الفصل التاسع

459 16 0
                                    

《الفصل التاسع》

ما بين سهم بداية ومستقر نهاية عدة حبكات لم يقصها الكاتب بل استثار بها لنفسه لتصبح الأحداث مبهمة رغم ذروتها مع سيادة حالة من التشبث ثم التخلي، البلاهة وعدم ضبط النفس لتُثار حفيظتك أملًا في غد أفضل راجيًا التحرر من عُقد إن بقيت هلكت في هوة التساؤل.
الحياة شاقة دون ألغاز لكن ذروتها تكمن في فخاخ نصبها القدر لتسقط بها وكل محاولاتك للفرار لن تُثقل سوى كاهلك متحولًا من شاب في عنفان شبابه إلى كهل يتنفس بصعوبة خوفًا من الألم.
هي..
علم مؤنث مجهول قرر خوض تجربة جديدة دون الاستماع إلى تحذيرات البقية والغاية استمتاع في رسم حدود مستقبل سوف تخطوه وحدها بعاطفة جياشة.
هي..
أنثى بمحراب العشق، اقتحمت العاصفة فجأة لتقف بمنتصفها دون خوف على أمل وجود درع يحميها من الخلف لتجد بأنها تخلت عن حمايتها بإرادتها متعللة بأنها تريد خوض التجربة وحدها، ليس لكونها امتلكت قلب الأسد فجأة وأرادت التباهي لبكُسِرَ على صخرة الألم قبل تفتته إلى حصوات من الصعب جمعها مرة أخرى.
العشق نعاني بوجوده، نعاني بغيابه لكنها اختارت النهوض وألا تكون ضحية لتلك المعاناة منتظرة شفقة أحدهم أو انتشال آخر من الضياع، قررت الانتفاض كما العنقاء من رمادها لتصبح أكثر قوة وشموخ.
تعجب من حولها ظنًا بأنها لا تنكسر بعد انتفاضتها لكنهم لم يدركوا ندبات طالت روحها حتى أدمته فقررت ارتداء وشاح يحميها من نظرات شماتة أو شفقة جراء تفتت كبريائها بجرح الخذلان وبقي لديها مهمة تجميع الفتات لبناء جسر أمان لنفسها حتى تكمل طريقها وحدها دون مذكر يشوش حياتها ثانيةً، ضاربة نبضات قلبها عرض الحائط، فـ الحبيب خذلها، القريب دمرها بنظرته، لسانه، ضحكته المنافقة ووالدها تركها لذا ستكون هي في مملكة الإناث بلا خدش..
بلا حب..
بلا قلب..
والأخير عزلته عن حياتها للأبد وبقي لديها إجبارهم بتقبل الأمر دون ثرثرة زائدة.
ستثبت لمملكة الرجال بأنها هي "قوية شامخة" دون أحدهم..
بأنها هي دون مساندته أو تشجيعه..
دون حقده أو تثبيطه..
هي لأنها اختارت أن تكون هي لا ظل تابع في مداره هو.
تلك كانت آخر كلمات حياء التي كتبتها في دفتر مذكراتها قبل إخبارها بوصول أوار وفاطيما وانتظارهم بالأسفل، بدلت ثيابها على عُجالة، رتبت أفكارها قبل تنظيم أنفاسها المضطربة وخرجت لمقابلة ضيوفها، احتضنت فاطيما بهدوء وصافحت أوار ببرود، لاحظ برودها معه لكنه تجاهل الأمر واضعًا نصب عينيه ما حدث معها مؤخرًا متعللًا بحاجتها لمزيد من الوقت حتى لا يخرج كلاهما خاسر لمكانة الآخر، جلست بهدوء على المقعد مجاورة لـ فاطيما مقابلة أوار، ابتسمت ببرود قبل قولها
- بداية ستساعدني بأمرين لا ثالث لهما.
رغم نبرتها الجافة إلى أن أوار ابتسم لعمليتها الشديدة قبل التقاط أنفاسها، عبست ملامحها قبل قولها بهدوء محذرة إياه
- سأتحدث وأرجو ألا تقاطعني.
هزات من رأسه دليل تأييده لحديثها، حثها على الاستمرار وداخله يكاد يقسم بأنها ستقول مالا يسعده لكن الغرض سعادتها، ابتسم بسخرية حينما أقر بأنه على وشك رؤية عرض أكشن ساخر هي بطلته قبل استماعه لنغمات ناشذة تصم أذنه لذا اعتمد على ضبط النفس أولًا والبرود ثانيًا في التعامل مع تلك القابعة أمامه.
أما فاطيما فكانت صامتة كتمثال تشاهد ما سيحدث بعد قليل، فوالدتها حذرتها من وضع البنزين مجاورًا للنار نظرًا لمشاحناتهم دومًا واقتراب هلاكهم إن بقيا معًا.
- شركات الأغذية الخاصة بوالدي رهن إشارتك، من تلك اللحظة  أصبحت المدير العام والمتحكم الرئيسي بكل شيء بها، القرارات تخصك من اليوم، أما أنا فأصبحت بمثابة الموتى في سجلات العائلة.
- ماذا؟!
قالها بغضب غير مستوعب ما قالته للتو، فهي على وشك إصابته بذبحة صدرية دون أن يرف لها جفن نظر لها بغضب قبل قوله بلامبالاة من حديثها
- هراء لا أكثر ولا أقل، امح تلك الترهات من عقلك السميك ذاك، فـ أوار ليس عبدًا لكِ، أرفض تلك المناصب، شركتي موجودة بالفعل ولن أوافق على حديثك ذاك.
قالها أوار بانفعال واضح على ملامح وجهه عقب تفوهها بحديث ساذج لن يرضخ له بالتأكيد، نظر لها بشرر لكنه آثر الصمت والانصراف قبل دفنها حية هي وبرودها ذاك ضاربًا وعد مساعدتها عرض الحائط، أولاها ظهره واستعد للرحيل لتبتسم بخبث قبل قولها
- أتقصد ذاك المتجر، أقل متجر بالتجمع هنا دخله أكبر من متجرك ذاك الذي تتحدث عنه وكأنك قد ملكت سلسلة بيل جيتس.
سخرية طالت كبريائه، شيطانه يأمره بضرورة الفتك بها، لم يتمهل ثانية أخرى، استدار واندفع ناحيتها، أشعلت الفتيل بغبائها، لتتحمل حرارته، وبدون وعي منه قبض على معصمها بقسوة، انتفضت من فعلته تلك، هاجمها الألم لكن أبت ملامحها إظهاره لتتحدث ببرود
- استرح أوار لست مضطرًا لفعل كل هذا، الأسهم نصفها ملك لي والنصف الآخر لخالتك ديما، نصيبها ليس لي شأن به أما نصيبي فأنا لن أجد شخص على وجه الأرض أثق به غيرك، أنت رفيق طفولتي لن تسبب لي الأذى حتى لو كان على حساب نفسك.
نبرتها باكية لينظر إليها ثانية وقد ترقرت الدموع في عينيها مع همسها المتعب
- أرجوك.
وبدون وعي منه ترك يدها بهدوء واتجه ناحية المقعد يجلس بصمت، لا يعلم لكنها تتألم مما حدث معها، كتلة البرود تلك خلفها دموع تريد التحرر، بالنهاية هي فتاة تحاول الصمود لا أكثر.
يعلم بأن خالته تحملها الذنب بموت والدها لذا اضطرت للهروب من لقاها بدلًا من الترحيب بها.
خطتها القادمة بالطبع الفرار لا يعلم وقلبه يحدثه بأن القادم أصعب بكثير، ابتسمت بحزن قبل قولها بإقرار وكأنها فهمت ما يريد قوله
- أعلم بأنك تفكر الآن عن الخطوة التالية لذا سأطلب منك شيء آخر، أريد مساعدتك في البدء بحياة جديدة بعيدًا عن هنا، أريد مكان لا أعلم به أحد فقط أنا، أريد أن أبدأ بهوية جديدة ببلد آخر، أعلم بأنه صعب لكن بإمكانك مساعدتي.
- وأنا، كيف سأبدأ من جديد وقد رهنتي وجيبي في معتقل روحك، قلبي سيغادر معك، كلماتك أدمته بسهام الفراق وكأنك تخطين كلمات النهاية للأبد دون بداية حتى، حياتي مكتملة بوجودك حتى لو بعيدة، شائبة بغيابك، لست من عشاق الدراما لكن كيف سأتركك ببلد آخر تبدئين حياتك وانا هنا أعاني ويلات الألم، مشرد على أرصفة العاشقين دون قلب هواه، لم تحبني يومًا لكن القلب اختارك.
تنهد بحرارة وعتاب بنبرة تساؤل غلفت ملامحه بألم
- كيف سأكمل طريقي بعدما تركت يدي مرتين، مرة بوجودك وأخرى بغيابك، وكلتاهما بإرادتك أيضـًا، لا تحرميني وجودك وانا أتعذب بغيابك، لم تبادليني المشاعر أو ربما لا أتذكر لكن القلب يريدك، العقل لن يمنعك، الروح تشتاقك من الآن، فقط أخبريني كيف سأكمل دونك ولن أفعل.
كانت تلك كلمات أوار التي خرجت من قلبه، لكنها لم تغادر حنجرته، لم يقو لسانه على ترجمتها، يحبها لكنه يريدها بخير حتى لا تفر منه، احتياجها إليه طمأنه بأنها لازالت تثق، لن يقف بطريقها حتى لو مُزِق هو، يريدها دون ندبات تشوه داخلها قبل خارجها، ندبات لو تمكنت لقتلتها آلاف المرات يوميًا، وبابتسامة حزينة أخبرها
- أمهليني أسبوع..
ثم نظر إليها بحنان يطمئنها بأنه حتى لو تخلى العالم أجمع عنها هو لن يفعل مهما كانت المُغريات، تنهد بخفوت قبل قوله بإقرار وقد حسم أمره من كل ما يخصها
- وبعدها تكونين ببلد آخر بهوية جديدة لتبدأ حياتكِ بمسار لن يختاره سواكِ.
قال كلماته وغادر، لتدمع عيناها ألمًا لألمه، تعلم مقدار عشقه لها لكنها فتاة حُطِم قلبها مرة على صخرة الحب ولن تسمح بأن تؤذي ندبات الماض صديق أهدته لها الأيام، لن تتحمل خسارته هو الآخر، اختفائها أمر حتمي وبعدها ينسى حبها للأبد، سيتزوج بأخرى تعوضه فراقها بعدما يتسلل حبها لقلبه، لا تعلم متى غادرت فاطيما لكنها ظلت هكذا تفكر حتى غفت على المقعد من شدة التعب، هربت لعالم آخر بلا قيود للنفس ولا حتى قيود للأحلام فقط روحك وابتسامتك، وانت قبطان سفينتك بعالم الأحلام تأمرها لترسو عند محطة بعينها لذا تذكر بأنك لا تخضع لأية قوانين في هذا العالم بمعنى آخر حر من أسر قيودك.
.............................
بحثك عن الحقيقة هو في ذات الوقت أكبر عقاب، ليس لكونك تبذل جهدًا أو طاقة لكنك وببساطة تبحث عن شيء طمسته الذاكرة، محته الأيام، دفنته الساعات وحلله التراب، مصيرك مرهون بالاحتراق بنار الماض، أو هلاكك بشظاياها، أخبرتك سابقًا بأن الأمر معقد لكنك أردت تقمص دور العنكبوت الطائر أملًا في بدء مغامرة جديدة ولم تضع في اعتبارك أنك بعد قليل ستود أن تكون تلك السمكة الفاقدة لكل شيء، حتى فاقدة اسمها، أخبرتك أن الأمر معقد لذا لا داعي لاندهاشك الآن، طالما تجرأت وتحديت ذاكرتك لمعرفة شيء تحمل لدغة عقرب الماض.
ليست من محبي القراءة، كارهه لكل ماله علاقة بها لكنها لا تعلم كيف أسرتها تلك المذكرات حينما أُرسلت إليها من مجهول، تقسم بأنها بين سطورها، يبدو بأن المرسل قد علم أنها عازفة لتقرأ بمحض إرادتها، لو علم الصِبية بأن الكوبرا تقرأ لصارت علكة تتداولها ألسنتهم، فهي ليست من محبي الحديث، ابتسمت بقسوة حينما لمحت طيف سيدها أت من بعيد، احتضنته بهدوء قبل الابتعاد سريعًا فهي حذرة من طيش هذا الرجل معها.
أما هو ضاقت نظراته من جفاؤها معه يريدها لكن برضاها حتى لو طلبت زفاف أسطوري وتكون هي ملكته الوحيدة وليست إحداهن، يعلم بأن طريقته خاطئة لكن بحسابات القلب كل شيء مباح في الحرب قبل السِلم، تخطى مرحلة القلب تلك، نظرة سريعة لذاك الشيء الآسر خلاياها والقابع بین يديها قبل أن يقول بهدوء
- لازلتِ تقرأين تلك الترهات.
وبرفعة حاجب وضيق من استخفافه بالأمر أخبرته
- تلك الترهات ماهي إلا ماض أبحث عنه منذ زمن، أردت معرفة أحداثه لكنها ظهرت فجأة دون عناء، لذا لا تسخر من شيء طالما مرتبط بي..
بملامح وجه ساخرة خرجت ضحكته لتكمل الموقف وهو يقول بحذر من طيشها الغاضب
- الكوبرا لا تحتاج دليلًا للانقضاض على فريستها، فقط كل شيء من منظورها صحيح لأنه ليس لأحدهم سلطة عليها، هي تخطط بنفس اللحظة التي تنفذ بها، فهي القوة حيث لا قوة بوجودها، الموت حيث يفر العدو من أمامها، العبوس مع قريناتها، لا تكوني مثقفة وانت تكرهين هذا الدور.
ابتسمت بهدوء لمغزى كلماته ما لبس أن تحولت لضحكة صاخبة وهي تجلس أمامه مباشرة بعدما تركت هذا الكتاب، نهضت من مكانها لتكون بالقرب منه، لتتحدث بكلمات مدروسة
- لديك كل الحق فيما تفوهت به، الكوبرا لا تحتاج دليلًا لافتراس فريستها، والفريسة لا تحتاج لأي مبرر لتخرج من ورطتها طالما وقع عليها الحد هي في عداد الموتى.
هز رأسه عدة مرات مشجعـًا إياها لتتحدث بهدوء حذر
- المحققة رانسي.
كلمات قليلة لكن وصل مغزاها له، ضحك بهدوء قبل نهوضها لإحضار فنجانين من القهوة وهروبـًا من نظراته العاشقة تلك، لا تعلم شيء عن حسابات القلب فالكوبرا لا تعشق فقط تقتل.
لا تسأل الأنثى عن شيء تعلمه جيدًا، أو لنقل بطريقة أخرى لا تسأل الأنثى عن شيء انت تعلم عواقبه جيدًا، سأصححها للمرة الثالثة بالرغم من كونها صحيحة لا تختبر الأنثى بشيء تعلم بأنها لن تبوح به بعد، لا تقول لها لِم وأنت تعلم الإجابة، للمرة الأخيرة سأقولها لا تطلب منها الابتعاد عن طريق وضعت أسسه بعقلها وبقي عليها التنفيذ، أي لنقل خطة كاملة الأركان مع وقف التنفيذ.
.....................
لا تختبر ذكاءك بشيء تعلم عواقبه جيدًا، لا تهلك ذاكرتك المحدودة بشيء سينقلب ضدك يومًا ما، لا تقل فات الأوان عن شيء كنت ضلعًا أساسيـًا بحدوثه، الحياة لعبة متشابكة الأركان، كل ركن ينقلك لمرحلة أخرى، إما تخسفك لمستوى أقل أو تترقى لآخر أعلى حسب تحصيلك واجتيازك للمرحلة الحالية، ألم أقل بأنها لعبة متشابكة الخيوط تمامًا كـ بيت العنكبوت، كل جزء مرتبط بالآخر ليكون شكلًا هندسي متماسك الزوايا، دخلت اللعبة لذا لا داعي لاندهاشك من وجودك بمرحلة ظننت أنها أقل من مستوى تفكيرك.
جلست بهدوء على المقعد المقابل له، منذ استلام رسالته وهي تفكر ما الذي وجده أبيل، عقد تلك القضية ستحل فجأة، شيفرة نهايتها قد وجدت، ابتسمت بحزن لقرب نهاية القضية، معها ستنتهي مغامرة أخرى من مغامراتها، قطع شرودها صوت أبيل قائلًا
- لم العبوس رانسي؟! القضية ستُحل قريبـًا وينتهي كل شيء مرتبط بها.
- قلتها أبيل وينتهي كل شيء، كل قضية أحزن لنهايتها يبدو بأن العيب بي فقط.
قالتها رانسي بشرود، ليبتسم أبيل بهدوء قبل قوله
- الأشرطة لم يكن بها شيء يخدم القضية تمامًا، تسرب اليأس وأحكم قبضته على قلوبنا، لكن بعد محادثتك أصبح المكان كـ خلية النحلة كل منا يقوم بمهمته الموكلة دون تقاعس أو تخاذل حتى لاحظت شيء لم انتبه له قبلًا.....
صمت قليلًا لتتحفز خلاياها لما سيقوله بعد ذلك، لم تنتبه لأغلب كلماته لكن بصمته انتبه كل ما بها لمعرفة ما سيقوله أبيل
- وقتها تذكرت كلماتك عند المخضرم، ظننت كثرة التفكير بالقضية زين لك تلك الأشياء لكن بمجرد خروج مدام اوزبكا من مكتب البريد سحب أحدهم نفس الظرف، للأسف وجهه لم يظهر في الكاميرات يبدو بأنه كان يعلم جيدًا وجود أشرطة التسجيل، بالرغم من حرصه على عدم الظهور واختيار المناطق العمياء عن العدسة لكن يده اليسرى ظهرت بالأشرطة بها وشم بالتكبير اتضح انه عبارة عن جمجمة صغيرة حولها رمز الدولار، وشم غريب لكن مميز.....
قاطعته رانسي بحماسة فقدتها مؤخرًا
- نفس مواصفاته تلك......
لم يدعها تُكمل حديثها بل أشار لها علامة الموافقة، لتطلب منه الذهاب للمكان المنشود وهي تقول
- أخيرًا وجدت الدليل، اذهب وأحضره حالًا لكن تلك المرة بأمر رسمي.
أومأ برأسه إيجابـًا قبل الذهاب حيث المكان المنشود، ظلت رانسي مكانها تفكر فيما حدث قبل فترة ولم يقتنع أبيل بقولها ظنــًا بأنها تتخيل الأمور....
Flash back. ....
بنظرات فاحصة تأملت مكتب المخضرم، عادتها ولن تغيرها، لفت نظرها شيء ما لكنها آثرت الصمت حتى الخروج من المكتب، وبانتهاء الزيارة وخروجهم أخبرت أبيل بهدوء
- لم نكن وحدنا بالمكتب؟
وبنظرات ساخرة أجابها أبيل بهدوء
- أجل، معنا الكثير من الأرواح التي تود الفتك بذاك المخضرم.
وبنظرات غاضبة وكلمات كالحمم في غضبها
- لست أمزح أبيل كان هناك رابع بالمكتب معنا، ضع بعقلك أن وقت العمل للعمل ليس للراحة أو قول تلك الترهات السخيفة.
غضبها مبرر، منذ الصباح وهو يستخف بكلماتها ظنــًا منه بأنه الهوس بتلك القضية، لذا ابتلع ريقه بهدوء قبل قوله
- دليلكِ على تلك الادعاءات؟
كلمة كفيلة لإثارة حنقها أكثر عن ذي قبل، حاولت ضبط أنفاسها الحانقة قبل قولها
- عُقْبُ السجائر بالمنفضة، سألت الطبيب أجابني بأنه لا يدخن، فنجان قهوة على أحد الأرفف رغم وجود آخر أمام الطبيب كل هذا لا يعني شيء.
- السجائر قد تكون لأحد المرضى، فنجان القهوة الفارغ قد يكون وضعه على أحد الأرفف.
قالها أبيل بعملية بحتة لتقول بنفاذ صبر من غبائه اللامحدود
- أو لأحد زواره...
ثم صمتت قليلًا قبل شرحها بعملية
- المريض لا يدخن أمام الطبيب عزيزي، بأي مكان إلا عند الطبيب، تلك القاعدة الأولى، ثانيًا فنجان قهوة آخر على يسار المخضرم، ليس بخارق على تناول كوبي قهوة بنفس اللحظة، أظنك فهمت حديثي!
- كل ما أفهمه هو هوسك الزائد بتلك القضية، أريحي أفكارك وكل شيء سيصبح على مايرام.
قال أبيل كلماته بهدوء شديد غير مكترث لتلك التي تحترق أمامه، ابتسمت بقسوة لاستهانته بالأمر لتقول بهدوء
- سأثبت لك بأن حديثي صحيح، وأنك المهووس بلامبالاة مصيرها الهلاك يومًا ما على يديَّ، تذكر لأن الوقت يمض سريعًا واللعبة تزداد تشويقـًا.
فاقت من تلاحم أفكارها على صوت صديقتها الوحيدة، ابتسمت بهدوء محاولة تجاوز تلك الدقائق السابقة، بادرتها فيولا بقولها
- أبيل سيأتِ اليوم، أريدك أن تكوني جواري بتلك الدقائق.
نهضت رانسي من مكانها لتجلس مجاورة صديقتها، ابتسمت بخبث فها قد حان الوقت لتأديب ذلك الأبيل
- صديقتي الصدوق، لا داع لحديثك فأنا جوارك بكل لحظة.
- أريدك معي بالتسوق، بتحضيرات الزفاف، بكل تفصيلة بمعنى أشمل، أريد روحك حولي، ضحكتك معي، أرجوك رانسي لا تحرميني تلك الفرحة.
احتضنتها رانسي بحب، أخذت تربت على رأسها وكتفها كطفل صغير قبل قولها
- أنتِ صديقتي لذا لا داع للرجاء، سأكون جوارك ليس لأنك طلبتِ، سأكون معك لأنك جزء من عالمي الصغير.
قالتها رانسي بشرود قبل الغوص بذكريات الماض، فهي لن تتحمل لدغات الماض لـ حاضرها أو تعكير صفو مستقبلها.
...........................
"تعلن الخطوط الجوية البلجيكية عن إقلاع رحلتها رقم ١٥٢١ المتجهة إلى بروكسل لذا على السادة الركاب إنهاء إجراءات السفر والتوجه لبوابة المغادرة، شكرًا"
"Belgian Airlines annonce le départ de son vol à destination de Bruxelles, prévu pour 1521, Les passagers sont tenus de s'enregistrer et de se libérer, Merci beaucoup"
قالتها مضيفة الطيران بحزم لتجذب انتباه الجميع باقتراب الوداع، بداية الدموع بعد الفراق، نهاية مرحلة الدفء وبداية مرحلة البرودة ببلاد لا تعلم عنها شيء إلا لغتها، حتى أفرادها لم تألفهم ذاكرتك يومًا، أراد الهروب لحضن والدته بتلك اللحظة، تمنى وجودها معه، يحتاجها الآن قبل أي وقت مضى، يريد شكواها لفراق حبيبة غادرت حياته بناء على رغبة والدها، حب فقده قبل الحصول عليه، أحبها بكل جوارحه، لم يحبها بل عشقها، من الممكن أن تؤثر شوائب الماض على علاقته بها، لا يعلم لكنه أقسم بألا يسمح للماض بتشويه حاضره أو العبث بمستقبله.
أراد الحياة فطعنه استقرارها..
أراد الحب فغدرت به سهام الحقد..
أراد البسمة فـ رافقته الدمعة..
أراد الفرحة فـ لازمه الحزن..
أراد الشيء فأصبح الألم رفيقه..
تحكم بعواطفه قليلًا، قبّل يد زوجة عمه بحزن وفعل المثل مع عمه، بادره عمه باحتضانه قبل قوله
- لستُ بأناني لأطلب منك عدم الرحيل لكن لا تهملنا بعد رحلتك وتنشغل بكل شيء عدانا، تذكر بأننا سند لك مهما حدث، لا تجعل الغربة تنسيك السؤال عنا، طفلنا ولازلت مهما حققت، تذكر بأنك سندنا بالحياة ولم يكن لدينا غيرك.
- تعلم بأن معاذ لن يكون معاذ الحالي لولا تعاليمكَ وأمي الغالية.
قالها بهدوء قبل احتضان عمه للمرة التي لا يعلم عددها وهو يقول لم يرزق بأب مثله، لكنه أباه حقـًا وليس عمه، أباه الروحي، حزين بشدة لعدم رؤيتها قبل ذهابه، سيغادر ويترك قلبه أمانة معها، أحبها ولا زال لكن للقدر رأي آخر، يعلم بأنها هنا، قلبه يناديها لكنها لم تظهر، ظل حتى آخر لحظة يقسم بأنها ستظهر لتوديعه لكن يبدو بأنها تعلمت القسوة مما حدث لها، ودع عائلته الصغيرة وغادر، مع كل خطوة يزداد يقينـًا بظهورها، تقسم دقاته بأنها ستأتي بين فنية وأخرى، تأتي مبتسمة رغم الدمعات العالقة بأهدابها، تودعه رغم تمزق نياطها، تطلب منه الرحيل سريعًا ودقاتها تستجديه البقاء، تريد معانقته للمرة الأخيرة فتعنفها يداها، ظل هكذا حتى اختفى ضمن البقية.
أما هي، وقفت بمكان بعيد تشبع خلاياها قبل ذهابه، لم تقو قدمها على السير تجاهه أو حتى وداعه، فـ الوداع قاتل لكل آمال اللقاء ثانية، تود الذهاب معه، إيقافه حتى، لكن قدرها موصوم بجريمة خسفت سعادتها.
ظلت تراقبه بنهم من بعيد علها تأسر آخر ذكرياتها معه، تعلم أنه يعلم بوجودها لكنها أجادت لعبة التخفي هذه المرة، فـ روحها اليوم تحررت من حبه، لكن أثره لا زال منقوش على حجرات قلبها، دقاتها تهتف باسمه وله فقط، حان وقت السير على رفات الماض وتلقين الحاضر درس بأنها رقيقة كنحلة العسل لكن لدغتها مميتة كحية سامة، حان وقت الوقوف لاستكمال طريقها دون تخاذل، ارتدت نظارتها الشمسية علها تخفي أثار دمعاتها، ادعت القوة وغادرت المطار بعدما اختفى عن مجال رؤيتها، جلست بالسيارة تتذكر كل جميل معه تبتسم تارة وتعبس أخرى، كشرت عن أنيابها قبل رسالة والدها الصادمة
- تجهزي غدًا عروسي، فـ أميرك سيحل ضيفـًا بالغد.
لا تعلم شعورها أو لنقل بأنها أصبحت باردة المشاعر، لم تتأثر بأي كلمة بها، يبدو بأن فراق معاذ قد أحدث فجوة بين اللاشعور والشعور لديها، لتصبح من زهرة رقيقة تتأثر بمداعبة الرياح لجبل شامخ يقف وسط العاصفة بكبرياء، استقبلت الخبر ببرود اجتاح أوصالها، لتضحك ساخرة وهي تتوعد ذلك الزوج المستقبلي، يبدو بأن جنون الحاضر سيكون من نصيب زوج أتى بغير وقته، أقسمت بجعله يكره جنس حواء بأكمله، فـ حواء أنواع، منها العاشقة، الوردية، الباسمة، دائمة الشكوى، المتذمرة، الغاضبة وغيرهن لكن احذر الاقتراب من حواء الجريحة، حواء مكسورة القلب لأنك ستقابل حواء من نوع آخر تجيد القوة لكنها ضعيفة تود تدمير كل جميل لكنها متخاذلة، ترتدي قناع البسمة لكن بسمتها ممزقة، احذر حواء الصامتة فخلف صمتها فيض من ألم لو أطلقت له العنان لدمرك عذابه.
.....................
#من_بين_الرماد
#أسماء_رمضان

"من بين الرماد"- "أسماء رمضان"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن