تحدث هادرًا
- كيف واتتكِ الجرأة بفصل البث قبل إعلامي؟
نظرت له باستخفاف عكس الغضب الحارق داخلها، انتفخت أوداجه غضبـًا من برودها بدلًا من الاعتذار، لذا تحدثت فاطيما بهدوء
- لِمَ الصخب حيال أمر لم يكن له جذور، كما أنه كيف واتتكَ الجرأة للتحدث معي هكذا.
حادت نظراتها بحثًا عن شيء ما وما إنه وجدته حتى التقطت بضعة مناديل ورقية قبل قولها بتهكم
- منسق الصوت أنت لا يحق لك معاتبتي على شيء حدث، فهمت!
بنظرات مستشاطة من كلماتها التي زادت الملح على الجرح، لذا قال بعصبية وكأنه ملَّ طفوليتها
- منسق الصوت لكن بدوني برنامجك لن يحقق رسالته أو حتى جزء ضئيل من نجاحه.
- برنامجي نجح بفضل الله أولًا، جهدي أفكاري وبالطبع مساندة الجميع لي لذا لا تعط الفرصة لمشكلات ليست لها قيمة بتعكير صفو حياتنا سيد منسق الصوت.
قالتها فاطيما بغضب ثم أدارت رأسها الناحية الأخرى، خرج كالإعصار حيث الكرسي المخصص له، أشار لها لتستكمل ما بدأته وعزمت على تنفيذ قرارها، بهدوء عكس ما يعتمل خلجات صدرها رددت بهدوء
- موضوع اليوم عنوانه'العنف' قد يعبس البعض، ويتشوق البعض الآخر لمعرفة أسرار تلك الكلمة، بداية هنا والنهاية عندكم لكنها ليست أي نهاية بل هي نهاية البداية، العنف كلمة بمجرد ذكرها فقط نشير إلى العنف الجسدي.
اعتصرت المناديل بين قبضتيها محاولة التحكم في رعشة يدها أو كمحاولة بائسة للتماسك لتُكمل حديثها قائلة
- العنف لو تحدثت عن ماهيته فإنه تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى، تشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات (مثل تدمير الممتلكات)، يعد أبسط مفهوم للعنف.
ضحكت بتهكم طفيف حينما وردتها رسالة على الصفحة الخاصة ببرنامجها قبل قولها بتوضيح
- لكن من وجهة نظري العنف ملخص في كلمتين، القوي والضعيف، أجل أنا قوي وصاحب نفوذ أدعسك لأنك في خانة الضعف، تشبه كثيرًا العلاقة بين النملة والإنسان، يحاربها كعدوته، لو وجد واحدة بمنزله فإنه يأخذ كافة احتياطاته للقضاء عليها وعلى سلالتها، عكس النملة، هذا منزلها أيضًا لكنها ضعيفة لذا لا تستطع الدفاع عنه، وإذا حاولت فالهلاك لها، أحيانــًا تهجم، لكنه هجوم مؤقت، أو بمعنى آخر هجوم مع وقف التنفيذ، لأنها مهما فعلت ستظل ضعيفة أمام الإنسان.
استرسلت حديثها قائلة
- العنف آفة تصيب العلاقة لتتأكلها بالبطيء لتكتشف تدميرها بعد فوات الأوان، مجتمعنا غابة القوي يأكل الضعيف، تخيل بأنك كثير الأذي لزوجتك أمام أبنائك، أبناؤك إما سيصبحوا مدمني العنف سواء مع بعضهم البعض، أو مع أقرانهم بالمدرسة، أو حتى مع زوجاتهم بالمستقبل، العنف مرفوض لكننا أبحنا لأنفسنا كل مرفوض تلذذًا به وتعلقـًا بسر رفضه وكأنه فاكهة محرمة تطردنا من النعيم إلى ملاذ الطغيان، العنف ممنوع يـ أمة محمد.
سكنت خلايا جسدها، هدأت أطرافها بعد ذاك الكم من الكلمات، تنفست علها تضبط أنفاسها الثائرة لكن كيف وخلايا جسدها لازالت تنتفض بسبب ذلك المشهد الذي وشم في ذاكرتها، استئنفت حديثها قائلة
- انتظروني بالحلقة القادمة مع الجزء الثاني من حلقة حياة بلا عنف غدًا بنفس الموعد، سؤال حلقة اليوم 'أنواع العنف، وكيف يتم منعه لمنع ظهور كوارث مستقبلًا!' سيتم استقبال آرائكم بعد انتهاء الحلقة.
أنهت برنامجها، وبدون كلمة أخرى غادرت المكان أملًا في طرد تلك الصورة البشعة التي رأتها قبل سويعات قليلة.
.......................
عودة مرة أخرى إلى مكتب التحقيقات..
جالسة أمامه باسترخاء، تعبيرات وجهها الهادئة لا تعكس الثورة الناشبة داخلها، أما هو، فـ تمكن منه القلق كحيوان مفترس نهش استقراره مزعزعًا عقيدته وجعله ضمن المشتبه بهم، حركة قدميه المتوترة أنبئت بوجود الكثير بجعبته لكن كل شيء قبل أوانه فاتر.
لم يختلف الحال كثيرًا عند أبيل، بنظرات شاملة تابع أدق تفاصيله، لا ينكر بكونه منتشيًا لقرب انتهاء القضية لكن حدسه أنبئه بأن تلك نقطة البداية لذا لا داع للقفز بفوهة البركان قبل معرفة المترتب عليه.
- للأسف سيدي، فقرة الصمت انتهت وأتت فقرة كشف الحقيقة.
صوتها كالطلقة، اخترقت سكون الليل بعد قتله بهدوء، رمقها بتوتر عكس القلق الناشب داخله، فـ تلك المحققة تستحق المركز الأول بالمراوغة واللعب بالكلمات، أخذ نفسـًا عميقـًا ينعش به رئتيه قبل الحديث
- كيف أستطيع خدمتك عزيزتي المحققة؟!
- فقط أخبرنا الحقيقة التي أخفيتها عنا قبل بضعة أيام!
قالها أبيل بعصبية طفيفة، ليبادره المخضرم بقوله
- سيدي، لا أعلم عن أي حقيقة تتحدث، فـ تلك المرة الأولى للقياكَ.
اضطرب داخلها قليلًا، زيارتهم السابقة لم تكن رسمية لذا فإنه يلاعبهم قبل ردها سمعت صوت أبيل من خلفها
- للأسف سيدي قيود حديثك كبلتك لتخبرنا بما في جعبتك.
تبع حديثه بوضع هاتفه أمام المخضرم على الطاولة، استمع الطبيب لصوته، خدع مجددًا من قبل المحققة ومساعدها، وبنظرات منتصرة أخبرته
- ألم تنته لعبة الإنكار سيدي؟!
حسنـًا للمرة الثانية يرفع لها القبعة احترامًا، لو كانت الظروف مختلفة لأسرع بعقد قرانها على ابنه، وبنظرات زائغة أخبرهم
- القتيل كان يعاني من شظايا بجسده، الأمر المحير بالنسبة لي، فالسم المسبب لتلك الحالة لا يوجد إلا في أماكن محددة، وبنسب محدودة نظرًا لخطورته، تطلب الأمر تدخل جراحي وبالفعل تم استئصال جزء منه، لكن التحاليل كان لها الرأي الأخير حول إحتمالية وجوده بجسم القتيل.
- هذا كل شيء!.
سؤال أكثر منه بجواب، أومأ الطبيب إيجابـًا قبل قوله
- أجل، لكن.......
كلمة كانت كفيلة لجذب كافة حواسهم ترقبًا لمعرفة المزيد، ردد بهدوء
- بالمرة الأخيرة كان متوترًا لدرجة تصيب النفس بالجنون، بسؤاله عن سبب توتره أخبرني بعصبية بأن الباحث يبتزه لعدم موافقته على القرض، لم أعلم عن أي باحث يتحدث لكنه غادر قبل معرفة المغزى وراء كلماته أو مَن المقصود.
- السيد أدريان.
قالها أبيل ورانسي بنفس الصوت، قبل قول أبيل
- تستطيع المغادرة الآن، لكنك شاهد بتلك القضية ليس هذا فقط بل أيضـًا أحد أركانها، سيتم استجوابك ثانية إذا اضطرنا الأمر، بإمكانك المغادرة الآن.
عقب مغادرة الطبيب المخضرم، وقف كلاهما أمام الآخر، ولازال الشك ينهش داخلهم، رددت رانسي بهدوء
' تلك المرة كنت البطل بحق، أهنئك على خطوة لم أكن أضعها في الحسبان لكنه غير مُلِم ببعض القوانين فآخر قد يرفع قضية انتهاكًا لخصوصيته وعدم وجود الإذن لذلك.
- واجبي لا أكثر عزيزتي المحققة.
قالها وهو يضع يده على صدره لينحني قليلًا قبل قوله بهدوء
- بالنسبة لحديثك فلو فعل ذلك فإنه سيضع نفسه في خانة السُذج لأن أمر التسجيل قد تم الموافقة عليه قبل الذهاب إليه مباشرة.
أومأت بإعجاب من خطواته الواثقة نحو الهدف ليقاطعها قوله بتساؤل
- الخطوة التالية!"
قالها أبيل بابتسامة هادئة لتجيبه رانسي بهدوء
- التحقيق مرة أخرى مع السيد أدريان، تلك مهمتي، أما أنت وجب عليك................
استمع لها بهدوء وعينيه تشع وهجـًا من كلماتها، أقسم داخله بأن تلك الـ رانسي تستحق كل نجاح، بالرغم من وجوده معها بالتحقيق إلا أنه لم يستطع التوصل لجزء من استنتاجاتها.
.........................
#من_بين_الرماد
#أسماء_رمضان

"من بين الرماد"- "أسماء رمضان"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن