١

336 19 18
                                    

اكتست السماء بلون السحب الرمادية، قارب الغروب على احتلال أعنان السماء، لملمت الشمس نفسها وولت عن الأنظار، هبَّ نسيم بارد، تهتزُ له الأغصان. هجعت الحمائم في أعشاشها، احتضنت السنونو أفراخها؛ حينما أمطرت السماء. صمت مطبق يعم المكان، ولا يصدحُ غيرَ صوت نقرات قطرات المطر حينما تلاقي أوراق الشجر، حينما تحتضن الثرى وتقبل الأرض بعد غيابٍ عن أرض أور_يم؛ وعلى حين غرة، وبعد برهة من السكون لاحَ صوتٌ غريبٌ يتسابقُ معَ الريح، يصخبُ وقعَ أقدامها معَ بركِ الماء الطينية؛ تلكَ التي أحدثها الغيث الساقط.

سيماءُ الفزعِ والخوف بانت على قسماتِ وجهها، خائفة مذعورة، تلتفتُ إلى الخلف في كل لحظة، ولم تَزلْ أقدامها تعدو معَ الريحِ دونَ توقف. تبللَ خُصلات شعرها، التصق بعنقها وظهرها، وبعضٍ منه على خديها، لم يعد لفستانها الأحمر، أي بهاء أو زينة. تجلى كتفها الأيمن، كاشفًا عن ذراعها. فخدشها غصن شجرةٍ مائل مرت منه دون أن تنتبه، وبانَّ على زندها خيطٌ أحمر قانً شقَّ طريقه على عرض ساعدها.

تأوهت بوجع صامت، خَشيت أن يبلغَ صوتها مسامع من يلاحقها فيستدلوا بسهولة عليها. ومن دونِ أن تدري تعثرت بصخرة حجبتها عن ناظريها؛ ظلمة المساء التي حلت. سقطت أرضًا مرضوضة القدم، تناثر حبات عقدها الخرزي الذي كان يُزين عنقها، بعضها بلونٍ فيروزي من العقيق، وحبات أخرى من الذهب؛ وإلى جانبه، سقطت ثلاث وردات مصنوعات من الذهب الخالص، مصاغة بدقة وعناية، كل زهرة منه تحوي ثمان بتلات مقعرات، تتوسطها دائرة صغيرة ذات لون أسود، كل زهرة متماثلة بالشكل والقياس.
سقطت أغراضها على الوحل المظلم، مع جسدها المنهك. رَفعت رأسها إلى السماء بعينٍ راجية، متوسلة، تسأل الرحمة والنجدة لبدنٍ أضناه الهروب وأعياه الهلع. نهضت رغم الألم الرابض في قدميها تحاول لملمة ما سَقطَ؛ إلا أن صوت الأقدام الغاضبة التي باتت تدنو منها، أعادت لروحها الفزع، وتخلت مرغمة عن حبات العقد المتناثرة، وعادت تُجري قدميها، تُسرع الخطى وتتعثرُ بالحصى، يلج الرعب أنفاسها، يضيق الخناق عليها، والأقدام ما انفكت تقترب، وأصوات الملاحقين لها تدنو من بلوغها. التفتت إلى الوراء وعينها تكاد تَخرجُ من محجرها، أنفاسها تتسارع، هدوؤها قد تشتت، اضطراب زلزلَ داخلها، أنها النهاية... أنها النهاية تقترب منها... الأجلُ الذي هربت منه... الموت الذي يلاحقها.

اصطدمت دون أن تعي بجسمٍ ضخمٍ مقارنة بجسدها، لباسه من الدروع الحامية. نَظرت له ولا طاقة لها كي تعي ما هي فيه الآن، فتحت فمها تحاول أن تصيغ حبلَ النجاة بكلامها، لكن لسانها كان عاجز عن النطق، وعينيها التعبة كانت ترجوه خائرة القوى قبلَ أن يُغَيبَ الفزعُ وعيها، فهَوَّتْ أمامه والتقفها بين يديه قبل أن يرتطم جسدها بالأرض.
حدق بها وهي لا حولَ ولا قوة بين ذراعيه، مستغرب، مندهش، يتبادر في رأسه ألف سؤال عنها، بدت كجثة ثلجية، ترقدُ بعدَ عناء السنين. في حركة جريئة منه؛ مدَّ أصابعه، ليفتح إجبارًا أحدى عينيها؛ لقد جذبه شيء ما قبل أن تغمض، قبلَ أن تسدل جفنها، فأراد أن يتأكد! وحينما أبصرها اهتز بصره. سلبهُ لون عينيها، تلمع كالياقوت الأخضر، تسر عين الناظر إليها، تشعُ جمالًا كما اللازورد والعقيق.

الهاربة والمفاتيح المفقودة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن